التاريخ وعلم الآثار > التاريخ

ملوك من الشرق الأدنى القديم... آشور بانيبال... الحاكم الآشوري المثقف, ملك العالم وملك الآشوريين

استمع على ساوندكلاود 🎧

آخر ملوك آشور العظام، ويعني اسمه (آشور، خالق وريثه)، ابن اسرحدون ملك الإمبراطورية الآشورية الجديدة، يُسمى في كتاب العهد القديم أُسنَفَّر (عزرا 10-4) فيما يُطلِق عليه اليونانيون والرومان ساردانابولوس.

سيطرت الإمبراطورية الآشورية في عهده على بابل، سوريا، فارس ومصر، وقد كان ملكاً محبوباً من شعبه بسبب حُكمه العادل ولكنّه كان قاسياً تجاه أعدائه وعادةً ما ربطهم بالأطواق كالكلاب واحتجزهم في وجارها، اشتُهر بمكتبته الكبيرة في نينوى والتي اعتبرها أعظم انجازاته، وقد تم تدمير عيلامَ أثناء حكمه والتي كانت عصيّةً على الآشوريين الذين سبقوه كما تم إخضاع أورارتو. وقُبيل نهاية حُكمه أصبحت آشور واسعةً لدرجة لم يكن بمقدورهم الدفاع عنها جيداً وبدأت بالتفكك حتى انهارت تماماً بموته.

بداية الحكم والحملات ضد مصر:

احتل اسرحدون مصر في عام 671 ق.م ولكنها ثارت و طردت الولاةَ الآشوريين، فجهز اسرحدون قوّاته في 669 ق.م واتجه إليها ومات في الطريق قرب حدودها، ولكنّه قبل أن يذهب جهّز كلّ شيء ليتولّى ابنه آشوربانيبال مقاليد الحكم حيث جعل زعماء الولايات في آشور يُقسمون على الولاءِ له مسبقاً، كما قامت أمّه بإصدار معاهدة الولاء التي أجبرت البلاطَ الآشوري على القبول بحُكم آشوربانيبال ودعمه، ولمنع أخوه الأصغر من الثورة لاحقاً قام اسرحدون بتنصيب ابنه التالي شمش-شوم-اوكين ملكاً لبابل.

استلم آشوربانيبال الحكم في 668 ق.م وأمرَ باحتفالٍ هائلٍ لتنصيبِ أخيه ملكاً على عرش بابل، وتَصِفُ النقوش فرحةَ البابليين بالملك الجديد الذي أتى جالباً معه تمثالَ مردوخ إله بابل الذي أُخذ من المدينة عندما دمرها سنحاريب جد آشوربانيبال، و رَفَعَ بابل إلى مقام المدن الكبيرة من جديد و اعتبرَ شقيقه أخاه المفضل. وبعد ما أمّن آشوربانيبال حدوده الجنوبية قاد جيوشه باتجاه مصر لإكمال عملِ والده الذي لم يقتل فرعونها عندما غزا مصر بل اكتفى بأخذ عائلته أسرى إلى نينوى ولكن استطاع الفرعون تيرهاكا هرب إلى النوبة.

عند عودة آشوربانيبال لإخضاع مصر دمّر كل المدن الثائرة حتى وصل إلى طيبة جنوباً وقتل جميع الحُكّام ما عدا الملك نيكو في مدينة سايس الذي بقي موالياً لآشور، ثم ذهب ابنه بساميتيكوس إلى نينوى لتعلم طرق الحياة والحكم الآشورية ثم عاد الى مصر التي قُسّمت بينه وبين أبيه نيكو لحكمها تحت السلطة الآشورية. ظنَّ آشوربانيبال أن مصر أصبحت مؤمنة فعاد إلى آشور للتعامل مع مشاكل العيلاميين لكن أحد أقرباء تيهراكا في النوبة واسمه تاتانامي استغل الضعف في حكم مصر المنقسم بين ملكين فقاد جيشاً وسيطر على كل مدينة في طريقه ومن دون جهدٍ يُذكر، ثم قابل القوات الآشورية و المصرية عند العاصمة ممفس، حيث قُتل الملك نيكو لكن الملك بساميتيكوس صدّ النوبيين، وبسبب تفضيل المصريين الحكم النوبي على الحكم الآشوري اضُطر إلى الاختباء. في 666 ق.م وصلتِ الأنباءُ إلى نينوى فعاد آشوربانيبال إلى مصر وهزم الثوار ودمر عاصمتهم طيبة ونصَّبَ بساميتيكوس فرعوناً وحيداً على مصر وترك حصوناً آشورية في المناطق الاستراتيجية ثم عاد إلى آشور في 665 وقضى السنين الثمان التالية في محاربة العيلاميين وأوقف ثورة في صور وأخضع مملكة أورارتو ولكن في أثناء ذلك كانت مصر تبتعد تدريجياً عن القبضةِ الآشورية.

