الرياضيات > الرياضيات

السطوح غير الموجهة

قبل إدراك مفهوم السطح غير الموجه يجب تحديد مفهوم السطح بشكل دقيق. قد يبدو للبعض أن الأمر بغاية البساطة، ولكن إذا اعتمدنا على تعريف السطح الرياضي فسيكون الجواب أنه منطوٍ ثنائي البعد! ولكن ما هو المنطوي أصلاً؟!

في الأساس، المنطوي (Manifold) هو عبارة عن أي شكل، قد يتبادر بالذهن في البداية الأشكال التالية: دوائر أو مربعات أو مثلثات، ولكن هذه الأمثلة محدودة جداً. إن المنطوي هو أي شكل يمكنك أن تتخيله، حتى ولو شعرت بأنه خياليّ جداً ولا يمتلك اسماً معروفاً، وكما أنه ليس بالضرورة أن يكون لجميع الأشكال نفس عدد الأبعاد، فعلى سبيل المثال، للمربع بعدان: الطول والعرض، وللمكعب ثلاثة أبعاد: الطول والعرض والعمق (الارتفاع)، ولكن كليهما يُدعيان بـ"شكل"، كذلك بنفس الطريقة يمكننا القول أن المنطوي قد يكون أحادي البعد (خط منحني)، أو ثنائي البعد (أي سطح ثنائي البعد)..

حسناً، وفق كلامنا هذا، الدائرة هي "منحني"، أي أنها منطوٍ ذو بعد واحد، ولكن لرسمها نحتاج لبعدين! كيف هذا؟ ألا يبدو هذا تناقضاً؟

لنوضح الفكرة أكثر.. عندما نقول أن المنطوي ذو بعد واحد فالمقصود أن كل جزء صغير جداً من المنطوي ييدو كالخط. أي أن توبولوجيا المنطوي ذات البعد الواحد هو عبارة عن خط، أما توبولوجيا منطوٍ ثنائي البعد عبارة عن سطح، والمنطوي ثلاثي البعد لديه توبولوجيا محلية في فضاء ثلاثي البعد.

قد يبدو هذا الكلام غامضاً، لذلك سنعطي مثالاً من الحياة الواقعية:

لنعتبر أن الأرض كروية ملساء تماماً (اي لا يوجد جبال وهضاب ومباني و.. ). فإذا تخيلنا أننا نمشي عليها، كيف يمكننا أن نتأكد أن الأرض كروية؟ نحن نعلم ذلك لأن العلماء استطاعوا إثبات ذلك، وأصبح الأمر بديهياً لنا. ولكن من مكاننا هذا حيث نقف، تبدو الأرض مسطحة! وهذا ما كان يعتقده العلماء القدماء لآلاف السنين، وهذا يبين مقصدنا عندما نقول أن الكرة أو أي منطوٍ ثنائي البعد لديه توبولوجيا محلية هي عبارة عن سطح.

لنعرف أكثر عن مفهوم التوبولوجيا والمنطويات بإمكانكم قراءة المقال "ما هي التوبولوجيا؟" :

هنا

السطوح غير الموجهة:

الآن بما أننا تعرفنا على المنطويات، يمكننا طرح السؤال التالي: ما هي السطوح غير الموجهة؟

أحد التعريفات المتداولة هي أن المنطوي غير الموجه يملك مساراً "مستقيماً" يجعل اي نقطة (شيء/كائن) ينتقل من خلاله يعود إلى نقطة البداية كأنه انعكاس مرآة لوضعه الأوليّ، أي أنه سيكون واقفاً عند نقطة الانطلاق ولكن بالجهة المعاكسة التي مشى فيها في البداية!

بالعودة للكرة، وأخذ الأرض مثالاً، إن انطلقت من مكان ما منها، ووجهك متجه نحو الشرق، ودرت الكرة الأرضية دورة كاملة، ستعود إلى نقطة البداية ووجهك ما زال متجهاً نحو الشرق لذا تعتبر الكرة سطحاً موجهاً، وكذلك المشي في اي اتجاه على الكرة سيعيدنا إلى نقطة البداية.

