الغذاء والتغذية > منوعات غذائية

إن كنت تظّن أن لبن العصفور أمرٌ غريب، انتظر حتى تسمع بحليب الصراصير!

استمع على ساوندكلاود 🎧

على الرّغمِ من أنّ فكرةَ تناولِ مخفوقِ الحليبِ الحاوي على الصراصير لا تبدو شهيّةً على الإطلاق، إلا أنّ الحشراتِ معروفةٌ بأنها مصدرٌ هامٌ من مصادرِ البروتين. وهو أمرٌ لطالما كان يقضُّ مضجعَ العالمِ أجمع، فالجميعُ يدأبُ في البحثِ عن مصادرَ جديدةٍ لتكون بدائل للحوم التي ثَبُتَ ضررها على الصحة، وكما توجّهنا سابقاً نحو البروتينات النباتية، لِما لا تكون بروتيناتُ الحشراتِ العنصرَ الجديدَ في دائرةِ الضوء! وقد سبقتنا إلى هذا الأمرِ دولُ جنوبِ شرقِ آسيا التي تَعتبِرُ العديدَ من الحشراتِ جزءاً من ثقافةِ الغذاء الخاصةِ بها، حتى إنّك بمجرّدِ تجوّلك في شوارع تلك البلدان، ستجدُ الباعةَ يعرضونَ حشراتِهم المحمّصةَ كوجبةٍ خفيفةٍ للمارّة!

توصّلت مجموعةٌ من الباحثين في كلّ من أمريكا، واليابان، وكندا، وفرنسا، والهند إلى نتيجةٍ مفادُها أن البِلّوْراتِ الموجودةَ في "حليبِ" الصراصير تعدُّ مصدراً خارقاً للبروتينات، وقد يحتلّ هذا الحليب في المستقبلِ مركزاً مهمّاً في قائمةِ المصادرِ البروتينيةِ التي يمكنُ أن تلعبَ دوراً في حلّ جزءٍ لا يُستهانُ بهِ من أزمةِ الغذاءِ العالميّة.. ولكن، لنتوقفْ للحظةٍ هنا.. جميعُنا يعلمُ أنّ الصراصيرَ تتكاثرُ بالبيوض، فكيفَ تحوّل الموضوعُ إلى إنتاجِ الحليب؟؟

بدأَ الأمرُ منذُ 10 سنواتٍ تقريباً، حين لاحظَ باحثُ شابٌ في جامعةِ أيوا University of Iowa يُدعى Nathan Coussens تدفُّقَ بلوراتٍ لمّاعةٍ من أمعاءِ أحدِ أنواع الصراصير الذي يُعرف باسم Diploptera punctata. دفعتهُ دهشتُهُ إلى مناقشةِ أحدِ زملائِه حولَ طبيعةِ هذه البلورات، ولكنّ زميلَهُ الباحثَ لم يعِر الأمرَ أيَّ اهتمامٍ، وعزا وجودَها إلى تشكّلِ بِلّوراتِ أملاحٍ عضويّةٍ في أمعاءِ بعضِ الحشراتِ والطّيورِ والزّواحف. ولكنّ فضولَ Nathan دفعهُ إلى إجراءِ مزيدٍ من التقصّي حتى توصّل إلى اكتشافٍ خارق، فالبِلّوراتُ التي وجدَها كانت مُكوّنةً من بروتيناتِ الحليبِ التي تَبلوَرت في الأحشاءِ الوسطيّةِ لصغارؤ الصراصير!

لنحصلَ على مزيدٍ من التفاصيلِ دعونا نلقي نظرةً سريعةً على تكاثرِ أفرادِ النّوع Diploptera punctata، حيثُ يتميّزُ بأنّه النوعُ الوحيدُ من الصراصيرِ الولودة Viviparous، وهي حالةٌ تطوريّةٌ متقدمةٌ تحتوي فيها البيوضُ الملقّحةُ على كميةٍ قليلةٍ فقط من المُحّ، وعليه فإنّ الأمَ تقومُ بدعمِ تغذية صغارها لضمانِ تطوّرِهِم خلالَ وجودِهِم في كيسِ الحضانةِ Brood sac والذي يمكن اعتبارُهُ مقابلاً للرّحِمِ لدى الثدييّاتِ المعروفةِ.

