لمَ النيوترون أثقلُ قليلاً من البروتون؟
الفيزياء والفلك >>>> فيزياء
قد تكونُ بعضُ الأرقامِ ذاتَ أهميةٍ كبيرةٍ من أجلِ فهمِ طريقةِ عملِ الكونِ، وهذا لأنها تصِفُ الطريقةَ الرئيسةَ التي تعمل بها الطبيعةُ. في كونِنا تترأّسُ قيَمُ كُتلِ الجُسيماتِ دونَ الذريّةِ لائحةَ أهمِّ الأرقام. الكثيرُ من الجزيئات معروفةٌ لدى الفيزيائيين، ومعظمَ تلك الجزيئات تتكونُ من ذرّاتٍ، وتلك الذراتُ تتكونُ من إلكتروناتٍ وبروتوناتٍ ونيوتروناتٍ. نعلمُ أنّ البروتونَ أثقلُ من الإلكترونِ، وتحديداً أثقلُ بـ 1.386 مرةً من الإلكترون. ولكنْ، لمَ هذا الرقمُ بالتحديد؟ هذا السؤالُ لا يستطيعُ أحدٌ الإجابةَ عليه. وبالاعتمادِ على أدقِّ وسائلِ القياسِ، وجد العلماءُ مؤخراً أنّ النيوترونَ أثقلُ قليلاً من البروتونِ، وتحديداً أثقلُ بـ 1.00137841887 مرةً. فلمَ هذا الفَرقُ؟
قد يبدو هذا الفرقُ في الكتلةِ عديمَ الأهميةِ لنا، ولكنْ في الواقعِ لهذا الفَرقِ دورٌ حاسمٌ. كيف ذلك؟
حسناً! لنستذكرَ جميعاً معادلةَ آينشتاين الشهيرةَ E=mc^2 (الطاقة تساوي حاصل ضرب الكتلة بمربع سرعة الضوء). تخبرنا هذه المعادلةُ أنّ الكتلةَ هي أحدُ أشكالِ الطاقةِ، ما يعني أنّ النيوترونَ ذو طاقةٍ أعلى من طاقةِ البروتونِ والإلكترونِ مجتمعَين. حسناً، لدينا في الفيزياءِ مبدأٌ ينصّ أنه: عندما تُتركُ النظُمُ الفيزيائيّةُ لوحدِها، فإنها تبحث عن الحالةِ ذاتِ الطاقةِ الأكثرَ انخفاضاً. هذا الأمرُ نلاحظُه عندما نضعُ النيوترونَ في نظامٍ منعزلٍ؛ إذ أنه بعد مضيِّ 15 دقيقةً ينفصلُ النيوترونُ إلى بروتونٍ وإلكترونٍ وإلى مضادِّ النُترينو (هذه المادةُ لا تهمُّنا في وقتِنا الحاليِّ إذ أنها شبهُ عديمةِ الكتلةِ) في عمليةٍ تُدعى انحلالَ بيتا β-Decay. هذا يطرح السؤالَ: لمَ توجدُ النيوتروناتُ إذاً؟ الإجابةُ هي أنّ النيوتروناتِ بعدَ عدةِ دقائقَ من الانفجارِ العظيمِ التصقتْ بالبروتوناتِ، وكانت الرابطةُ التي تشكّلتْ نتيجةَ هذا الالتصاقِ كفيلةً بجعلِ النيوترونِ مستقراً.
