البيولوجيا والتطوّر > شخصيات في عالم البيولوجيا

ألكسندر فليمنغ: العالم المظلوم

فليمنغ: الباحث الدؤوب

في الحقيقة، تعُود بداية ألكسندر فليمنغ مع المضادات الحيوية إلى سنوات عديدة قبل اكتشاف البنسلين؛ إذ كان فليمنغ يبحث على مدى سنوات طويلة قبل البنسلين عن المضادات الحيوية وكان يجمع العينات وينشئ مستعمرات البكتيريا من كل مكان ويضيف كل ما يخطر على باله إلى أطباق مستعمراته. 

وفي يومٍ ما عام 1921 -قبل سبع سنوات من اكتشاف البنسلين الشهير- وبعد مئات التجارب والمستعمرات البكتيرية التي لم تُظهر أية جدوى، شكَّل فليمنغ مستعمرة بكتيريا وأضاف السائل المخاطي الأنفي من شخص مصاب بنزلة برد إلى هذه المستعمرة وكانت المفاجئة الكبيرة في الانتظار(1)!

عملٌ جاد وتفكيرٌ خارج الصندوق: اكتشاف أول مضاد حيوي!

بعد سنوات عجاف طِوال من البحث والتجريب والنتائج السلبية جاءت اللحظة المنتظرة، فبعد أن أضاف فليمنغ مخاط المريض لاحظ بأن البكتيريا بدأت تتحلل ببطء. 

"لا يمكن التصديق بأن هذا التأثير لم يُلحظ من قبل!" كتب فليمنغ في ورقة نشرها لاحقًا (1).

بعد نجاح هذه التجربة أعادها ألكسندر مستعملًا تراكيز مختلفة ثم أثبت بأن هذه المادة الفعالة ليست حكرًا على السائل المخاطي، بل موجودة في سوائل أخرى في الجسم البشري كاللعاب والدموع، ولم تنتهِ الرحلة هنا، بل ما يزال هناك سؤال أكبر ينتظر الإجابة عنه، ألا وهو ما هوية هذا المضاد الحيوي وممَّ يتكون (1, 2)؟

حلَّق عاليًا إلى النجوم ثم ارتطم بالأرض!

بعد تجارب طويلة من عزل وتنقية ومعالجة لهذه السوائل كلها بمختلف الطرائق تمكن فليمنغ عام 1922 من عزل المضاد الحيوي، ولسوء حظه فقد كان هذا المضاد إنزيمًا! تتكون الإنزيمات من حموض أمينية وتكون كبيرة أيضًا مقارنة بأي مركب دوائي كيميائي؛ أي لا يمكن استعمالها دواءً لمعالجة عدوى بكتيرية (في حالة البلع ستُكسَّر في المعدة)، ولكن؛ يمكن استعمالها موضعيًّا على أنها مرهم. بعد الوصول إلى هذه النتيجة أطلق فليمنغ على هذا الإنزيم تسميةً من كلمتي "تحليل Lysis" و"إنزيم Enzyme" وكان الاسم في النهاية "ليسوزيم Lysozyme"، الإنزيم الشهير الذي يعرفه طلاب علم الأحياء جميعهم (2)!

نموذج ملء-فراغ لجزيء الليسوزيم (مستخرج من حيوان Meretrix Lusoria) المرتبط بقطعة من عديد السكاريد.

انهض؛ فالحرب مع المرض لا تعرف الراحة

استمرت التجارب على الليسوزيم حتى حُلِّلت بنيته ثلاثية الأبعاد بوساطة تقنية "دراسة البلورات بالأشعة السينية X-ray crystallography" عام 1965 ليكون بذلك أول إنزيم يخضع لهذا التحليل(5)! 

وبحلول هذا العام كانت قد حُلِّلت أيضًا آلية عمل الإنزيم الكيميائية التي تشكِّل قطوعات في أماكن مختلفة في جدار البكتيريا، ما يؤدي إلى انفجار الخلية تحت تأثير ضغطها الداخلي (الشرح للمختصين: يُحفِّز إنزيم الليسوزيم التحللَ المائي للروابط الغلوكوزية في جدار الخلية البكتيرية مما يؤدي إلى انفجار الخلية تحت ضغط التناضح) (3).  

وعلى الرغم من أن ظاهرة المقاومة الحيوية لوحظت في عديد من المواد من حليب البقر إلى بياض البيض في الفترة الممتدة بين 1880-1920، كانت أبحاث فليمنغ حاسمةً، فقد كشفت بأن السر وراء ظاهرة المضاد الحيوي للمخاط الأنفي البشري هو الليسوزيم؛ إذ تَبين بأن الإنزيم ذاته موجود لدى الدجاج والبقر وباقي الحيوانات والحشرات والنباتات والفطريات بل وحتى بعض البكتيريا (2, 4)! وأن هذا الإنزيم هو المسؤول عن ظواهر الاستضاد الحيوي المُكتشفة سابقًا (2).

وبالعودة إلى عالمنا،  فإن فليمنغ لم ييأس من البحث وكُللت جهوده عام 1928 باكتشاف البنسلين الذي وضع البشرية أول مرة في تاريخها في موضع المنتصر أمام المرض في حرب شعواء كانت اليد العليا فيها دائمًا للمخلوقات المجهرية. 

إن الواقع الذي لم يتغير على مدى أكثر من 300 ألف سنة منذ ظهور الإنسان العاقل تغير عام 1928 بعد جهود عشرات آلاف العلماء من الحضارات والأعراق كلها الذين أوصلوا دفة العلم إلى هذه المرحلة.

المصادر:

  1. Fleming A. Lysozyme. Proceedings of the Royal Society of Medicine. 1932;26(2):71-84.
  2. Anfinsen C. Advances in protein chemistry. San Diego, Calif.: Academic Press; 1992.
  3. Alberts B. Molecular biology of the cell. New York, NY: Garland Science; 2015.
  4. Höltje J. Bacterial lysozymes. Experientia Supplementum. 1996;:65-74.
  5. Rossmann M. International tables for crystallography. Berlin: Springer Netherland; 2007.