العمارة والتشييد > عمارة سورية التاريخية

نظرة استكشافية: هجرانٌ دمشقي

استمع على ساوندكلاود 🎧

لطالما تحدثنا عن واقع مدينة دمشق القديمة وحاولنا توثيقه وتوصيفه والحديث عن الخطر المحدق بالمدينة على صعيد البيئة العمرانية والبنية المعمارية سواء بحالتها الفيزيائية أو الاجتماعية، وتم تحديد العديد من الخطوات والاستراتيجيات الواجب اتباعها للحفاظ على هذا الموروث الحضاري الهام. ولكن هل كل ذلك كافياً؟

قام عددٌ من الباحثين في مجال العمارة برحلة دراسية معمارية إلى سوريا في عام 2011، لاحظوا من خلالها أنه قد تم هجران المدينة القديمة والتخلي عنها منذ فترةٍ طويلة. وأنّ هذا التراث الثمين ما زال يعاني من تدهورٍ خطيرٍ بسبب الحرب والأزمة التي تعصف بالبلاد منذ ذلك الوقت.

يتحدث تقرير هؤلاء عن عظمة مدينة دمشق التاريخية وكيف تمكنوا من الإحساس بهذا التاريخ وتعقُّبه من خلال بنية المدينة القديمة كأعمدة معبد جوبيتر والشارع المستقيم "يتمثّل بسوق مدحت باشا حالياً" وعددٍ كبيرٍ من الآثار الأخرى. لكن بالرغم من تنوُّع النسيج الحضري للمدينة إلّا أنّ الفترة العثمانية تهيمن على عمارتها بشكلٍ واضح بسبب التأثُّر بالاحتلال الذي استمر حوالي 400 عام، وبدء دمشق بالتوسُّع في تلك الفترة بسبب موقعها آنذاك حيث أصبحت محطةً رئيسيةً على طريق الحج إلى مكة مما زاد من ثروة المدينة وحوّلها إلى مركزٍ تجاريٍ مهم، وبالتالي انعكس هذا الغنى في البيئة العمرانية حيث بذخ الناس في بناء بيوتهم وتحويلها إلى تحفٍ فنية ووصل عدد المنازل والقصور عند نهاية الاحتلال العثماني إلى حوالي 16000 منزلاً. للأسف أكثر من نصف هذه المنازل لم يعد موجوداً، أما ما تبقّى فقد تم ترميم بعضه بشق الأنفس والبعض الآخر استُنسخت ديكوراته الدقيقة ورُمِّمَت على عجل بمحاولةٍ يمكن وصفها بالبائسة وقسم أخير تم هجرُهُ وتركه للخراب.

ينعكس نسيج المدينة من خلال الفراغات الخاصة للمنازل والمتمثلة بأفنيتها الداخلية

يعرض التقرير سبباً مثيراً لهجران المدينة القديمة ويرجعه إلى ستينات القرن الماضي بعد ظهور السيارة وعدم قدرة طرق المدينة القديمة وتخطيطها لاستيعاب السيارات. وبدأ الجيل الدمشقي الجديدُ المطالبةَ بالاستقلالية والابتعاد عن نمط المعيشة التقليدي، فبدأت الهجرة من المدينة القديمة إلى المناطق الحديثة خارجها وبدأت نخبة العائلات الدمشقية تنظر إلى المدينة القديمة على أنها منطقة عشوائيات وتجمُّعٍ للفقراء.

"بيت القوتلي" هو مثالٌ لهذه البيوت المهجورة وذات القيمة التاريخيةِ الكبيرة. تم بناء هذا المنزل قبل 200 عام تقريباً في ذروة العهد العثماني. وعلى عكس أغلب بيوت تلك الفترة التي تعود لعائلاتٍ مشهورةٍ في المجال الحربي أو الديني، فإن بيت القوتلي كان لعائلةٍ معروفةٍ بالتجارة كما أنه وُظِّف سابقاً كأول قنصليةٍ بريطانية في سورية، أما الآن فالبيت مهجورٌ وحالته يُرثى لها.

