البيولوجيا والتطوّر > علم المورثات والوراثة

كيف تحمي الفيلة نفسها من الإصابة بالسرطان؟

- آلية وراثية قد تكون مفتاحاً ناجعاً للتطبيق على البشر في المستقبل:

لطالما كان السرطان هاجساً يقضُّ مضاجع البشر، فهو في نظرهم أحد أسوأ الأمراض الَّتي قد تصيب الإنسان، ولطالما ارتبط اسمه لدى المرضى بيأسٍ من الحاضر وخوفٍ من المستقبل (وربما يأسٍ من المستقبل حتى)، وهم محقون في هذه المشاعر إلى حدٍّ ما. ولأمهِّد لموضوع المقالة أقول: إنَّ البطل الخارق في الخيال هو من يقهر قادةَ الشَّر وبالتالي فالبطل الخارق في عالمِ الأمراض هو من لا يصابُ بها وبطلنا اليوم هو الفيل. حيوانٌ لا يكاد يصاب بهذا المرض الخطير-السرطان- على الإطلاق، فما هي الآلية البيولوجية التي يحمي بها الفيل نفسه وهل يمكننا الاستفادة منها لحماية أنفسنا من هذا المرض؟

في البداية سنعرّف السرطان ببساطة على أنَّه التكاثر غيرُ الطبيعي للخلايا، فالخلايا الطبيعية تخضع لما يسمى "الموت المبرمج" أي أنَّ الخلايا تموت بعد عددٍ معينٍ من الانقسامات، أمَّا الخلايا السرطانية فهي لا تخضع لهذه الآلية.

ولمن أراد أن يتوسع في الموضوع فهناك سلسلةُ مقالاتٍ مفصلة عن السرطان : هنا.

لماذا إذاً لا تصاب الفيلة بالسرطان؟ هذا السؤال ليس حديث العهد بل يعود في الواقع إلى سبعينات القرن الماضي حين سلَّط عالم الوبائيات ريتشارد بيتو، من جامعة أوكسفورد، الضوء عليه، حيث لاحظ أنَّ حجم الحيوان أو عمره لا يُظهِرُ ارتباطاً قوياً مع نسبة الإصابة بالسرطان (فالفيل الكبير على سبيل المثال لا يملك فرصةً أكبر للإصابة بالسرطان من الفيل الأصغر عمراً والحيوان الكبير الحجم كالفيل أيضاً ليست لديه فرصةٌ مختلفةٌ عن تلك التي تخص حيواناً صغيراً كالفأر للإصابة بالسرطان).

لكنَّ هذا لا يبدو منطقياً من الناحية البيولوجية للوهلة الأولى، فالحيوانات الأكبر حجماً أو عمراً تخوض خلاياها انقساماتٍ أكثر عدداً وبالتالي لديها فرصةٌ أكبر للإصابة بطفرةً تحوِّلها إلى خليةٍ سرطانية. دعا هذا الأمرُ العالمَ "بيتو" إلى افتراض وجود آليةٍ بيولوجيةٍ أساسية تحمي الفيلة من هذا وسميت هذه الإشكالية بـ "مفارقة بيتو".

ربما نستطيع أن نقول اليوم أننا نعرف حلَّ هذه المشكلة من ورقتين بحثيتين نُشِرَتا منذ فترةٍ قصيرةٍ (بشكلٍ مستقلٍ عن بعضهما)، حيث وجد الباحثون أنَّ الفيلة تملك عشرين نسخةً من جينٍ يٌسمى TB53 بينما لا يمتلك البشر سوى نسخةٍ واحدةٍ منه.

يُعرَف هذا الجين على أنه مُثبط (مُضعِّف أو مُوْقف) للأورام (التكاثر المرضي الشاذ للخلايا والذي يؤهبها للإصابة بالسرطان)، فإذا ما أصاب الخليةً ضررٌ في المادة الوراثية الخاصة بها (وهو ما يؤهِّبها لتكون خلية سرطانية) فإنَّ هذا الجين يعمل للإشراف على صناعة بروتينات مهمتها إصلاح الضرر أو قتل الخلية المؤهَّبة لتشكل سرطاناً في بعض الحالات مما يحمي الكائن من الإصابة بالسرطان (وبتعبيرٍ أدق: يقلِّل فرصة الإصابة بالسرطان).

قصة الفيلة:

لحلِّ هذا اللُّغز يجب أن نعود سنواتٍ إلى الوراء لنقابل العالم وطبيب الأطفال المختص بالسرطان Joshua Schiffman الذي كان يعالج الأطفال الذين فقدوا أحد الأليلين* اللذين يتواجد عليهما الجين TB53، حيث تؤدي حالة الفقدان هذه إلى فرصٍ عاليةٍ للإصابة بالسرطان. فأثناء حضوره أحد المؤتمرات التي تخصُّ التطور عَلِمَ من السيد Carlo Maley أنَّ فيلة أفريقيا تملك 20 نسخةً من الجين المذكور وعندها تساءَل إذا كانت الفيلة تملك آليةً لمساعدة مرضاه المصابين بالسرطان، فتواصل مع السيد Maley وطلب من المسؤولين عن حدائق الحيوان أن يعطوه عيناتٍ من دم الفيلة ليدرسَ تأثير البروتينات التي يُشرف جين TB53 على صناعتها، ليتسنى له دراسة تأثير هذه البروتينات على الخلايا البيضاء الخاصة بالثدييات.