ألا زلتُم غيرَ مقتنعين أنّ هذا الفرقَ ذو أهميةٍ كبيرةٍ؟ حسناً! دعونا نفكرْ ماذا يمكنُ أنْ يحدُثَ لو كان البروتونُ أثقلَ من النيوترون.. لنبدأَ بأحدِ العناصرِ الأساسيةِ في الكونِ؛ الهيدروجين. نعلمُ جميعاً أن الهيدروجينَ يتكون من بروتونٍ واحدٍ ومن إلكترونٍ وحيدٍ. لو كان البروتونُ أثقلَ من النيوترونِ، لما بقيَ البروتونُ وحيداً في حالةِ استقرارٍ، أي أنه يتفكّكُ سريعاً إلى إلكترونٍ ونيوترون. ولكنّ ذرةَ الهيدروجينِ تحتوي على بروتونٍ وحيد! نعم عزيزي القارئ، لو لم يكُنْ البروتونُ مستقراً لما وُجِدَت ذرةُ الهيدروجينِ أصلاً. ولولا الهيدروجينُ لما تكونتِ النجومُ! ولما استطاعَ الكونُ تكوينَ العناصرِ الأثقلِ كالكربونِ والأوكسجين! لأصبحَ كونُنا شيئاً مختلفاً تماماً عمّا نعرفُه اليوم.
ولأنّ الفيزيائيّين لا يؤمنون بالحظِّ والصدفةِ، اتّجهوا إلى تفسيرِ هذا الأمرِ باستخدامِ نظريةِ الأكوانِ المتعددةِ؛ إذ أنّ كونَنا الذي تبلغُ فيه نسبةُ كتلةِ النيوترونِ إلى كتلةِ البروتونِ نحوَ 1.00137841887، قد يكونُ واحدًا مِن أكوانٍ عديدةٍ أخرى. فمن الممكنِ أن تمتلكَ الأكوانُ الأخرى نِسبًا أخرى مُختلفةً تستقرّ فيها ذراتُ الهيدروجينِ وتُشكّلُ النجومَ والذرّاتِ الأثقلَ لِتشكلَ كونًا مختلفاً.
يدور الجدَلُ في الوقتِ الحاليِّ حولَ ما إذا كانتْ هذه النسبةُ ثابتةً أم أنّ كتلةَ البروتوناتِ والنيوتروناتِ هي ثوابتُ حرّةٌ (هذا يعني احتمالَ أنها قد كانتْ مختلفةً في السابقِ عمّا هي عليه اليومَ). بدأ هذا الجدلُ أولَ مرةٍ عامَ 1950، عندما ناقش الفيزيائيون قيمةَ هذه النسبةِ للمرةِ الأولى.
ما نعرفُه اليومَ أنّ البروتوناتِ والنيوتروناتِ على عكسِ الإلكتروناتِ ليست جُسيماتٍ أوّليةً. هذا يعني أنها تتكونُ من مجموعةٍ من الجُسيماتِ دونَ النوويّةِ والتي تُدعى "الكْواركاتِ". تمتلك الكْواركاتُ كتلةً، وعلى هذا فإنّ النيوتروناتِ والبروتوناتِ تمتلك طاقةً داخليّةً إضافيةً ناجمةً عن القوى التي تربِطُ الكواركاتِ بعضَها ببعض؛ الأمرُ الذي يساهمُ في زيادةِ كتلةِ البروتوناتِ والنيوتروناتِ طِبقاً للمعادلةِ E=mc^2. هذه البُنيةُ المعقدةُ تجعلُ قياسَ كتلةِ كلٍّ من البروتوناتِ والنيوتروناتِ بالاعتمادِ على كُتلِ مكوِّناتِهما فقط أمراً شبهَ مستحيلٍ! ناهيك عن معرفةِ كيف يمكن للتغيّرِ في كتلةِ هذا الكْوارك أو ذاكَ أن تُساهمَ في الإخلالِ بتلك النسبةِ الحَرجةِ لِكُتلةِ النيوترون إلى البرُوتون.
حتى الآنَ فإنّ الرقمَ 1.00137841887 هو مجردُ "واحدٍ من تلك الأرقامِ" التي استقرّتْ عليها الطبيعةُ لسببٍ لا يمكنُ للبشرِ إدراكُه. ولو اختلفتْ قيمةُ هذا الرقمِ ولو بمقدارٍ بسيطٍ جدًا، لما وُجِدْنا نحنُ البشرُ، ولا جاليليو ولا الإدراكُ بحدِّ ذاتِه.
هنا