التعليم واللغات > اللغويات

اللغة والساسة.. تلاعب وإقناع

استمع على ساوندكلاود 🎧

تحتفظ ذاكرة البشرية بأقوال رائعة لسياسيين أمثال (تشرتشل) و(لينكولن) و(غاندي) و(تاتشر) وغيرهم ممن سحروا الجماهير بخطبهم البليغة التي أصبحت بعضُ جملها أقوالًا مأثورة نسمعها ونقرؤها في كل وقت وحين، فاللغة أداة الساسة الأولى وطريقهم إلى قلوب الجماهير وعقولهم، فما طبيعة العلاقة بين اللغة والسياسة؟ وكيف يستخدم السياسيون اللغة ويؤثرون فيها؟ هذا ما يحاول مقالنا توضيحه.

 

يشتركُ ساسةُ العالم بصفةٍ مذهلةٍ هي دأبُهم الحثيثُ على الظهور بصورةٍ رائعةٍ أمام الآخرين، لذا نراهم يحاولون كسبَ الصداقاتِ والتأثيرَ في الآخرين من خلال سحر التلاعب اللفظي. فعلى مرِّ العصور فُتِنَ الباحثون بخطبٍ وشعاراتٍ ألقاها سياسيون عملوا على إقناع العامة بمشاريعَ ضخمةٍ أو إعلانِ الحرب أو السلم أو تحفيزِ الشعورِ بالانتماءِ القومي، لكن تبقى بعض الأسئلة مطروحة: هل يمكن استخدامُ اللغة سلاحًا لإقناع الجماهير؟ وهل هذا بالأمر اليسير؟

 

يقولُ المؤرخُ الأمريكي (دانييل ت. رودجرز): «اللغةُ عاملٌ مهمٌّ في لعبة السياسة»، ويصفُ لغةَ الخطاب السياسي الأمريكي عبر التاريخ بأنها حقلُ صراع؛ إذ إن الكلماتِ أسلحةٌ ينبغي استعمالُها أو هي ساحاتٌ للقتالِ على السياسيين احتلالُها وحمايتها، أما فيما يتعلقُ بالتأثير في الرأي العام فتغدو لغةُ الخطاب السياسي أكثر خبثًا ومكرًا، فالملاحظ مؤخرًا أنه كلما أتقن الساسةُ لعبةَ الكلماتِ واستخدامَ اللغةِ استخدامًا غير ملحوظ، كانت آثارُ غدرِ هذه اللغةِ في الجماهير أشدَّ وطأةً.

 

استحداث المفردات والألفاظ الجديدة

 

على الرغمِ من عدمِ وجودِ أية قاعدةٍ أو حيلةٍ ما لاستحداثِ لفظةٍ جديدةٍ، يبدو ذلك ممكنًا بشروطٍ معينةٍ يمكنُ من خلالها أن تصبح لفظةُ جديدة أو مصطلحُ جديدٌ قيد التداول؛ يقولُ عالمُ اللغويات (آلان ميتكالف) في كتابه "التنبؤ بألفاظٍ جديدة" إن هناك عواملَ أساسيةً لا بدَّ منها لظهور أي مصطلحٍ واستمراره في لغةٍ ما، وهي:

 

- التكرار: ينبغي استعمالُ المصطلحِ استعمالًا متكررًا.

- القبول: فيجبُ أن يكون المصطلح متداولًا يسهل حفظه.

- التنوع: قابلية استخدامه من قِبل فئات عديدة من الناس.

- إمكانية اشتقاق أشكال ومعان جديدة: فعلى المصطلح أن يكون مرنًا، مع تنوع طرائق استخدامه.

- الثبات: إذ ينبغي أن تكون دلالةُ المصطلح ثابتةً تدوم طويلا.

