علم النفس > المنوعات وعلم النفس الحديث

الكارثة المختبئة؛ واقعُ صحة السوريين النفسية.

تسبّبت الأعوامُ التي مضت من عمر الأزمة في سورية بأضرارٍ جسيمة على المستوى النفسي للسوريين في كلّ مكان؛ إذ فقدَ كثيرٌ من الناس منازلَهم أو فقدوا أقرباءّهم أو اضطروا إلى مغادرة مدنهم.

وقد لا تُلاحَظ المخاطر الناجمة عن هذه الأزمة إلّا بعد سنوات عدّة؛ خصوصًا على الأطفال، إذ يُعدّ الأطفال الفئةَ الأكثر عرضةً للإصابة بالاكتئاب والقلق والأشكال الأخرى من الأمراض النفسية -على المدى القريب- عند العيش في بيئة النزاعات، وتمثّلُ هذه التحديات حاجزًا أمام الصحة الجسدية والتعليم والاستقرار الاقتصادي.

ويُعدّ اللاجئون الفئةَ الأكثر تضرُّرًا على المستوى النفسي والأكثر عرضةً لمواجهة العديد من الأمراض النفسية الشائعة؛ مثل الاكتئاب والقلق ومتلازمة الصدمة ما بعد الرض، إضافةً إلى تحريضِ ظهور أمراض نفسية موجودة مسبقًا والمسائلِ المتعلقة بالتأقلم مع الظروف الطارئة؛ كالتأقلم مع العيش في بلدان اللجوء.

وقد تعرّضَ كثيرٌ من السوريين إلى شتّى أشكال الرض النفسي؛ مثل فقدان منازلهم أو خسارة أحد الأقرباء والمصاعب الكثيرة التي مرّوا بها في أثناء مغادرتهم إلى بلدان أخرى، وتضاف إلى ذلك؛ الظروف السيئة التي يعيشها الكثير من السوريين الذين لجؤوا إلى البلدان المجاورة -مثل لبنان والأردن وتركيا- حيث الظروف المعيشية المتدنية، والمساكن التي عادةً ما تكون مكتظة، وعدم التمتُّع بالحقوق المدنية الكاملة التي تتيح لهم حقَّ العمل والحصول على الرعاية الصحية الكافية.

كذلك؛ لا يمتلك معظم اللاجئين القدرة على الوصول إلى الخدمات المتعلقة بالصحة النفسية بسبب محدودية المختصين المتوفرين في هذا المجال في كلٍّ من أوروبا ومنطقة الشرق الأوسط.

وتشير البيانات المتوفرة إلى أنّ قرابةَ نصف الأطفال السوريين يعانون أعراضَ متلازمة الصدمة ما بعد الرض، ويعاني ربعهم مصاعبَ تتعلق بالتطور والمعرفة، والنتيجة؛ جيلٌ معرَّضٌ للإصابة بالاكتئاب والقلق والاضطرابات السلوكية.

تشير الأرقام إلى أنّ نصفَ الأطفال السوريين فقط التحقوا بالتعليم المدرسي عند الوصول إلى البلدان المستضيفة لهم، وأنّ هذه الأرقام كانت أقل في كلٍّ من تركيا ولبنان حيث وصلت إلى ما يقارب ٣٠٪، وحتى عندما التحقوا في صفوفهم لاحقًا؛ فإنّهم كانوا أكثرَ عرضةً للحصول على علامات متدنية -مقارنةً بأقرانهم من غير اللاجئين- نتيجةَ تعرُّضهم السابق لرضوض نفسية.

وعلى المدى البعيد؛ قد تؤدي التجارب الراضة نفسيًّا إلى اضطرابات سلوكية، والإقدام على الجنح التي يمكن ملاحظتها بإقدام بعض الأطفال على أذية بعض الحيوانات وتشويهها نتيجة التعرض للعنف بكل أنواعه؛ ولا سيّما جرائم القتل والعنف المبني على التمييز الجنسي.

هناك عددٌ قليل جدًّا من الدراسات والبيانات المتعلقة بأمراض نفسية كالذهان وبعض الأمراض النفسية الشديدة الأخرى، والأمر الأكثر احتمالية؛ هو ارتفاع عدد السوريين الذين يعانون أعراضَ الذهان بسبب زيادة عوامل الخطر؛ مثل الحوادث الراضّة نفسيًّا، والهجرة القسرية، وفقدان الدعم الاجتماعي.

وقد تبيّن في أحد الدراسات -التي أُجريت على مجموعة من الطلاب في المدارس السورية في كل من دمشق واللاذقية، ويُقدَّر عددُهم بنحوِ ٤٩٢ طالبًا وطالبةً تتراوح أعمارهم بين ٨ سنوات و ١٥ سنة- أنّ قرابة ٥٠.٢٪ من الطلاب في العينة كانوا من المهجرين داخليًّا، وأنّ ٣٢.١٪ منهم مرّوا بتجاربَ سلبية.