عندما يكون للسطح أو المنطوي هذه الخصائص نقول عنه أيضاً أنه غير محدود. ولكن الكرة لها حدود/حواف للحيز الذي يحيط بها، ولكن هذا الفضاء الذي تحصره لا وجود له. تخيل أنك كائن ثنائي البعد من الذين يعيشون في سطح كرة (الأرض مثلاً) لن يكون لديك تصور عن مفهوم فضاء ثلاثي البعد الذي قد يتواجد خارج العالم الذي تعيش فيه. سوف يبدو العالم بأكمله ببساطة مثل مستوى لا نهائي. ولذلك، فإن الكائن ذي البعد الثنائي الذي يعيش في سطح الكرة يعتقد حقاً أن عالمه ليس له حدود، رغم أن لديه مساحة محدودة.

لننتقل إلى شكل آخر يعتبر ايضاً سطحاً موجّهاً وهو الحلقة (الإطار). سيخطر في ذهنكم الدونات ولكن الشكل التالي يعتبر ايضاً حلقة:

الشكل السابق يدعى إطاراً مسطحاً رغم أنه لا تبدو كالإطار، ولكنه يملك البنية الأساسية المكونة للإطار. فلو تم إلصاق الجانبين للسهام المتناظرة معاً، سوف ينتهي الشكل إلى دونات. طبعاً باعتبار أنه عند الذهاب إلى كل جانب من الإطار المسطح يمكن العودة إلى نفس المكان على الجانب المعاكس.

نلاحظ أن الإطار المسطح (الشكل اليساري في الصورة التالية) لديه نفس الخصائص الإطار المطوي (الشكل اليميني في الصورة)، وبعبارة آخرى، لهما نفس التوبولوجيا. سيكون من السهل شرح بعض الأمور في الإطار المسطح من الإطار المنطوي، لذا من الآن فصاعداً عندما نقول إطاراً فإننا نعني الإطار المسطح.

والإطار غير محدود كالكرة، فعندما نقف مقابل الحافة سنعود إلى الجانب المعاكس لها لذلك من المستحيل مغاردة السطح. ماذا لو قمنا بتغيير الإطار بحيث لا يمكننا الذهاب للأعلى أو للأسفل؟ أي أننا سنقوم بإلصاق الجانبين الأيمن والأيسر معاً فقط لنحصل على اسطوانة (الطريقة بالصورة). وبذلك أصبح للأسطوانة حدّان،حدٌّ من الأعلى وحدٌّ من الأسفل.

لو قمنا بتغيير رسم الأطار ليبدو كما في الشكل التالي:

نلاحظ أنه تم وصل الجانبين الأيمن والأيسر من هذا السطح. فإذا غادرت المربع من جانب الجزء العلوي للحافة اليسرى ستعود من جانب الجزء السفلي للحافة اليمنى، بالإضافة أنك ستكون بعكس المرآة رغم أنك تقابل نفس الطريق الذي كنت به سابقاً (إي تقابل الحافة اليسرى)، حيث أن اليد التي كانت في السابق يسرى هي الآن يمنى وبالعكس. وهذا السطح هو أول سطح غير قابل للتوجيه.

هذا السطح هو سطح شهير يدعى شريط موبيوس هنا . والشيء المميز بهذا الشريط أننا يمكننا أن نبنيه بسهولة في الواقع ( سوف نرى فيما بعد أن معظم الأسطح غير الموجه لا يمكن أن يتمّ تمثيلها في الفضاء ثلاثي الابعاد) حيث يمكننا أخذ شريط من الورقة ونربط طرفيها بشكل ملتف فيصبح لدينا شكل شبيه بالصورة التالية:

ونلاحظ أنه اذا مشى كائن ما على شريط موبيوس سوف يعبره بكامله (الوجهان) ويعود في النهاية إلى المكان الذي بدأ منه (لأنه يمتلك سطحاً واحداً).