 

فعندما يتعلقُ الأمرُ بتحقيقِ الأهدافِ السياسيةِ تستثمرُ الشخصياتُ العامةُ كالسياسيين نتائجَ استخدامِ كلماتٍ جديدةٍ لسببٍ واحد هو أنّ شخصياتٍ قويةً معروفةً مثلها تخطفُ انتباهَ الجماهيرِ تلقائيًا، وإن اختلفت مع أفكارهم ورؤاهم السياسية. وتلاحقُ مؤسساتُ الإعلام من صحافةٍ ومواقعِ التواصلِ الاجتماعي هؤلاء السياسيين على الدوام، وتعيدُ نشرَ كلّ كلمةٍ يتفوهون بها ويحللونها على نحوٍ متكرر، فالإعلامُ يؤدي دورًا لا يمكنُ إنكاره في نشرِ المصطلحاتِ الجديدةِ وترسيخِها والتشجيعِ على استخدامها. يقولُ عالمُ اللغويات (ميشيل سيلفرستين) في دراسته عن شاعريةِ الخطابِ السياسي: «اعتدنا نحن جمهورَ الناخبين المحتملين الإصغاءَ إلى الحوارِ السياسي والنظر إليه بمساعدةِ المحللين السياسيين ومؤلفي الخطب».

 

في عام 2006 لاحظ معلقو بعضِ وسائل الإعلام ظهورَ مصطلح لا قواعدي جديد Democrat Party بدلًا من التسمية الأصل Democratic Party، فقد استُخدم الاسم democrat بدلًا من الصفة democratic، وأدى هذا التغيير إلى فصلِ مفهومِ المركزية الديمقراطية عن اسم الحزب وتحويله بذلك إلى حزبٍ للديمقراطيين، واستمرت وسائلُ الإعلامِ باستخدامِ الصفة وليس الاسم بأساليب مشابهة وفي سياقات جديدة لتسهم بذلك بانتشار أوسع لها.

 

ففي السياسة ليس الهدفُ من استحداث لفظة جديدة التغييرَ في اللغة، وإنما جعلَ الناس يريدون استخدام هذه المصطلحات الجديدة، فأكثر المصطلحات نجاحًا في المجال السياسي هي الجمل الاسمية المكونة من كلمات شائعة بدلًا من الكلمات المصاغة حديثًا، وهي مُعدّة لتُشكِّلَ سردَ الخطاب وتتحكمَ فيه لتُتوِّه بذلك الطرف المعارض ولتشوّش المعلومات، أي لتدعمَ الأجندة السياسية بالدرجة الأولى.

 

وعندما يتعلق الأمر بصناعة شعار سياسي، يُضرب على وتر العواطف، فلغةُ المصطلحات المنمّقةُ والدقيقةُ تفرض تقريبًا على الشخص موقفًا من هويته ومن القيم التي يتمسك بها، وهذا لسببين عاطفيين أساسيين: الأول معرفة الانتماء، والآخر معرفة الآخر الذي يخشاه المرء، فعلى سبيل المثال مصطلح "إعلام ليبرالي" أو "الإعفاء الضريبي" أو عبارة "الحرب على الإرهاب" كلها مصطلحات جديدة تعكس قضية ما، والتي فعليًا يمكن تحويرها لتكون إما قضايا أكثر إيجابية وإما قضايا أكثر سلبية من خلال التلاعب اللغوي.

 

على ما يبدو أن السياسة قد تعلمت الكثير من مجال الإعلانات، فكما هو حال تسويق العلامات التجارية، تُكيفُ اللغةُ السياسية هويةَ الجمهور العاطفية عبر إعطائه شيئًا يمكن أن يكون جزءًا منه (للعمل من أجل أهداف إيديولوجية) ومنحهِ شيئًا يحترس منه (كمنافسين يتحدَّاهم أو قيمًا يحتقرها هذا الجمهور)، هذا التلاعب اللغوي الساحر بالعاطفة وبالهوية له أثر فعّال خاصة في عصر يشهد تبادل المعلومات بسرعة كبيرة وبطرائقَ متطورة ودقيقة، فاختيار المصطلحات والمعاني الجديدة يحدث بعناية تامة لاستغلال آمال الناس ومخاوفهم، قد يبدو تسليح اللغة معقدًا لكنه أبسط مما يبدو عليه.

المصدر:

هنا