هذه كانت قصة الورقة البحثية الأولى (والتي لم ننته منها بعد)، أما الثانية فهي تخصُّ عالم الجينات التطوري Vincent Lynch الذي كان يتجهَّز لمحاضرةٍ عن المشكلة التي طرحها "بيتو" (العالم الذي تحدثنا عنه في البداية والذي أشار إلى عدم وجود علاقةٍ قوية بين حجم أو عمر الحيوان وفرصة الإصابة بالسرطان) حيث قال صديقنا السيد Lynch: "قبل أن ألقي المحاضرة، بحثت في جينوم الفيل عن الجين TB53 ووجدت عشرين نسخة!".

وقد نُشِرت الدراستان سابقتا الذكر بشكلٍ مستقل، الأولى في مجلة American Medical Association واالثانية في bioRxiv.org

ولنعد الآن إلى القصَّة الأولى: فبمراجعة سجل وفيات الحيوانات (والتي شملت حيواناتٍ من الفأر إلى الفيل) لم يجد فريق العالم Schiffman أيَّ ارتباطٍ بين حجم الحيوان وفرصة الإصابة بالسرطان (فمن مئات حالات وفيات الفيلة 3% فقط ماتوا بالسرطان). وقد وجد العلماء في هذا الصدد أنَّ دم الفيلة يحوي نسخاً إضافية من بروتين TB53 (الذي يُشرف على تصنيعه جين TB53) وخلاياه أكثرُ حساسيةٍ لتضرر المادة الوراثية DNA الناتج عن الإشعاعات المؤيِّنة (أي أنَّ الإشعاع يسبب تضرر المادة الوراثية مما يؤهب للإصابة بالسرطان لكن خلايا الفيلة عالية الحساسية لهذا الضرر).

وبالتالي فإنَّ خلايا هذه الحيوانات تخضع لتدميرٍ خلويٍ مبرمج عندما يتضرر الـ DNA بمعدَّلٍ أعلى بكثير من ذلك الذي يخصُّ البشر، وباختصار فعوضاً أن يتمَّ إصلاح الضرر في المادة الوراثية فإن هذه الخلايا (التي تضررت مادتها الوراثية) تقتل نفسها كي لا تقوم بالانقسامات العشوائية التي تؤدي إلى السرطان، يبدو هذا حلاً معقولاً لـ "مفارقة بيتو".

هذا ما تقوله لنا فيلة اليوم، فماذا عن الماموث المنقرض؟

لقد توصل فريق Lynch’s لنتائج مماثلة للدراسة التي ذكرناها قبل قليل لدى دراستهم الخلايا الجلدية الخاصة بالفيلة. وقد وجدوا أيضاً لدى نوعين منقرضَين من الماموث 12 نسخةً من جين TB53 لكنَّ نسخةً واحدة فقط وُجِدت لدى أقارب الفيلة (بالتحديد خروف البحر Manatees والثدييات الوبرية Hyraxes)، فما سبب ذلك؟

يتوقع فريق البحث أنَّ النُّسخ الإضافية من الجين قد نشأت أثناء تطور السلالة التي أعطت الفيلة (بينما النوعان الآخران المذكوران-خروف البحر والوبريات- فهما من سلالة أخرى قريبة) ومع ذلك فإنَّ الفريق يعتقد بوجود آليات أخرى.

ويوافق عالم البيولوجيا السرطانية Mel Greaves على أنَّ الجين المذكور لا يمكن أن يكون الآلية الوحيدة للحماية من السرطان. فعندما تكبر الحيوانات تصبح أقل حركةً وبالتالي ينخفض معدل استقلابها (عمليات بناء وتحطيم المواد الكيميائية في الجسم) وبالتالي تنقص سرعة انقسام الخلايا.

وأخيراً تقوم الآليات المختلفة بالكثير لإيقاف السرطان. لكنه يتساءل أيضاً : "ماذا سيحدث للفيلة لو دخنت وتناولت غذاءً سيئاً، هل ستكون محمية من السرطان؟" ثم يجيب على هذا السؤال قائلاً " أشك في ذلك".

الحاشية:

*يحصل الإنسان على نصف المورثات –الجينات – من أمه وأبيه (نصف من أمه ونصف من أبيه) وتكون هذه الجينات موجودة على شكل صبغيات(بالتالي نصف الصبغيات من الأب والنصف الآخر من الأم) وبالتالي تكون المورثة المسؤولة عن وظيفة معينة في الجسم على شكل نسختين إحداهما من صبغيات الأب والأخرى من صبغيات الأم أي على "أليلين" وعندما تتعرض إحدى النسختين لمشكلة -كأن تكون غائبة- قد تحدث مشاكل تخص الوظيفة التي تشرف عليها الجينات وهذا ما يحدث مع الأطفال الذين يملكون أليل واحد للجين TB53.

المصدر: هنا

مصدر الحاشية: Color Atlas of Genetics، 3rd edition، Thieme