الموسيقا > موسيقا

تحية كاريوكا ... آخر عظماء الرقص الشرقي

هي نصٌّ ما من سبيلٍ على الإطلاق لعبوره وإهماله وإخفائه، أو التَّنكر له ومجافاته والتحايل عليه، إنَّها نصٌّ كامل ومنجز في الإطار النصي- الثقافي الذي يحرك ميداناً كاملاً من الأفكار والعلاقات، هي التي حوّلت الرقص إلى فكرٍ، كما حوّلت الجسد إلى لوحات تشكيلية فلسفيّة، الفنانة التي تجاوزت الإيقاع، ليس الإيقاع الموسيقي وحده وإنّما الإيقاع التشكيلي الذي أجبرته على التماهي فيها، وأثبتت أنَّ فنَّها ورقصها كانا ينبعان من داخلها، إنَّها أيقونة الثقافة المصرية (تحيّة كاريوكا).

تَأثُّراً بشخصيتها الكاريزميه كتب أكثر من كاتب ومثقف عربي العديد من الدراسات عن تحيّة كاريوكا أهمها على الإطلاق الدراسة التي كتبها المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد.

قال عنها إدوارد سعيد: "إنَّ تحيّة كاريوكا تنتمي إلى عالم النساء التقدميات اللواتي يحاذين أو يتجاوزن الأسوار الاجتماعية ظلت مرتبطة على نحو عضوي بمجتمع بلادها، وهي مثل أم كلثوم تحتلُّ موقع الرمز المرموق في الثقافة الوطنية"، ويقول الكاتب سليمان الحكيم: "لم يكن المفكّر إدوارد سعيد وحده من وقع في غواية كاريوكا وشخصيتها الطاغية، حيث سبقه إلى ذلك عدد من المفكرين والكُتَّاب منهم سلامة موسى ومصطفى أمين، وصالح مرسي الذي ألَّف كتاباً عنها، كذلك محمد عبد الوهاب الذي كتب مقالاً يقول فيه: إنَّ كاريوكا حرّرت الرقص الشرقي من تأثير الأجنبيات، ومثلها في ذلك مثل سيد درويش الذي حرّر الموسيقى المصرية من تأثير الأتراك".

فكما اعتبرها إدوارد أروع راقصة شرقية على الإطلاق، وإنَّها تجسيدٌ لنوعٍ من الإثارة بالغ الخصوصية ماجعلها أنعمَ الراقصات وأبعدهن عن التصريح، كما جعلها في الأفلام المصرية نموذجاً واضحاً أشدّ الوضوح للمرأة الفاتنة المغوية التي يفتك سحرها بالناس، هي أعلم وأذكى وأشدُّ انفتاحاً من أن يحتملها أي رجل في مصر المعاصرة.

في شباط عام 1919 انبعثت الصرخة الأولى لطفلةٍ قُدّر لها أن تصبح واحدةً من أشهر نساء مصر، ولدت في مدينة الإسماعيلية، واسمها الحقيقي (بدوية محمد كريم)، توفِّي والدها فأخذها جدها وبعده ذهبت لمنزل أخيها، بعد ذلك انتقلت بدوية إلى القاهرة وبدأت في ممارسة الرقص والغناء والتمثيل في سنٍ مبكرة حتى اكتشفتها الراقصة محاسن ثم تعرفت على الراقصة الشهيرة بديعة مصابني (لبنانية الأصل)، وانضمت إلى فرقتها التي كانت تضمُّ فريد الأطرش ومحمد فوزي وعبدالمطلب وعبدالعزيز محمود وعبدالغني السيد، ومن الراقصات: حكمت فهمي وسامية جمال وغيرهما، ومن الموسيقيين محمود الشريف، وكان أول ظهورٍ لها عام 1936 في حفل زفاف الملك فاروق، حيث غنَّت أمّ كلثوم ورقصت تحيّة.

تعلّمت تحيّة رقصة «الكلاكيت» من الفنان روجيه، والرقص الشرقي من الراقصة المصرية حورية محمد، والصاجات من نوسة والدة الراقصة نبوية مصطفى، وعملت على إعادة الـهارمونيا الشرْقيّة القديمة في الرقص، وهو الأسلوب الذي تأسَّست عليه مدرسة كاملة، في مقابل مدرسة سامية جمال الإيقاعية.

