الفيزياء والفلك > علم الفلك

كل ما يجب أن تعرفه عن مدار الأرض وتأثيره على التغير المناخي

إنَّ دوران الأرض حول الشمس ليس بالسهولة التي شرحها لك مدرس مادة العلوم في المدرسة، الموضوع أكثر تعقيداً وروعة. فهناك على الأقل ثلاث متغيراتٍ أساسيةٍ تُغيّرُ مدارَ الأرض حول الشمس تدريجياً على مدى آلاف السنين، وهي: تَغيّر شكل القطع الناقص الّذي يرسمه مدار الأرض حول الشمس، تَغيّر ميل محور الكرة الأرضية وتَغيّر اتجاه محور دوران الكرة الأرضية (المبادرة). إنّ كمية أشعة الشمس التي يتعرّض لها كوكبنا، وبالتالي دفيء أو برودة مناخه، تتغيّر على مدار الزمن تبعًا لهذه المُتغيرات الثلاث. دعنا نشرحُ لك هذه العوامل الثلاث:

1- الاختلاف المركزي لمدار الأرض حول الشمس Earth's orbital eccentricity:

بعكس العديد من صور النظام الشمسي المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي و المجلات غير المتخصصة. فإنّ شكل مدار الكرة الأرضية حول الشمس ليس دائرياً تماماً بل هو قطعٌ ناقص (شكل بيضوي). نستطيع تحديد مدى دائرية أو بَيضوية القطع الناقص من خلال ما يُسمّى "عامل الإختلاف المركزي " و يرمز له بحرف e اختصاراً لكلمة eccentricity بالّلغة الانكليزية، و تتراوحُ قيمةُ هذا العامل بين القيمتين (0-1).

يكونُ الشكلُ الهندسي أقرب للدائري كلما اقتربت قيمة الاختلاف المركزي من الصفر، حتى يُصبحَ دائريّاً تماماً عندما تصبحُ قيمتهُ صِفرًا. و كلما اقتربت قيمةُ الاختلاف المركزي من الرقم 1 كُلما أصبحَ الشكلُ الهندسي أكثر تفلطحًا، إلى أن تُصبحُ قيمتهُ تساوي واحد. اعتماداً على معرفتنا بأنّ مدار الأرض حول الشمس ليس دائريّاً تماماً، فإننا نستنتج أن بُعد الأرض عن الشمس ليس ثابتاً بل هناك أوقات من العام تكون فيها الأرض أقرب إلى الشمس و حرِّها مقارنةً بباقي الأوقات. نسمّي النقطة الّتي تكون فيها الأرض أقرب ما يكون للشمس بنقطة " الحضيض الشمسي"، أمّا النقطة الّتي تكون فيها الأرض أبعد ما يكون عن الشمس و حرارتها فتسمّى نقطة " الأوج الشمسي".

لكن هذا ليس كل شيء، الأمر المثير للاهتمام حقاً هو أنَّ شكل مدار الأرض حول الشمس يتغيَّر عبر الزمن! نعم، تماماً كما أخبرتُك فلا تندهش، إذ يتبدَّلُ شكلُ مدار الأرض حول الشمس بين الإقتراب من الشكل الدائري، حيث (e=0.0034) وشكل القطع الناقص أحياناً، حيث ( e=0.058).

يحصل هذا التغيّر عبرَ فترةٍ طويلةٍ جداً من الزمن تتراوح مدتها بين 900 ألف و100 ألف سنة. و في الأطوار الزمنية التي يكون فيها شكل المدار أقرب إلى الشكل البيضوي فإنّ الاختلاف بين نقطتي الأوج و الحضيض يكونُ أكبر، و بالتالي فإنّ الاختلاف في كمية الإشعاع الشمسي الذي يصل الأرض بين الحضيض والأوج الشمسيين يكون أكبر، مما يؤدي إلى أن الاختلافات المناخية بين هاتين النقطتين تكون أوضح و أكثر قسوة، بينما يكون الإختلاف المناخي بين الحضيض والأوج الشمسيين أقل قسوة عندما يكون شكل مدار الأرض حول الشمس أقرب إلى الشكل الدائري حيث يكونُ بُعدُ الأرض عن الشمس شبه ثابتٍ.