في الواقع كل سطح (أو أي منطوي) لديه شريط موبيوس في بنيته هو سطح غير موجه. المثال التالي قد يساعد على الإدراك ما نعنيه

هذا السطح مشابه لشريط موبيوس إلا إنه في هذه الحال تم ربط القسم العلوي والقسم السفلي معاً كما فعلنا في الإطار. يمكننا اعتبار هذا السطح أنه إطار يحوي شريط موبيوس. وإذا قمنا بمحاولة بناء هذا السطح في الفضاء ثلاثي الأبعاد سوف نجد أنّ ذلك مستحيل، حيث لا يمكن بناؤه دون حصول تداخل ذاتي. أما إذا كنا في فضاء رباعي يمكننا بناؤه بسهولة.

ويدعى هذا السطح بزجاجة كلاين هنا وهي جسم لا يمكن أن تجسيده في فضاء ثلاثي، إلا أنه يمكن إسقاطها في فضاء ثلاثي الأبعاد من فضاء رباعي الأبعاد باستخدام أجهزة الحاسوب. ووطالما سيحصل تقاطعت/تداخات ذاتيّة عند إسقاطها فسوف ينتج نماذج ثلاثية الأبعاد لهذه الإسقاطات. وهنا مسقطان مختلفان للزجاجة تمّ توليدهما بواسطة الحاسوب:

إن زجاجة كلاين لديها تأثير المرآة العاكسة تماماً، مثل شريط موبيوس ولكن لديها خاصية آخرى وهي عدم وجود حدود/حواف لها فيمكنك التوجه لما يبدو أنه حافة ولكنك في الحقيقة لن تصل إليها ابداً.

لنأخذ سطحاً آخر غير موجه قبل الانتقال إلى المنطويات ثلاثية الأبعاد. سوف نطلق على هذا السطح مستوي الإسقاط “Projective Plane” الذي يمكن بناؤه بطرق مختلفة. أحد الطرق هو أخذ مستوي زجاجة كلاين وربط حوافها الملتوية العلوية والسفلية بالإضافة للحواف اليمينية واليسارية كما يلي:

أيضاً هناك طريقة أخرى لنموذج مستوي الإسقاط، يتم تمثيل هذا النموذج من خلال نصف كرة ووصل كل نقطة من الحافة بالنقطة المقابلة لها على الحافة بشكل ملتوي. كما هو موضّح في الصورة:

إن مستوي الإسقاط مثل زجاجة كلاين لا يوجد لديه حدود/حواف ولا يمكن أن يتم تجسيده في فضاء ثلاثي الأبعاد من دون تقاطع ذاتي. الصور التالية المأخوذة من الحاسوب لمستوي الإسقاط في الفضاء ثلاثي الأبعاد، حيث ينتج أشكال مختلفة مثل سطح بوي و رومان وكروسكاب:

حتى الآن كنا قد تحدثنا فقط عن منطويات ثنائية الأبعاد، ولكن بالتأكيد هناك منطويات ثلاثية الأبعاد. سوف نبدأ بالمنطويات الموجهة أولاً.

في الفضاء ثنائي البعد قمنا بتمثيل الإطار كمستطيل لتمثيل فضاء هذا المنطوي، وسمى علماء الرياضيات هذا المستطيل بالمجال الأساسي لهذا الفضاء. لذلك سوف نستخدم المكعب كمجال أساسي عندما ندرس المنطويات ثلاثية الأبعاد.

باعتبار المكعب صلب (من المهم تأكيد على أن المكعب صلب أو أننا نتحدث عن الفضاء الذي بداخل المكعب وليس فقط سطح المكعب)، المكعب نفسه هو منطوي ثلاثي مع وجود حدود بكل جوانبه. والآن ماذا لو قمنا بوصل الجدار الأيمن مع الجدار الأيسر؟ ثم قمنا بالمشي من خلال الجدار الأيمن، سوف نعود إلى المكعب من خلال الجدار الأيسر، والمضحك هو أنه يمكنك أن تلعب لعبة التقاط شخص مع نفسك. ايضاً رمي الكرة نحو الجدار الأيمن تجعلها تدور حوله و القبض عليها عندما تأتي من خلال الجدار الأيسر. يمكن ايضاً ربط الجدار الأمامي بالجدار الخلفي والجدار العلوي بالجدار السفلي. وهذا المنطوي يسمى " الاطار الثلاثيّ".

