المخاطرةُ في سبيل العلم لدراسةِ الدماغِ ، طبيبٌ يضع نفسَهُ تحت المبضع!
الطب >>>> علوم عصبية وطب نفسي
هل تستطيع أدمِغتُنا التحكّمَ بأجهزة الكمبيوتر من خلال الإشارات العصبية؟
"لعقودٍ عديدة، كانت فكرة السيطرة على أجهزة الكمبيوتر من خلال أفكارنا شيءٌ من الخيال العلمي، وحلمٌ لكثيرٍ من العلماء، الإشاراتُ العصبيةُ محظوظةٌ أن تكون الأولى تاريخياً التي تسمح لشخصٍ مشلولٍ - يقظٍ وذكيٍّ ولكن غير قادرٍ على الحركة أو الكلام - بالقدرة على السيطرة على جهاز الكمبيوتر مباشرةً من خلال الإشارات العصبية".
ولكن كيف انتهى الأمر بأحد المخترعين في هذا المجال بإجراء التجارب على نفسه؟
قد تقود التجاربُ الذاتيةُ في بعض الأحيان إلى اكتشافاتٍ طبيةٍ .
فيل كينيدي، طبيبُ الأعصابِ والمخترعِ البالغ من العمر 67 عاماً المولود في إيرلندا، لم يَعُد يرى أيَّ وسيلةٍ أخرى للحصول على البيانات، وفعَلَ شيئاً لم يسبق له مثيلٌ في تاريخ التجريب الذاتي، حيث دفع لجرّاحٍ في أمريكا الوسطى مبلغاً من المال لزرع أقطابٍ كهربائيةٍ في دماغه من أجل تأسيس اتصالٍ بين القشرة الحركية وجهاز كمبيوتر.
الهدفُ العلميُّ لكينيدي هو بناءُ برنامج " تفسير الكلام" الذي يمكّنه أن يُترجم الإشاراتِ العصبيةِ التي ينتجها الكلام إلى الكلمات الموافقة.
لكن العمل الذي نفّذته له شركته الصغيرة "جورجيا للإشارات العصبية " قد تعثّر لعدم كفايةِ التمويل، وافتقارهِ للدعمِ من إدارة الغذاء والدواء الأمريكية FDA، لهذا السبب قرّرَ المجازفةَ لأنّ الجهدَ البحثي الذي بذله طوال 29 عاماً على وشك أن يموت إذا لم يفعل شيئاً.
جنباً إلى جنبٍ مع مجموعةٍ صغيرةٍ من الروّادِ ، طوّر كينيدي في أواخر ثمانيناتِ القرنِ الماضي "واجهاتِ اتصالٍ بين دماغ الإنسانِ والحاسوب"، فقام بتوصيل الأسلاك داخل الدماغ بجهاز كمبيوتر، مما يسمح لمريضٍ مصابٍ بشللٍ شديد بنقل مؤشّرِ الكمبيوتر باستخدام دماغه.
في البداية طوّرَ وحصلَ على براءةِ اختراعٍ لنوعٍ مبتكر من الأقطاب تتكوّنُ من زوجٍ من الأسلاك الذهبية مغطاةٍ بمخروطٍ زجاجيٍّ صغيرٍ، مملوءٍ بمزيجٍ من عواملِ النمو، يُحرّضُ القطبُ الخلايا العصبيةَ المجاورةَ لتنمو في الجهاز.
في عام 1996، بعد التجارب على الحيوانات، وافقت إدارةُ الغذاءِ والدواءِ على السماح لكينيدي بزرع أقطابهِ في المرضى الذين يعانون من شللٍ شديد لدرجةِ أنّهم فقدوا القدرةَ على الكلام أو الحركة.
بعد ذلك، بدأت إدارةُ الغذاء والدواء بطلب بياناتِ السلامة منه، بما في ذلك العواملَ العصبية التي كان يستخدمها للحثّ على نموّ الخلايا. وعندما لم يتمكن كينيدي من توفير البيانات، رفضت FDA الموافقةَ على مزيدٍ من الزرع وسحبت منه الإذنَ لاستخدام الأجهزة في أيّ مريضٍ...
لكنّ كينيدي لم يتقبّل قرارَ إدارةِ الغذاءِ والدواءِ، وشعرَ بالإحباط العلميّ بسبب التعامل مع الأشخاص المعاقين، لأنه لا يستطيعُ التواصلَ معَهم إلا من خلال همهماتِهم أو عيونِهم، وهو الأمرُ الذي أضاف الإرباكَ لتجاربه. عندما تُطلِق الخلايا العصبيةُ إشاراتها، لا يُمكنُ أبدًا أن يكون متأكداً من أن المريض كان يفكرُ.