لمعت شهرتها الحقيقية عام 1940 عندما طلبت من مصمم الراقصات الأسباني (ديكسون) أن يصمِّم لها رقصةً خاصة بها، فصمم لها رقصة الكاريوكا المستوحاة من التراث البرازيلي، ومن هنا عُرفت براقصة الكاريوكا، بعدها أطلقت عليها بديعة مصابني اسم تحيّة وقدَّمتها في أحد عروض سليمان نجيب، والتصق اسم هذه الرقصة بها حتى بات ملازماً اسمها، وعُرفت تحيّة بأنَّها آخر العظماء في تاريخ الرقص الشرقي.

كان أول ظهور سينمائي لها عام 1942 في فيلم (الستات في خطر) وفي منتصف الخمسينات اعتزلت كاريوكا الرقص الشرقي وتفرَّغت للسينما حيث شاركت في عدد ضخم من الأفلام السينمائية البارزة التي حملت بصمتها الفريدة والتي تميّزت بها من خلال استعراضاتها الراقصة المتميزة وشاركت في أفلامٍ عديدة أبرزها (خلي بالك من زوزو، سماره، لعبة الست، شباب امرأة، سوق النساء، أم العروسة وشاطئ الأسرار، وداعاً بونابرت)، وكان ظهورها في فيلم (اسكندرية كمان وكمان) دليلاً جديداً على شجاعتها الفنية، حيث ظهرت بشخصيتها الحقيقية وبدون أيِّ تجميل، وقدَّمت أفضلَ ما عندها، وسجَّل الفيلم نضالها النقابي في تلك المرحلة المتأخرة من حياتها، كما قدّمت مع زوجها السابق فايز حلاوة عدداً من المسرحيات الشهيرة منها (روبابكيا ويحيا الوفد).

إنَّ شخصية تحيّة أثَّرت في إحدى روائع المسرح الاميركي، وهي مسرحية (ذات يوم شرقي)، لم تكن مجرد جسدٌ نابضٌ بالبياض، كانت تعبيرات وجهها تطلُّ لتضيء من خلال الرقص، بدلع طبيعي، وفتنّة تصاحب فتنّة الجسد الذي يهتز ليبهر المشاهد، وكان يظهر عليها اعتناء واضح بجسدها من خلال إبقائه في وزن مثالي محدد لا يزيد ولا ينقص كي يظلَّ صورةً من صور الانسجام والتناسق المطلوبين ليس في جسد الراقصة فحسب بل والممثلة والمرأة الجميلة عموماً.

في مراحل الازدهار المصري، أواخر حكم الملك فاروق، برز ما يسميه سعيد: ثقافة الفتيات الرخيصات حيث كانت تخضع الفتاة للمزايدة: من يدفع أكثر، وكانت الراقصات أكثر عرضاً وطلباً.

هذه الثقافة أنتجت عشرات الراقصات اللواتي يحملن اسم زوزو وفيفي..في هذه الفترة خرجت تحيَّة كاريوكا خارج هذا السرب، لتؤسسَ لثقافةٍ ترى أنَّ الرقص فنٌّ راقٍ كالشعر والموسيقى..وأنَّ الراقصة فنانة وليست سلعة، وتحيّة التي جعلت من الرقص الشرقي تعبيراً عن الجسد، تلتمع في عينيها ابتسامةٌ دائمة، لذا قد اعتبر إدوارد أنَّ علامة خروج تحيّة عن هذه الثقافة الرخيصة هي بسمتها التي يقول إنَّه "ما من مرة رأيتها ترقص في الأفلام الخمسة والعشرين أو الثلاثين التي شاهدتها إلا وكنت أعثر على تلك البسمة، إنَّها رمزٌ لتَمَيُز تحيّة في تلك الثقافة" ويعتبرها سعيد أنَّها تقف في قلب النهضة المصرية إلى جانب نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وطه حسين وأم كثوم وعبد الوهاب والريحاني، من هنا فإنّه يشعر بـ«خيبة أمل» من قيامها ببطولة مسرحية (يحيا الوفد) الهزلية جداً، وقد اعترفت تحيّة في لقاءٍ مع سعيد بأنَّ آخر أزواجها فايز حلاوة هو الذي ورَّطها في تلك المسرحية السيئة التي قام بتأليفها وكانت تفاخر أمام سعيد بأنَّها كانت على الدوام منتمية إلى اليسار الوطني.

