الرياضيات > الرياضيات

جائزة Gauss!

استمع على ساوندكلاود 🎧

من المؤكَّدِ أنّكَ قد تساءلتَ يومًا: لماذا ندرسُ الرّياضيّاتِ النّظريّةِ ونتوغّلُ فيها أكثرَ فأكثر مع تقدّمِ المراحلِ الدّراسيّةِ؟ ما حاجتي للرّياضيّاتِ وأنا أريدُ أن أدرسَ الطّبَّ مثلاً؟ بل ما حاجةُ الطّبِّ نفسهِ للرّياضيّات؟! إن لم تكن، صديقي، ممن يرونَ جمالًا في الرّياضيّات لماهيَّتها، لا بأسَ على الإطلاقِ، فما يزالُ من الممكنِ إجابتُك عن تساؤلاتكَ تلك.

يعي الخبراءُ أنّ الرّياضيّات تمثّلُ أساسًا ترتكزُ عليه العديدُ من التّقنياتِ الحديثةِ، ولرغبتِهم بتوعيتِنا بهذهِ الحقيقةِ استحدثوا جائزةَ Carl Friedrich Gauss في الرّياضيّاتِ لتكريمِ العلماءِ الّذين كانَ لأبحاثِهم الرّياضيّةِ أثرٌ ملحوظٌٌ خارجَ مجالِ الرّياضيّاتِ، سواءٌ كان في التّكنولوجيا، أو الأعمالِ، أو حتى في حياتِنا اليوميّةِ.

سُمِّيت الجائزةُ نسبةً للرّياضيّ Carl Friedrich Gauss لأنّه وَلَّفَ بين النّظريّ والتّطبيقيّ بشكلٍ لم يسبقه إليه أحدٌ، و كان من أعظم الرّياضيّين الّذين عرفتهم البشريّة. حيث ساهم في الرّياضيّات منذ صغره بشكلٍ استثنائيّ؛ يُعتَبَر كتابُه "أبحاثٌٌ في الحساب" Disquisitiones Arithmeticae المنشورِ عام 1801 تحفةً بديعةً من الاستقصاءِ والبحثِ العلميِّ إلى يومنا الحاضرِ. وفي العامِ نفسه اشتُهِرَ في نطاقٍ أوسعَ بتوقّعه مكان وزمان الظّهورِ القادم للكوكبِ القزمِ Ceres مستفيدًا من بضع مشاهداتٍ فحسب. ولا تزال طريقةُ المربّعاتِ الصّغرى The method of least squares الّتي طوّرها كأداةٍ مساعدةٍ له في المسحِ الجيوديسيّ لولايةِ Hanover أداةً لا غنى عنها لتحليلِ البياناتِ. كما شاركَ الفيزيائيَّ Wilhelm Weber في اختراعِ أوّل تلغرافَ كهربائيّ، وساهم نظريًّا في الإلكترومغناطيسيّة[1].

أُعلِن رسميًّا عن تأسيسِ الجائزةِ في تاريخِ 30/نيسان/2002 في الذّكرى الخامسةِ والعشرين بعدَ المئتين لميلاِد Carl Friedrich Gauss وتُقَدَّم الجائزةُ كلّ أربعِ سنواتٍ في مؤتمر الرّياضيّين العالميّ International Congress of Mathematicians، وقد قُدِّمت لأوّل مرّةٍ في المؤتمر المعقود في عام 2006[1].

تُمنَح الجائزة لرياضيّ واحدٍ أو أكثر[2] من قِبَلِ الاتّحاد الرّياضيّ الألمانيّ Deutsche Mathematiker-Vereinigung والاتّحاد الرّياضيّ العالميّ International Mathematical Union بالتّشارك. حيث يقوم الاتّحاد الرّياضيّ العالميّ IMU بتعيين لجنة تحكيمٍٍ تحاكي في هيكليّتها لجانَ تحكيم جوائز الاتّحادِ الأخرى، وتقومُ هذه اللّجنةُ بتحديدِ الفائز بالجائزة من بين المرشّحين[1]. كما يتولّى الاتحادُ الرّياضيّ الألمانيّ DMV إدارةَ تمويلِ الجائزة[2]، حيث تُموَّل الجائزةُ من فائضٍ في ميزانيّةِ مؤتمرِ الرّياضيّين العالميّ ICM المعقودِ في برلين عام 1998. تتألّف الجائزةُ من قلادةٍ وجائزةٍ نقديّةٍ[1]، وفي حالِ كان الحاصلُ على الجائزة مجموعةًً من العلماءِ تُقَدَّم مداليّةٌٌ لكلّ فردٍ منهم وتُقسَّم الجائزةُ النّقديّة عليهم[2].

وسّع الاتّحادُ الرّياضيّ العالميّ IMU بمنحِه هذهِ الجائزةَ من نطاقِ جوائزِه ليشملَ تأثيرَ الرّياضيّات في مختلفِ المجالاتِ. تتضمّن فعاليّة التّكريمِ لمحةً وجيزةً من الأعمال الّتي قام بها الحاصلُ على الجائزةِ طوالَ مسيرتِه المهنيّة. كما يُنشَر عرضُ العمل الرّياضيّ للعامّة والصّحافة، لتوعيةِ النّاسِ بدَورِ الرّياضيّاتِ في مجالاتِ الحياةِ[1]. وتحملُ مداليّةُ الجائزةِ هذا الجوهرَ في طيّاتِ تصميمِها، حيثُ يتحدّثُ مصمّمُ الميداليّةِ Jan Arnold عن استلهامِه فكرةَ التّصميمِ من القيمةِ المعنويةِ للجائزةِ قائلًا:

