الرياضيات > الرياضيات

سلسلة أحجيات أويلر: مسألة جسور مدينة كنيغسبرغ

استمع على ساوندكلاود 🎧

وضعَ سكّانُ مدينةِ "كنيغسبرغ" (والّتي تُعرَفُ الآن باسم كالينيغراد) أحجيّةً لنفسهم. كان يُغذّي مدينة كنيغسبرغ نهرٌ يدعى "بريجل"، وكانَ يحوي جزيرتين وسبعةَ جسورٍ تربط كتلَ اليابسةِ ببعضها البعض. الأحجيّةُ كانت أن يحاولوا العثورَ على طريقةٍ للتّجولِ في المدينة من خلالِ عبورِ كلِّ جسرٍ مرّةً واحدةً فقط.

هل بإمكانك العثور على طريق لتعبر من خلال كلّ جسر مرّة واحدة فقط لا غير؟

أدرك أويلر أنّ مسائل كهذه تتطلّبُ طريقةَ تفكيرٍ جديدةٍ. وجاء في الرّسالةِ الّتي كتبها أويلر إلى عالمِ الرّياضيات والفلكِ الإيطاليّ " جيوفاني جايكوب ماريوني ":

"إنّ هذه المسألةَ مبتَذَلةٌ جدّاً، ولكنّها تبدو جديرةً بالاهتمامِ حيثُ أنّه لم يكن أيّاً من علمِ الهندسةِ أو الجبرِ أو حتّى فنُّ العدِّ كافياً لحلِّها. وعلى ضوءِ ذلك، فقد خطر لي أن أتساءل أنّها ربّما تنتمي إلى هندسةِ التّوضعِ الّتي كان "لايبنيتز" يتوق إليه جداً. لذا وبعد المشاوراتِ، استخرجتُ قاعدةً بسيطةً ولكنّها راسخةٌ تماماً حيث بمساعدتِها يمكن اتّخاذُ القرارِ فوريّاً بالنّسبة لجميعِ المسائلِ من هذا النّمطِ، مهما يكن عدد الجسورِ أو طريقةُ توزّعها، وبغضِ النّظر عن وجودِ حلقةٍ مغلقةٍ على الطّريق أم لا ..."

يقصد أويلر بهندسةِ التّوضع نوعاً من الهندسة لا يأخذ بعين الاعتبارِ القياساتِ الدّقيقة للأطوالِ أو الزّوايا أو المساحاتِ. وهو ما يُدعى في يومنا هذا "الطوبولوجيا". وكما نلاحظُ في مسألةِ مدينة كنيغسبرغ لا يهمُّنا التّصميمُ الدّقيقُ للمدينةِ. الشّيءُ الوحيدُ المهمُّ هو كيفيّةُ ارتباطِ الجسورِ ببعضِها. وبذلك يمكنُنا تحويلُ خريطةِ المدينةِ الفوضويّةِ بعضَ الشّيءِ إلى شبكةٍ (ويُطلَقُ عليها أيضاً بيان)، حيثُ تُمثِّلُ النّقاط كتلَ اليابسةِ، بينما تُعبِّرُ الوصلاتِ بينها عن الجسورِ.

تحويل المسألة إلى بيان مكون من عقد ووصلات.

وقد لاحظَ أويلر ملاحظةً مُهمّةً جدّاً: إن وُجدِ طريقٌ على الشّبكةِ بحيث يَعْبُرُ من خلالِ كلِّ وصلةٍ مرّةً واحدةً فقط، إذاً على كلِّ عقدةٍ في الشّبكةِ أن يتّصلَ بها عددٌ زوجيٌّ من الوصلاتِ. والسّببُ هو أنَّهُ إذا دخلْتَ إلى عُقدةٍ ما من وصلةٍ ما، عليكَ أن تغادِرَها من وصلةٍ أخرى، إذاً على العُقدةِ أن تملكَ وصلَتَين إن كنتَ ستزورهَا مرّةً واحدةً فقط، وأربعَ وصلاتٍ إن كنتَ ستزورَها مرّتَين، وهكذا. العقدُ الوحيدةُ الّتي يمكنُ أن تملكَ عدداً فرديّاً من الوصلاتِ هما عُقدَتَي بدايةِ ونهايةِ الطّريق. (إن كانتا وحيدَتَين).

وهذا يُخبرنا على الفور بأنّ طريقاً يحملُ المواصفاتِ هذه غيرُ موجودٍ في مدينةِ كنيغسبرغ. فكلُّ العُقدِ تملكُ عدداً فرديّاً من الوصلاتِ المرتبطةِ بها. إنَّ جمالَ هذا النِّقاشِ، كما وصفه أويلر، يكْمُنُ في أنَّه صحيحٌ من أجلِ أيّةِ شبكةٍ، مهما كانت كبيرةً أو مُعقّدَةً. فوجودُ طريقٍ لعبورِ كلِّ الوصلاتِ مرّةً واحدةً فقط مُمكنٌ في حالِ امتلاكِ كلِّ العُقَدِ، أو كلُّ العُقَدِ ما عدا اثنتَين، عدداً زوجيّاً من الوصلاتِ المُرتبطةِ بها. والعكسُ صحيحٌ أيضاً (بالرّغمِ من أنّ أويلر لم يُقدِّم برهاناً قاطعاً على ذلك)، أي إن كانت جميعُ العُقَدِ، أو جميعُ العُقَدِ ماعدا اثنتَين، تملكُ عدداً زوجيّاً من الوصلاتِ المُتّصلةِ بها، فيوجدُ طريقٌ بحيثُ يمكنُ عبورَ جميعِ الوصلاتِ مرّةً واحدةً فقط.

إنّ هذه الأفكارَ الّتي طرحها أويلر والمتعلّقةِ بمسألةِ مدينةِ كنيغسبرغ كانت بدايةً لظهورِ فرعٍ من الرّياضياتِ يُسمّى "نظريّةَ البيانِ"، والّتي يمكنُ أن يُطلَقَ عليها " نظريّةُ الشّبكات". وحيثُ أنّنا محاطونَ بالشّبكاتِ في حياتِنا اليوميّة، فهناكَ شبكاتُ التّواصلِ الاجتماعيِّ، وشبكاتُ المواصلاتِ والنّقلِ،و شبكةُ الإنترنت، فإنّه وكما ترون تُشكِّلُ نظريّةُ الشّبكاتِ جُزءاً هامّاً من الرّياضياتِ الحديثةِ.

المصدر:

هنا