كتاب > روايات ومقالات

مراجعة كتاب (أنا الموقع أدناه.. محمود درويش)

"إِلى كلِّ المُتنزهينَ تحتَ المطرِ الباريسي وهُم سُعداء".

بِإهداءٍ فاتنٍ كَهذا بدأت إيفانا أُولى صفحات الكِتاب، قَد لا يكتَشفُ قارئُ هذه السُّطور (الفِتنةَ) التي أتحدثُ عنها، وإنني لأجدُ لهُ أعذاراً في ذلك فَهو لم يقرأ الكِتاب ولَم يتلمس العاطفةَ في شِعر الكبير "محمود درويش"، أو لِأنّهُ ببساطةٍ لم يَعشَق درويش الباريسي.

قَد تَصدقُ النُّبوءاتُ أَحياناً وَقد نُثابرُ ونعملُ بِدأبٍ لِنُحققها، تقول إيفانا مرشليان أنها عندما سُئِلت في الامتحان الاختباري الأَول عَن سَببِ التحاقِها بِكليةِ الإِعلام أَجابت "لأُحاورَ يَوماً... محمود درويش" وها هي النُّبوءةُ تتحقق.

كتابٌ أشبهُ بباقةِ زهرٍ درويشيه تتكون من اثنتا عشرةَ زهرة هي الأسئلةُ التي طرحتها الكاتبةُ على الشَّاعِر، ولكن هذا ليس كل شيء! يبتدِئ الكتاب بِسردِ حيثياتِ هذا اللقاء الصّحفي الذي قرر "محمود درويش" أن يُجريه وعلى مَضض بعدَ صيامٍ دام قُرابة أربعة أعوام، فَهو يرى بأنَّ كل ما يريد أن يقوله للناس قد قاله وليس من دواعٍ لقول المزيد، ولكنّ "الرَّهيبةَ" إيفانا كما كان يدعوها درويش أَثارت الرَّغبة لدى الشَّاعر لقول المَزيد.

تروي الكاتبة بشيءٍ من التَّفصيل الأحداث التي جرت في الأيام التي سبقت اللِقاء مع الشَّاعر، ولعلَّ مُتعة الكِتاب تَكمُن هُنا، تفاصيلٌ تُعرفُنا على "محمود درويش" كما لم نعرفهُ من قبل ولكن كما يتخيلهُ الكثيرون، فها هو في شِقته الباريسية الفاخرة وها هي مَكتبته المنزلية الزَّاخرة بالعناوين التي يألفها الشَّاعر، وستكون قارئي العزيز ضيفاً على محمود درويش في منزلهِ وسوف يعد القهوة التي قرأتَ عنها الكثير في "ذاكرة للنسيان"، ولسوفَ تنعمُ بِمُتعةِ المَشي تحت المَطرِ العاطفي في الشَّوارعِ الباريسيةِ، و سَتقِفُ مُطولاً أمام خِفةِ ظِل هذا الإنسانِ الشَّاعر.

تكمنُ زُبدةُ الكِتاب في التَّقديمِ الطَّويلِ الذي تعرضهُ الكاتبةُ، ولَعلني أَجرأُ على القول بِأنَّ هذه المُقدمةَ جاءت كَنصٍ رِوائيٍ قصيرٍ جِداً وساحرٍ جِداً أَدخلنا في مَتاهةٍ عَاطفيةٍ حَبسنا خِلالها دَمعاً مُراً على ذِكرى شَاعِرنا الطَّيبة.

بعدَ هذه المقدمةِ الرَّائِعة تورِدُ الكاتبةُ النَّص الكامِلَ للحِوارِ الذي أَجرتهُ مع الشَّاعِر وهو عِبارةٌ عن اثنا عَشرَ سُؤالاً تَناولَت فيها الكَثيرَ عَن حَياةِ "درويش" وشِعرهِ وَتَنقُلهِ مِن بَلدٍ إلى آخَر حَتى استقرَ بِهِ المَقامُ في بَاريس. ولقد لَمست بَعضُ الأَسئلة جَوانبَ شَخصية لدى الشَّاعر كالسؤال عن "ريتا" التي لا يَنفكُ يَذكُرها في شِعرهِ، أمَّا أُمه التي يَصفُها بِأنَّها الأَرض وأَنه لا يُريدُ مِن البِلادِ التي ذَبحتهُ غَير مِنديلها وأَنه لا يَنفكُ يَحنُّ إِلى قَهوتها، فيقول عنها:

"أُمي هي أُمي. لَو استطعتُ أَن أَفُك خَصرها وَضفائِرهَا مِن لَعنةِ الرُّموزِ لَفعلَت. وعندما لا أَطلبُ غَيرَ مِنديلِ أُمي فَلأَنني أَسعى لاستردادِ مَلامِحي الأُولى، لاستردادِ إِنسانيتي فِي صُورتي كَما هي، لا كَما تَرسمُها الجَريمةُ الكُبرى التي ارتُكِبَت فِي بِلادي".

لَم يُنشر هذا الحوارُ الصَّحفي في حينها أي في شِتاءِ 1991، وذلك بِناءً على طلبِ محمود درويش نَفسه. كُتِبَ هذا الحوار بِخط "درويش" نَفسه، ويحتوي الكتاب على نُسخةٍ مِن هَذهِ الأَوراقِ المَكتوبةِ بخَطِ الشَّاعر بالإضافةِ لِصورٍ ملونةٍ جميلةٍ لمحمود درويش في منزلهِ المُطلِ على بُرج إيفل.

وحينَ سَألَت إيفانا الشَّاعر عن توقيت النَّشر قال: "ليسَ الآن خَبئّيها مَعكِ وَحافظي عَليها جَيداً!! أَنتِ وَحدكِ سَتعرفينَ مَتى يَحينُ الوَقت. رُبما بَعد 20 عاماً أو أَكثر... لِيكُن كِتاباً أَنيقاً، مُكمَلاً بِالصُّور أَو الرُّسومات المُناسبة، وَلا مانعَ مِن أَن يَضمَ ذِكرى نُزهاتِنا في شوارعِ -السَّازيام-الغَامضة، فَقط كي لا تُنسى مِثلنا هذه النُّزهات قَريبَاً وَيمُر عَليها الزَّمن، حِينها لَن أَكون... ولَن تكوني".

كما تمنى " درويش"، جاء هذا الكتاب أَنيقاً وجميلاً ومُكملاً بِالصُّور وِبنُسخَةٍ مِن خَط يدهِ. وَلعلَّ هَذا الكِتاب هو بَاقةٌ مِن زَهرِ البَنفسجِ الجَميل أَهدتهُ الكَاتبةُ لِروحِ الشَّاعرِ الرَّمز.

معلومات الكتاب:

الكتاب: أنا الموقع أدناه... محمود درويش

المؤلف: إيفانا مرشليان.

دار النشر: الساقي

عدد الصفحات: 140 قطع متوسط.

الرقم الدولي: 9786144257319