الحملة الأولى ضد عيلام والثورة في بابل:

بدأ بسامتيكوس بالتآمر مع غيره من الحُكام المصريين لِيَنَلْ الاستقلال عن الآشوريين وبمساعدة الليديين في الأناضول قاموا بطرد الجنود الآشوريين الموجودين في مصر في 653 ق.م. لم يرُدّ آشوربانيبال على ذلك بسبب انشغاله بخطرِ العيلاميين الذين كانوا أقربَ إلى العاصمة، حيث سمع عن تحضيرهم للجيوش لتسييرها نحو بابل، ففضّل استلام زمامِ المبادرة وهاجم عيلام دون أن يعرف أنّ أخاه ملك بابل هو من طلب من العيلاميين القدوم. خرّبَ آشوربانيبال المدن العيلامية في طريقه وقَتَلَ ملكَهُم وابنهُ بسيفهِ وبعدها بفترةٍ توجّهَ تحالفٌ بين الميديّن والفرس والسيمريين نحو نينوى ووصلوا أسوارها لكنّ آشوربانيبال وبمساعدةِ حُلفائه السكيثينيين هزمهم وقتل ملك الميديين فراروتس.

في 652 ق.م ثار أخوه أخيراً في بابل واستولى على بعض القرى الآشورية فرَدَّ عليه آشوربانيبال بجيشه الذي قَدِمَ إلى بابل واضطر جيشها إلى الانكفاء داخلها فحوصرت أربع سنوات (حتى أَكَلَ الناس بعضهم حسب النقوش التي وُجدت فيها) وعندما سقطتْ المدينةُ قام الآشوريون بقتل كل من بقي حياً من الناس والحيوانات والماشية وأحرق ملك بابل نفسه حياً خوفاً من الأسرْ، ثم عيَّنَ آشوربانيبال مستشاراً آشورياً اسمه كاندالو ملكاً على بابل.

الحملة الثانية ضدّ عيلام:

في الفترة التي سقطتْ فيها بابل ماتَ ملك عيلام وبدأت حربٌ أهلية بين فصائلٍ مختلفةٍ للحصول على العرش، ما شكّلَ فرصةً سانحةً لآشوربانيبال للتخلص من العدو القديم لآشور فأرسل جيشه من جديد وأحرق المدن ونهبَ الكنوزَ والمقابرَ الملكية وأُخِذَتْ حتى عظام الملوك الموتى أسرى وعندما دمّرَ عاصمتهم سوسة كتبَ في لوحٍ حجريٍ يُوثّقُ انتصاره عليهم :

" أنا من غزا سوسة، المدينةُ المقدسةُ العظيمة، منزلُ آلهتهم، مجلس أسرارهم، أنا من دخلَ قصورهم، أنا من فتحَ كنوزهم حيث جمعوا الفضّةَ والذهبَ والثروات، أنا من دمّرَ هَرَمَ سوسة، أنا من هشّمَ قرونها النحاسيَّةَ البراقة، أنا من هدَّمَ معابِدَها، أنا من نشَرَ آلهتهم مع الرياح، أنا من حطّمَ قبورَ ملوكهم قديمَهُم وحديثهم، أنا من كشَفَ عظامهم للشمس وأخذتهم إلى أرض آشور، أنا من خرَّبَ أقاليم عيلام، أنا من على أرضهم زرعَ الملح."