أصبح كينيدي مقتنعًا بأن السبيل إلى نقل بحثِه إلى المستوى التالي هو إيجادُ متطوعينَ لايزالُ بإمكانِهم الكلام، ولمدةِ سنةٍ تقريباً بَحثَ عن أحدِ المتطوعين الذي لا يزالُ يحتفظُ ببعض القدرات الصوتية، وعندما لم يستطِع الحصول على أيّ متطوعٍ وبعد الكثيرِ من الدراسة والتفكير قرّرَ إجراءَ العمليةِ على نفسِه.
قدّم كينيدي دراساتَ دماغِه الخاصةَ في جمعيةِ علمِ الأعصابِ في شيكاغو، و أثارَت تصرفاتُه الرعبَ والقلقَ بين زملائِه. حيثُ رتّب لعمليةٍ جراحيةٍ على أشخاصٍ أصحاء، الشيء الذي يُعتبر ذلك انتهاكًا لقَسَمِ الأطباء، أُجرِيَت الجراحة في حزيران عام 2014 بعيداً عن متناول إدارة الغذاء والدواء، لم تَجرِ العمليةُ بسلاسةٍ. كانت هناك فرصةٌ صغيرةٌ لكنها حقيقيةٌ للموت في أيّ لحظةٍ أثناء فتحِ الجمجمة. بَعدَ الاستيقاظِ من العملية الجراحية الأولى له، لم يتمكن كيندي من الكلام عندما تحدث الجراحين له، كان قد فَقدَ القدرةَ على الكلام، وأوضح الأطباءُ لاحقاً أن ضغطَ دمِه قد ارتفع خلالَ العمليةِ الجراحيةِ التي استغرقت 12 ساعةً، ممّا تسبّب في وذمةٍ دماغيّةٍ وأدّى إلى شللٍ مؤقت.
وكانتِ الآثارُ الجانبيةُ خطيرةً جداً، ولكن بالرغمِ من ذلك تعافى كينيدي وعاد لعمليةٍ ثانيةٍ بعد عدةِ أشهرٍ لزرع الإلكترونات التي من شأنها أن تسمحَ له بجمع إشاراتٍ من دِماغه.
ثم بدأ كيندي ببذلِ المزيدِ من الجهدِ وحدَهُ في مختبره للكلامِ، وسجّلَ إشاراتِ خلاياه العصبيةِ بتكرارِ 29 مقطعاً صوتيّاً (مثل e، eh، a، o، u والأحرفِ الساكنةِ مثل ch و j) بصوتٍ عالٍ، ثم يتخيلُ بصمتٍ أنّه يقولُها.
فعلَ الشيءَ ذاته مع حوالي 290 كلمةٍ قصيرةٍ مثل "Dale" و" plum" وبعضِ العبارات أيضا مثل: "Hello، world" ،" Which private firm"، و" T he joy of a jog makes a boy say wow".
يقولُ كينيدي أن النتائجَ الأوليةَ التي توصلَ إليها "مشجعةٌ للغايةِ"، وبأنّه اكتشفَ أنّ مجموعاتٍ مختلفةٍ من 65 خليةٍ عصبيةٍ تُطلقُ إشاراتٍ باستمرار في كلِّ مرّةٍ يَلفظُ فيها بعضَ الأصوات بصوتٍ عالٍ، وأطلَقت إشاراتِها أيضا عندما تخيل أنّه يقولها، وهي العلاقةُ التي يحتملُ أن تكونَ المفتاحَ لتطويرِ تحويلِ الأفكارِ إلى كلام.
كان كينيدي يأمل في العيشِ مع الأقطاب المزروعةِ في دِماغِه لسنواتٍ، وجَمعِ البياناتِ، وتحسينِ سيطرتِه، ونشرِ أوراقِه البحثيّةِ، ولكن الشقَّ في جُمجُمَتِهِ خَلَقَ وضعاً خطيراً، وبعد أسابيعَ قليلةٍ من جمع البيانات، اضطرَّ أن يطلُبَ من الأطباء في مستشفى جورجيا أن يُزيلوا الأقطابَ بتكلفةٍ باهظةٍ لم تدفع منها شركةُ تأمينِه سِوى القليل.
كينيدي يَعزو هذه النكسةِ إلى قراره ببناء أقطابٍ كبيرةٍ جداً وتثبيتِها في زاويةٍ غيرِ عاديةٍ لأن ذلك سيُسهّل العملَ، يَعتقدُ الآن أن ذلك كان قراراً خاطئاً. ولكنه سعيدٌ، رَغم كدماتِ ما بعد الجراحة، لأنّه حصل على بياناتٍ جيّدةٍ وسوف يعملُ عليها لفترةٍ طويلة.
برأي بعضِ الباحثين، قراراتُ كينيدي هي قراراتٌ تفتقدُ للحكمة، بل وحتى غيرُ أخلاقيةٍ، فما رأيكم أنتم؟
المصادر:
هنا
هنا