كذلك أظهرَت  قرابة ٦٠.٥٪ من العينة المدروسة وجودّ اضطرابٍ نفسي محتمل؛ علمًا أنّ متلازمة الصدمة ما بعد الرض هي الاضطراب الأكثر شيوعًا بنسبة ٣٥.١٪، يتلوها الاكتئاب بنسبة ٣٢٪، والقلق بنسبة ٢٩.٥٪.

ويُعدّ الاضطراب النفسي في سورية والبلدان المحيطة من المواضيع المثيرة للخوف والإحراج بسبب خوف الناس من نظرة المجتمع إلى الشخص الذي يعاني اضطرابًا نفسيًّا أو يراجع الطبيبَ النفسيَّ. وعادةً ما يكون ذلك بسبب الوصمة التي تتبع هؤلاء الأشخاص والتسميات التي قد ترتبط بهم؛ مثل مضطرب أو مجنون، وهذا ما يمنع الكثير من الأشخاص الذين يحتاجون العنايةَ النفسيةَ من تجنُّب طلب المساعدة أو مراجعة المختصين؛ ما يسبّبُ تفاقمَ المشكلة على نحو أكبر.

وإنّ الانتباه إلى الرعاية الصحية النفسية غالبًا ما يكون مهملًا في منطقتنا أو غيرَ مطابقٍ للمعايير المطلوبة في أفضل الحالات، وعندما بدأت موجاتُ النزوح الكبيرة إلى البلدان المجاورة لسورية؛ لم تكن معظم المنشآت الطبية مجهّزةً للتعامل مع الأعداد الكبيرة القادمة، إضافةً إلى أنّ المنظمات الإنسانية والإغاثية كانت تعمل بغير تنسيق في مجال الصحة النفسية؛ وهذا أدّى إلى عدم وصول الرعاية الصحية النفسية إلى جميع مستحقيها، فكان التركيز الأكبر على تأمين الطعام والمسكن وعلى بعض الأمراض الأخرى، فضلًا عن عمل عدة منظمات في المنطقة نفسها دون أخرى في بعض الأحيان؛ وهذا يعني أنّ المستفيدين من خدمات الصحة النفسية يبقون دونَ زيادة.

وعلى الرغم من جهود العاملين في القطاع الصحي من أجل رفع سويّة الرعاية الصحية النفسية؛  لم يتلقَّ العديدُ من الأطفال أيةّ رعايةٍ كافيةٍ، وقد لا يتلقون أيةَ عناية نفسية إطلاقًا، وهذا يعود إلى أنّ بعض المناطق في سورية تعاني نقصًا حادًّا في العاملين في هذا المجال، الذي قد يصل إلى طبيب نفسي واحد لكل مليون شخص.

وقد كان عدد الأطباء النفسيين -قبل بداية الأزمة في سورية- لا يزيد على مئة طبيب في كل أنحاء البلاد، إضافةً إلى عدم وجود كادر تمريضي متخصص في مجال الصحة النفسية على الإطلاق، ومن ثمَّ  تقلّصَ هذا العدد إلى أقل من ٦٠ طبيبًا حتى عام ٢٠١٥ فقط، وازداد الأمر سوءًا مع عدم قدرة الكثير من الأطباء السوريين الموجودين في الدول المحيطة بسورية على ممارسة مهنتهم.

ويجب أن يضاف تقديم العناية في مجال الصحة النفسية إلى قائمة الخدمات المقدّمة استجابةً للأزمة في سورية، وهناك حاجةٌ ملحّةٌ لتنسيقٍ أكبر بين المنظمات الإنسانية من أجل تحديدِ احتياجات اللاجئين السوريين والمهجرين داخليًّا فيما يخصُّ الرعايةَ الصحية النفسية، والعملِ على توزيع جهود هذه المنظمات توزيعًا متساويًا في جميع المناطق التي يحتاج القاطنون فيها للرعاية الصحية النفسية، ولا ننسى بالطبع تدريبَ الكوادر المحلية لتساهمَ في دعم جهود المنظمات الإنسانية وتحديد احتياجات الناس الواقعية.

وإضافةً إلى ذلك؛ يجب العمل على تدريب المتطوعين وتشجيعهم للإضاءة على أهميةِ الدعم الذاتي، وحلّ المشكلات، ودورِ الأفراد المتضررين بالتعامل مع حالاتهم؛ إذ يملك هذا الدور أهميةً خاصةً في جميع الظروف، وتزداد أهميتُه عند نقص الكوادر والموارد.

وإنّ إنشاءَ بنية تحتية مستدامة في مجال الصحة النفسية في سورية هو حجرُ الأساس لمنعِ ضياع جيلٍ كاملٍ من الأطفال في متاهات الأمراض النفسية؛ وذلك من أجل المساهمة في إعادة إعمار سورية صحيًّا، ويمكن تحقيقُ ذلك عن طريق إنشاء برامج تعليمية وتأهيلية من أجل دمج الرعاية الصحية النفسية بأنظمة الرعاية الصحية الأولية في سورية، وتقوية العاملين ودعمهم في مجال الصحة النفسية.

المصادر:

1- هنا

2- هنا

3- هنا

4- هنا

5- هنا

6- هنا