كما أَخَذَ كُلَّ من له صلة قرابةٍ أو دعوى بالعرش عبداً إلى نينوى، وطبّقَ بباقي السكان السياسةَ الآشورية، حيث وزّعَهُم بين مختلف المدن في المنطقة وتَرَكَ مدنهم حاوية وحقولهم مقفرة وجعلَ عيلامَ خواءً.

مكتبةُ آشوربانيبال:

بَدَتْ الإمبراطورية الآشورية لا تُقهر بتدميرِ عيلام فلم يكُن هناك مملكةٌ أو دولةٌ أخرى قويةً كفاية لمجرّدِ المقارنةِ بآشور وتم إخمادُ كلِّ الثورات الداخلية وإعادة المدن الثائرة إلى الحضن الآشوري. كان آشوربانيبال راعياً للفنون وبإنهاء مشاكله داخلَ الحدود وخارجها أصبح لديه الوقت الكافي فبنى المكتبةَ الشهيرة في نينوى والتي احتوت على أكثر من 30،000 لوحاً من الطين كما احتوت أسطورة الخلق البابلية التي تروي حكايةَ غيلغاميش وهي أقدم قصة مغامرة في الوجود كما وُجد فيها قصّةٌ عن الفيضان العظيم تسبق الإنجيل وكان اكتشاف هذه المكتبة في القرن التاسع عشر من أهم الاكتشافات الأثرية في التاريخ. لم يكتفِ آشوريانيبال بالجمع بل ادَّعى إمكانيته القراءة والكتابة باللغاتِ القديمة حيث قرأ النقوش السومرية والأكادية القديمة، ولم يكن ادعائَه فارغاً بل وُجدت نصوصٌ مسماريةٌ موقعةٌ باسمه: "آشوربانيبال، ملك آشور" ولتحقيق كل ذلك طلبَ من أتباعه ونُوَّابه في كل بلادِ مابين النهرين إرسال نُسخٍ من كلّ ماهو مكتوبٌ، حيث اهتمّ أيضاً باقتناء كل الأعمال المهمة في تاريخ المنطقة وكان يطلبها بالاسم من صلواتٍ وأدعيةٍ وتراتيلَ وتعاويذَ وغيرها من النصوص، ومقدار ما وُجِدَ من النصوص كان خيرَ دليلٍ على نجاحه في مسعاه كما اعتَبر مكتبته من أهم انجازاته حيث وصفها:

"أنا، آشوربانيبال ملكُ الكون، الذي منحتْهُ الآلهة الذكاءَ وامتلكَ النظرةَ الثاقبة للمعرفة الواسعة والمبهمة التي لم يمتلكها أسلافي، وضعتُ هذهِ الألواح للمستقبل في مكتبة نينوى من أجل حياتي وصحةُ روحي وللحفاظِ على دعائم سُمعتي الملكيّة."

وفاته وسقوط الإمبراطورية:

قضى آشوربانيبال بقيّةَ حياته في جمع الكتبِ وترميم نينوى وإدارة بلاده، كما قادَ بعض الحملات العسكرية ورمّمَ بابل حتى 629 ق.م حين ذهبَ إلى حرّان في الشمال للتّداوي وتركَ الإمبراطورية في يَدي ابنه آشور-ايتيلياني الأمر الذي رفضه ابنه التوأم سنشار إشكون وبدأت حربٌ أهلية استغلّتها الأقاليم المختلفة لتحقيق الاستقلال الذاتي وحين تُوفي آشوربانيبال في 627 ق.م تفككتْ الامبراطورية وأعلنت الولايات المختلفة الانفصال تباعاً. وبين 627 و 612 ق.م غزا الفرس والميديون والسكيثيون والبابليون وغيرهم المدن الآشورية ونهبوها حتى دُمِّرتْ كلٌّ من مدن آشور ونينوى وكالو (مدينة نمرود حالياً) في 612 ق.م بحرائقَ كبيرة ودُفنت مكتبة آشوربانيبال تحت القصر المُحترق حتى اكتُشفت بعد ألفي عام مغيرةً نظرةَ العالم للتاريخ القديم بكونها أقدم من الإنجيل الذي كان يُعتبر أقدم كتابٍ في العالم وكانت بحقٍّ أعظم انجازات آشوربانيبال كما ادّعى بنفسه.

المصدر:

هنا