أما حالياً و من حُسنِ حظِنا فإنَ شكلَ مدارِ الكُرةِ الأرضية حول الشمس أقرب إلى الشكل الدائري حيث e= 0.0167

2- ميل محور الأرض Earth's axial Obliquity:

من المعروف أنَّ محور الأرض ليس مُتعامداً مع مدارها حول الشمس، بل ينحني بزاوية 23.5 درجة. وعندما يواجه القطب الشمالي الشمس (أي يميل نحوها) يؤدي ذلك إلى حصول النصف الشمالي للكرة على أكبر قدر من أشعة الشمس المباشرة وكذلك أطول مدة نهار في السنة (أي فترة الصيف) ويحصل ذلك في حزيران/يونيو، ويحصل العكس في النصف الجنوبي للكرة الأرضية حيث تتلقى أقل قدر من أشعة الشمس وساعات نهار أقصر. بعد مرور نصف سنة في كانون الأول/ديسمبر، يتبادل النصفان الشمالي والجنوبي الأدوار. حيث تتحرك الأرض إلى الجانب الآخر من مدارها حول الشمس، محافظةً على ميلها في نفس الاتجاه. وبذلك يُصبحُ الصيف في النصف الجنوبي للكرة الأرضية، بفترات نهار أطول وضوء شمس أكثر. ويكون شتاءً في النصف الشمالي للكرة. وهكذا تتعاقب الفصول.

أما ما لا يعرفه الكثيرون فهو أنّ زاوية ميل محور الأرض تختلف عبر طورٍ من الزمن!

نعم، يتبدّلُ ميلُ محور الأرض ضمنَ نطاق ( 22.1 - 24.5 ) درجة، خلال دورةٍ تستمِرُ نحو أربعين ألف سنةٍ. ما تأثيرُ هذا التبدُّل في زاوية ميل الأرض عن محورها؟ حسنًا، كُلما ازداد ميل محور دوران الكرة الأرضية، كلما ازدادت قسوةُ الفصول، و العكس صحيح طبعاً. تبلُغُ زاويةُ ميل محور الأرض حالياً نحو 23.5 درجة، أي تقريباً في منتصف طور تغيّر ميل محورها باتجاه تناقص زاوية الميل.

3- المُبادرة المحورية للأرض Earth Precession: تُعتبرُ مداورةُ الأرض (لمُبادرة المحورية) من أعقد التغيرات الّتي تطرأ على دوران الأرض حول الشمس، لكن قبل أن تستسلم و تعودَ لتتصفُح مواقع التواصل الاجتماعي معتقداً أنني سأمطرك بوابلٍ من المعلومات المُعقدة الغير مهمة على الاطلاق، انتظر قليلاً، سأشرحها لك بأسلوبٍ مُبسطٍ للغاية. إن شكل الكرة الأرضية ليس كروياً بالمعنى الحرفي للكلمة إنّما مفلطح، أي أن كتلة الكرة الأرضية غير منتظمة التوزع مما يؤدي بحسب قوانين ميكانيك الدوران إلى دوران محور دوران الجسم. مثل حركة دوران البيضة، لاحظ بعد فتل البيضة فإنّها قبل أن تستقر يبدأ محور دورانها بالدوران بحيث يرسم دائرة. هذا التغييّر في توجه محور الجسم الذي يدور حول نفسه يسمّى المبادرة (Precession)، بشكل مماثل يتغيّر اتجاه محور الأرض ليرسم دائرة كاملة في دورة زمنية تمتد من 21،000 إلى 26،000 سنة.