كانت شخصية معتزة بنفسها متفردة بتصرفاتها ولها باعٌ طويل في المعترك السياسي، خلال الانتداب البريطاني قامت بتهريب الضابط أنور السادات في سيارتها وخبَّأته في منزل عائلتها في الإسماعيلية، لما قامت ثورة ٢٣ تموز ١٩٥٢ قالت جملتها الشهيرة: «ذهب فاروق وهايِجي بعده فواريق» وهي العبارة التي دفعت ثمنها مائة يوم حبساً في سجن الاستئناف بعد أن اتهمت مع زوجها مصطفى كمال صدقي بالانخراط في تنظيم سياسي يساري معادٍ للثورة، وعندما تردَّد إليها المخرج حلمي رفلة لزيارتها ألقي القبض عليه، وفي السجن أطلقت على نفسها لقب (عباس) وهو اسم حركي كان يناديها به زوارها، ومثلما ثارت خارج الأسوار، أعلنت الغضب بداخل السجن ضد التعذيب والاشغال الشاقة، فقد عُرف عنها تماسكها وشجاعتها في مواجهة فترة السجن فقامت في سجن النساء بنشاطٍ لمحو الأمية.

كما أنَّها لعبت دوراً سياسياً بارزاً حيث أُلقي القبض عليها أكثر من مرة بسبب نشاطها السياسي السري، فقد كانت قريبة من المثقفين والسياسيين المعارضين والكُتّاب اليساريين، بل إنّها انخرطت في (الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني) الشيوعية (حدتو).

وتزعمت تحيّة تظاهرة الفنانين التي توجهت إلى القصر الجمهوري في عهد الرئيس حسني مبارك للاحتجاج على تعديل قانون ١٠٢ الخاص بالنقابات الفنية، وأعلنت وزملاؤها إضراباً عن الطعام لم ينتهِ إلا بعد موافقة الرئيس على مطالبهم، تربّعت تحيّة لعقودٍ على عرش الرقص في مصر. ويقال إنّها تزوجت ١٢ مرّة أشهرهم رشدي أباظة، ومحرم فؤاد وفايز حلاوة.

وحين صوّرت نبيهة لطفي فيلمها عن تحيّة، تجلّى المزيد من غواية هذه الأخيرة في عيون المثقفين والكُتَّاب والرسامين، فتقاطرت الأقلام التي تكَتَّبت عن جوانب مهمّة في حياتها، وليس أقلّها علاقتها بالسياسة والرؤساء واليسار المصري، يتضمَّن فيلم نبيهة لطفي شهادات من محبِّي الراقصة الراحلة منهم الفنان التشكيلي عادل السيّوي الذي رسم تحيّة في أكثر من لوحة، والروائي صنع الله إبراهيم، والمفكر الراحل محمود أمين العالم، والكاتب رفعت السعيد، والمخرج الراحل يوسف شاهين، والكاتب صلاح عيسى وغيرهم. ولعلّ سيرة حياتها تؤكد أنَّ عشقها للرقص فطري تمَّ تطويره في الدروس التى تلقتها فى مدرسة وملهى بديعة مصابني.

وفي نهاية حياتها اعتكفت في المساجد وتلقّبت بـ(الحجة) واكتفت بورع العجائز الذين يرتقون معارج العمر الأخيرة بنسيج من حكمة النهاية والاكتفاء الذي يبلغ مرتبة العشق.

رغم تراقص الأيام وزهوها في فكرها وجسدها، بدأت شموعها تنطفئ حين عزفت عن الرقص، وانطفأت تلك الشمعة تماماً حين انتهت أيام العمر لترحل عن نبض الحياة في 20 أيلول عام 1999 عن عمرٍ يُقارب الثمانين.

المصادر:

هنا

هنا

هنا