كمعظم البيوت الدمشقية ذاتِ الفِناء، يمكن القول أنَّ بيتَ القوتلي ينغلقُ على الخارج ظاهراً بمظهرٍ متواضعٍ ومتقشف وينفتح نحو فِناءٍ داخلي، حتّى أنّه يصعب تمييز حدوده من الخارج عن حدود المنازل المجاورة حيث أنّ جميعَ الواجهاتِ مغلقةٌ، وقليلةُ النوافذ وتمتد كأنها واجهةٌ واحدة، إلا أنّه بمجرد دخول الباب الأمامي وعبور قاعةٍ بيضاءَ فارغة باتجاه الفناء سيجد المرءُ تفسهُ محاطاً بالزخارف والطرز المعمارية والإكساءاتِ متنوّعةِ الألوان والأشكال، من البرتقالي الفاتح فاللون البني الفاتح إلى الأسود القاني من حجارة البازلت، تتزين الواجهاتُ الداخليةُ على شكل شرائطَ افقيةٍ تندمج بالتفاصيل الجصية والفسيفساء، وتتوسطُ الفناءَ نافورةُ ماء. هذا التصميم لم يأتِ عبثاً بل كان حلاً متوافقاً مع ظروف المناخ السوري، ففي الشتاء تشكّل الأرضيات الخشبية في الغرف العليا عازلاً للبرودة، وفي الصيف يلعب الفناء دور المكيف في البيت.

يتحدث الباحثون عن تفاصيل المنزل ويصفونها بدقةٍ كبيرةٍ من الناحية الهندسية والحجمية والفيزيائية والجمالية واختيار الألوان وتناسقِها في البيت الدمشقي، ووظائف الفراغات المتعددة كاللّيوان، وتأثيرات العمارة الإسلامية في تصميم المنزل.

ثم تطرق الباحثون إلى أسباب سرعة خراب هذه المنازل وحاجتها إلى الترميم باستمرار ووجدوا أنّ أحد الأسباب هو أسلوب وتقنية البناء، حيث بنيت الطوابق السفلية من البيوت الدمشقية باستخدام الحجر البازلتي والحجر الجيري بصفوفٍ متناوبةٍ بما يعرف بالأبلق. إلّا أنّ الطوابق العليا كانت تُبنى باستخدام الخشب والطوب المجفف واللِّبْن المكَّون من الطين والقش ويُنهى بطبقةٍ أخيرةٍ من الجبس الجيري. كانت هذه المواد سريعة الصنع إلّا أنّها موادٌ مؤقتةٌ وتحتاج إلى صيانةٍ دائمة لكنّها بنفس الوقت تسمح بإعادة تشكيل المنزل أو توسيعه بسرعة وسهولة. الآن وبعد عقودٍ من إهمال المالكين لهذه المنازل وترْكِها دون صيانةٍ دائمة، تدهورَ وضعُها بشكلٍ كبير و يظهر هذا بكل وضوحٍ في بيت القوتلي، حيث أدّى اختراقُ المياهِ للأسقف الطينية إلى انهيارها وزوال الزخارف الدقيقة المرسومة عليها وعلى الأعمدة.

تُقسم المحاولات القليلة المتواضعة لترميم هذه المنازل إلى نوعين:

الأول هو تحويل هذه المنازل إلى فنادق واختيارُ مرحلةٍ معينة من تاريخ المنزل ومن ثم ترميمه بكل تفاصيله بما يتوافق مع تلك المرحلة المحددة فقط مما يتقصُّ من القيمة التاريخية الحقيقية للمبنى.

الطريقة الأخرى تتمثل بتجربة المعهد الثقافي الدانمركي في دمشق بإعادة إحياء بيت العقّاد حيث أُخِذت بعين الاعتبار جميعُ الفترات الزمنية التي مرّت على المنزل، وبذلك كان بالمقدور كشفُ تاريخِ المنزل وقصتهِ واستيضاحُ مراحلَ تدهورِ نسيجه مما أعطى فكرةً وتصوُّراً أوضح عن ذاكرة المنزل.

يقول الباحثون أنَّ ما شهدوه في بيت القوتلي كان أقربَ ما يكون لمغامرة طفولية حيث تشعر بأنك المستكشف المقدام وأوّلُ من شاهد هذا المنزل لحظة وصوله إلى شفير الهاوية، في اللحظةِ الّتي يترنُّح فيها قبل الانهيار، ما بين الحياة والاندثار. لقد شهدت شوارع دمشق بعد رحلتنا هذه العديد من أحداث العنف وهناك صراع دائم للبقاء على قيد الحياة وما يثير القلق هو ما سيلحق لهذه المنازل والقصور الدمشقية القديمة، هل سيكتب لها النجاة أم لا.

المصدر:

هنا

الخلفية الموسيقية:

حب في دمشق- الموسيقار رضوان نصري