بسبب هذا التغيير في توجه محور الأرض تتغير مواعيد الفصول عبر آلاف السنوات، فمنذ حوالي 10،000 سنة كان نصف الكرة الأرضية الشمالي يميل نحو الشمس في كانون الأول/ديسمبر، وذلك بدلاً من حزيران/يونيو. أي أن مواعيد الصيف والشتاء كانا متعاكسين. كما أن التغيير في توجه محور الأرض يحدد أي من نصفي الكرة الأرضية يمر بصيفٍ أقسى وأي يمر بشتاءٍ أقسى. فعلى سبيل المثال، إذا كان الفصل صيفاً في النصف الشمالي وترافق ذلك مع وجود الأرض في الحضيض (أقرب للشمس)، فان ذلك سيجعل من الصيف أكثر قسوة، وبالعكس إذا كانت الأرض في الأوج (أبعد نقطة عن الشمس)، فان ذلك سيجعل من الصيف أقل قسوة. حالياً يحدث الانقلاب الصيفي في النصف الشمالي بالقرب من الأوج، أي أن النصف الجنوبي يتعرض لفصل شتاء أقسى من النصف الشمالي.

تزداد درجة حرارة الأرض مع ازدياد كمية الإشعاع الشمسي التي تتعرض له. طبعاً وحسبما سبق ذكره من دورات طبيعية تمر بها الكرة الأرضية فإن كمية الإشعاع الشمسي التي تتعرض لها الأرض في نقطة معينة من دورتها حول الشمس تتغير مع الزمن، ويؤثر هذا بشكل مباشر على المناخ. لكن هناك عوامل أخرى تؤثر في المناخ الطبيعي للأرض. هناك عامل آخر يتعلّق بنصف الكرة الأرضية المتعرّض بشكل أكبر للإشعاع الشمسي، حيث أن نصف الأرض الشمالي مغطى باليابسة أكثر مقارنة بالنصف الجنوبي من الأرض المغطّى أكثر بالمحيطات، و نحن نعلم بأن اليابسة ترتفع حرارتها بشكل أسرع من المياه لذلك فإن درجة حرارة القسم الشمالي من الأرض ترتفع بشكل أسرع أي أن فصل الصيف شمال الكرة الأرضية أكثر قسوة. وأيضاً خلال فصل الصيف يذوب الجليد في المحيط المتجمّد الشمالي جزئيّاً و يعود ليتجمّد مجدّداً في فصل الشتاء في عملية تحافظ على المسطحات الجليدية في محيط القطب. أما في فصول الصيف التي يحصل فيها ارتفاعٌ شديدٌ في درجات الحرارة ( أكثر من المعتاد) تذوب كميات أكبر من الجليد بحيث لا تعوَّض أثناء الشتاء كليّاً مما يسبب ارتفاعاً تدريجيّاً عامّاً في درجة حرارة الكرة الأرضية.

تزودنا دراسة حركة الأرض حول الشمس وأطوارها بمعلومات قيمة لا يستهان بها حول ما يحصل من تغيرات مناخية على المدى القصير، إلا أنَّ دراسة التغيرات التي تطرأ على هذه الحركة على مدى آلاف السنين هو ما يسمح لنا بالتنبأ بما سنمر به من تغيرات مناخية على المدى البعيد، مثل الاحتباس الحراري. ولربما تتفاجأ إنْ أخبرتك أن بدايات الاحتباس الحراري التي يشهدها كوكبنا حالياً تحصل بالرّغم من أنّ المرحلة الحالية من دورة الأرض حول الشمس هي مرحلة يفترض أن يكون مناخها بارداً نسبياً. استناداً إلى هذه المعلومة نستطيع أن نقدّر بشكل أفضل مدى الاحتباس الحراري الّذي يتسبب به العامل البشري.

اعتماداً على المعلومات السابقة يمكننا الآن أن نتخيّل الظروف المثالية للإحتباس الحراري على طريقة أفلام الرعب، حيث يكون شكل مدار الأرض حول الشمس بأعلى قيمة للاختلاف المركزي (أقصى شكل بيضوي يمكن أن يصل له)، و يكون انحراف محور الأرض في أعلى درجاته ويكون القسم الشمالي من الأرض في انقلابه الصيفي عند نقطة الحضيض الشمسي (الأقرب للشمس). مرعب أليس كذلك؟ من الجيّد أننا لن نكون على قيد الحياة عند حصول كل ذلك.

 

المصادر:

1 - هنا

2 - هنا

3 - هنا