إن "الاطار الثلاثي" ليس له حدود، أي إذا كنا نعيش في هذا المنطوي سوف يبدو لنا الفضاء لا نهائيّاً. من الناحية النظرية يبدو كوننا إطاراً ثلاثيّاً حيث يبدو غير منته، وكما في تجسيد الاطار المسطح في المستوي، لا يمكننا ايضاً تجسيد الإطار الثلاثي في فضاء ثلاثي الأبعاد. وبشكل عام المنطوي غير المحدود لا يمكن أن يتم تجسيده في نفس البعد الذي تتكون منه توبولوجيته المحلية.

ولكن ماذا لو أردنا بناء منطوي ثلاثي الأبعاد غير موجه. كيف لنا القيام بذلك؟ في البعدين نقوم بوصل حواف المستطيل عكس بعضهما، وبنفس الطريقة يمكننا القيام بذلك في الفضاء ثلاثي الأبعاد. حيث توجد طريقتان لإحداث تأثير عكس المرأة الذي يجعل المنطوي غير موجه، اما بوصل الوجوه "وجهاً الى وجه" أو وصلها بشكل معكوس "وجه مع وجه خلفيّ".

مثلاً من خلال وصل الوجوه المتقابلة للمكعب وجهاً الى وجه، فلو وصلنا الوجه الأمامي بالخلفي من المكعب وخرجنا من الجانب الايمن للجدار الخلفي، سنعود من الجانب الأيسر للجدار الأمامي. ونكون ايضاً بحالة تأثير عكس المرآة.

وكذلك نفس المبدأ عند وصل الوجهين العلوي والسفليّ فإذا خرجنا من الوجه الخلفي ونحن واقفين سنعود من الوجه الأماميّ بالمقلوب "الرأس للأسفل".

ولكن هل يمكن أن نتخيل ما الذي يحدث إذا وصلنا كل زوج متقابل من الجدران وجهاً الى وجه او بشكل معكوس؟ الشيء المثير الذي سوف يحصل هو أننا لن نحصل على تأثير عكس المرآة لآن الحصول عليه مرتين سيعيدنا إلى وضعنا الطبيعي. ومع ذلك، إذا قمنا بدوران بدرجة 180، سوف نكون رأساً على عقب ولكن سوف تكون يدنا اليمنى لا تزال على الجانب الأيمن.

حتى الآن ناقشنا فقط ربط طرفين متقابلين ضمن مجالنا الأساسي ولكن لا مانع بأن نربط الجدار الامامي للمكعب بالجدار الأيمن. كما ترون فإن هذا يفتح العديد من الإحتمالات الأخرى لأشكال المنطويات. ايضاً يوجد شيء اسمه الفضاء الثلاثي الإسقاطي الذي له خصائص مشابهة للمستوي الإسقاطي.

وفي النهاية سوف نقدم كيف يكون العيش على سطح منطوٍ غير موجه. ولكن الصورة سوف تكون خير مثال لشخص ثنائي البعد يعيش في سطح ثلاثي غير موجه كما شرحنا في المقال.

أولاً: مخلوق ذو ببعدين يعيش في شريط موبيوس

ثانياً: مخلوق ذو بعدين يعيش في زجاجة كلاين (السهم يشير إلى حركة الكائن):

واخيراً نطرح مثالاً مختلفاً بعض الشيء. هذه الكرة موجودة على مستوٍ إسقاطيٍّ حقيقي. عندما يتغيّر التوجه يتغير لون الكرة.

نلاحظ أن توجّه الكرة يتغيّر بغض النظر عن مكان خروجها من الحافّة، وإذا اختطلت الأمور عليك فتخيل كيف سيكون الوضع مربكاً لو كنت تعيش في الكرة!

المصدر:

هنا