"بُعَيدَ اكتشافِ Giuseppe Piazzi الجرمَ السّماويَّ Ceres في الأوّل من كانونَ الثّاني من عام 1801 انعدمت رؤيةُ الجرمِ ولم يكن هنالك أيّة تقنياتٍ يمكنُ الاعتمادُ عليها من أجلِ توقّع مداره من خلالِ البياناتِ المحدودةِ الّتي جمعَها Giuseppe أثناءَ مراقبتِه الجرمَ. عندها استطاع Carl Friedrich Gauss حسابَ مدارِ الجرمِ بدقّةٍ عاليةٍ جدًّا باستخدام الفكرةِ الجديدةِ والثوريّة الّتي ابتدعها والمشهورةِ اليومَ بـ"طريقةِ المربّعاتِ الصّغرى"، وفي شهرِ كانونَ الأوّل من العام نفسِه شوهِد Ceres للمرّة الثّانية من قِبَلِ الفلكيّ Zack في موضعٍ قريبٍ جدًّا ممّا تنبّأ به Gauss.

كان هذا المثالُ المثيرُ للإعجابِ الملهمَ للفكرةِ العامّةِ لتصميمِ هذه المداليّةِ من خلالِ توضيحِه القوّةَ التّطبيقيّةَ للرّياضيّات.

تظهرُ صورةُ Gauss المنحوتةُ على الوجهِ الأوّلِ من المداليّة مُحلَّلةً إلى نمطٍ خطّيٍّ وغيرَ مكتملةٍ. إنّ عينَ المُشاهدِ هي ما يكمل الشّكل ويحوّله إلى صورةٍ لوجه Gauss. وبالأسلوب نفسه تظهر مجموعةٌ من الخطوطِ العرضيّة كأحدِ ملامحِ وجهِ المداليّةِ الآخرَ. كما يقطعُ الخطوطَ الأفقيّة والعموديّة خطٌّ مُنحَنٍ، ليُرَمِّزَ مع القرص والمربّع الموصولَين به كلًّا من طريقة المربّعات الصّغرى واكتشاف مدار Ceres.

اِختُزِلتِ اللّغة الرّياضيّة إلى عناصرها الأوّليّة الأبسطِ: نقطةٍ وخطّ ومنحنٍ. إضافةً إلى ذلك، تمثّل هذه العناصر العمليّاتِ الطّبيعيّةَ. حيث إنّ المداليّة مجازٌ لتراكبيّة لُغتَيِ الطّبيعة والرّياضيّات."[3]

لِنُلقِ نظرةً معًا على العلماء الّذين نالوا الجائزةَ حتّى تاريخِنا هذا، ولْنَرَ كيف أثّرت أبحاثُهم في المجالات المختلفة:

• اليابانيّ Kiyoshi Itô عام 2006: كان لنظريّة التّحليل العشوائيّ Stochastic analysis الّتي طوّرها آثارٌ عديدةٌ في كلّ من الفيزياء (حركة الغبار في الماء)، والبيولوجيا (تعداد مجتمعٍ حيويّ ما، وتواتر أليلٍ ما في حوض الصّفات الوراثيّة لمجتمعٍ)، والاقتصاد (تحديد أسعار أسهم البورصة)، وعديد من المجالات الأخرى[4].

• الفرنسيّ Yves Meyer عام 2010: لعب دورًا محوريًّا في تطوير نظريّة المُوَيجات والتّحليل متعدّدِ الدِِّقّات Wavelets And Multiresolution Analysis، ما شكّل الأساس لخوارزميّاتٍ تُستَخدَم الآن في كلّ من معالجة الإشارات متعدّدة الدّقات، وضغط البيانات والصّور، والاتّصالات عن بعدٍ، وتحليل بصمات الأصابع، والإحصاء، والتّحليل العدديّ، وتحليل الكلام. كما طُوِّرَت هذه الخوارزميّاتُ لتُستَخدَمَ أيضًا في معيار ضغط الصّور JPEG2000 الجديد[5].

• الأمريكيّ Stanley Osher عام 2014: من أضخم مساهماته تطويرُه طريقةَ مجموعة السّويّات Level Set Method، الّتي تستخدمها معظم شركات إنتاج أفلام الرّسوم المتحرّكة الكبرى لتطبيق قوانين الفيزياء الحقيقيّة على السّوائل في أفلامهم. كما طوّر عدّة خوارزميّاتٍ اِستُخدِمت في تطوير طرازاتٍ جديدةٍ من الطّائرات المخترِقة جدارَ الصّوت، وتطوير رقاقات الكومبيوتر، وتحسين الصّور الرّقميّة غيرِ الواضحة، وحتّى الحصول على صور الرّنين المغناطيسيّ بجودةٍ أعلى في وقتٍ أقلّ[6].

صحيحٌ أنّ عُمُرَ هذه الجائزة لم يتجاوز عقدًا واحدًا من الزّمن، ولكنّ القيمةَ المعنويّةَ الّتي تحملها -ألا وهي تسخيرُ المعرفة النّظريّة لخدمة الإنسان وللارتقاء بالحضارة البشريّة- جمعت بين الكثير من أعمال الرّياضيّين عبر العصور وحتّى يومنا هذا، بل وقد نرى هذه المعرفة في المستقبل تؤثّر بشكلٍ أعمقَ وأوسعَ من خلال تطبيقاتٍ هامّةٍ في نواحي الحياة المختلفة.

المصادر:

[1] هنا

[2] هنا

[3] هنا

[4] هنا

[5] هنا

[6] هنا