يقومُ الصغارُ أولاً باستهلاكِ المحّ الموجودِ لتطويرِ عضلاتِ المريء القويّة إلى جانبِ أحشاءٍ بسيطةٍ تسمحُ لهم بتجرُّعِ (شربِ) المغذّياتِ التي سيوفّرِهُا جسمُ الأم لاحقاً، حيثُ يقومُ جدارُ كيسِ الحضانةِ بإفراز حليبٍ سائلٍ يبتلعُهُ الصغارُ ليتحوّل في أحشائِهِم الوسطيّةِ إلى بِلّوراتٍ تحتوي على البروتيناتِ إلى جانبِ كمياتٍ من الدهونِ والكربوهيدرات. أي أنّ هذا النّوعَ من الحشراتِ، وبعدَ مرورِ 320 مليون سنةٍ من وجودِهِ على سطحِ كوكبِنا، قد بلغَ مرحلةً تطوريةً تسمحُ له بتخزينِ المغذّياتِ الضّروريّةِ بحالةٍ بلوريّةٍ مركّزة فضلاً عن تحوّلِ الإناثِ من التكاثُرِ بالإباضةِ إلى التكاثُرِ بالولادة.

بالعودةِ إلى البحثِ الذي تمّ إجراؤه حديثاً، قامَ الباحثونَ باختبارِ طبيعةِ البِلّوراتِ باستخدامِ تقنيةِ انعراجِ (أو حُيودِ) الأشعةِ السّينيّةِ X-ray diffraction ومطيافيةِ الكُتلة Mass spectrometry، كما تمّ تحديدُ محتوى هذه البِلّوراتِ من الطّاقةِ بهدفِ مقارنَتِها بالطاقةِ التي يُقدّمُها وزنٌ مكافئٌ من حليبِ الثدييّات. وقد خلُصَت النتائجُ إلى غِنى هذه البِلّورات بالأحماضِ الأمينيةِ الأساسية، والكربوهيدراتِ المتمثّلةِ بمركّبِ الغلايكان Glycans، إضافةً إلى حمضيّ اللينولييكِ والأولييكِ الدهنيّين المرافِقَين.

ونتيجةً لهذا التركيبِ الغنيّ لهذه البِلّورات، فإن كميّةَ البروتينِ الداخلةَ في تكوينِ حوريّات Nymphs هذا النّوعِ من الصراصير يتضاعفُ 600 مرةٍ اعتباراً من لحظةِ بدءِ التغذيةِ على المحّ وصولاً إلى لحظةِ خروجِهَا من الكيسِ الحاضِن، ولكمْ أنْ تتخيّلُوا مقدارَ الطاقةِ الذي يمكنُ لهذه البِلّورات أن توّفِرَه، فهو – كما تبيّن للباحثين - يعادلُ 3 أضعافِ الطاقةِ التي توفّرِها نفسُ الكتلةِ من حليبِ عدّة أنواعٍ من الثدييات! خاصةً وأنها تختلفُ عن بروتيناتِ حليبِ الثدييات بعدمِ تشكيلِها لجسيماتٍ كازيئينيّة، بل تتمُّ زيادةُ تركيزِ البروتيناتِ في الأحشاءِ إلى درجةٍ تفوقُ حدّ الإشباع مما يؤدّي إلى بدءِ تشكُّلِ النويّاتِ البِلّورية التي ستَنمو في الحجمِ إلى بِلّوراتٍ مغذيّةٍ كبيرة.

في ضوءِ هذهِ النتائجِ، يرغبُ العلماءُ بتعديلِ المادةِ الوراثيّةِ لخلايا الخميرةِ بُغيةَ دفعِها لإنتاجِ كمياتٍ ضخمةٍ من هذهِ البِلّوراتِ البروتينيّةِ في سبيلِ إنتاجِ مُكمّلاتٍ بروتينيةٍ جديدةٍ تلعبُ دوراً مستقبلياً في حلّ مشكلةِ نقصِ التغذيّةِ الناتجِ عن عوزِ البروتينِ والطاقةِ PEM حولَ العالم، خاصةً وأن الباحثين تمكّنوا من التعرّفِ على المورثاتِ التي تتحكَّمُ بعمليةِ إنتاجِ الحليب، بلْ وإنّهُم يتوّقّعونَ بأن يكونَ للحشراتِ دورٌ أكبرُ في عدةِ نواحٍ مختلفةٍ من حميتِنا الغذائيّةِ في المستقبل.

لا يمكنُ للعلمِ أن يتحرّكَ قيدَ أُنملةِ لولا الفضولِ الذي يدفعُ هؤلاءِ الباحثينَ وأمثالَهم نحو اكتشافِ المجهولِ وتحويلِهِ إلى فائدةٍ تدفعُ بمجتمعاتِنا نحو الأمام. لذلك، وفي المرةِ المقبلةِ التي تصرخُ فيها خائفاً عندَ مشاهدةِ صرصورٍ أو حشرةٍ ما، ننصحُكُم بأخذِ الموضوعِ برويّةٍ أكبر، فهذهِ الحشراتُ الصغيرة، أقدمُ قاطني كوكبِنا هذا، لمْ تقاوِمِ الانقراضَ بمحضِ الصُّدفة!

المصادر:

1. هنا

2. هنا

3. هنا