الرياضيات > الرياضيات

ايمي نوثر عبقرية رياضية أبدعت أحد أعمق المبادئ في الفيزياء النظرية

استمع على ساوندكلاود 🎧

من هي إيمي نُوثِر؟ عالمةُ الرِّيَّاضيَّاتِ التي بَزَغَ نَجْمُهَا في النِّصفِ الأولِ مِنَ القَرْنِ العِشْرينِ وَما سِرُّ وَرَقَتِها العِلميَّةِ التي حَمَلَها أينشتاين قائلاً إنَّها الورقةُ التي يَجبُ على الجميعِ أنْ يَقرأها ؟!

وُلِدَت إيمي نُوثِر عامَ 1882 في ألمانيا ، رِيَّاضيَّةٌ بَارِعَةٌ في علومِ الجَبْرِ المُتَقَدِمَةِ ، حتى عُرِفَتْ بأنَّها أحَدُ أَلْمَعِ العُقولِ وَأكْثَرُها إبداعاً في الجَبْرِ المُجَرَدِ عَبْرَ العُصُورِ.

فَهَلْ حَقاً تَسْتَحقُّ ذَلكَ الوَصْفَ المُمَيَّز ؟

درستْ إيمي نُوثِر اللُّغاتِ الأَجنبيةَ ( الفرنسية و الإنكليزية) في إحدى مَدارسِ البناتِ في عامِ 1900 ، رغمَ أنَّها كانت ميالةً لدراسةِ الرِّيَّاضيَّاتِ ، إلا أنَّ ذلكَ لَمْ يكنْ مُمكِناً للإناثِ في ذلكَ العَصْرِ ، قَضَتْ إيمي الفترةَ بينَ عَامَيّ 1903 وَ 1904 كطالبةٍ مستمِعَةٍ لِدوروسِ الرِّيَّاضيَّاتِ في جَامعةِ غُوتِنْغِنْ ، وَكَانَ مِنْ حُسْنِ طالِعِها أنَّ الأساتذةَ كانوا مِنَ الرُّواد ، مِنْ بَينِهم مِنْكوفِسْكي ، وَهِلْبِرْت بالإضافةِ لشْفَارتْزْفِيلْد ، عادت لِتُكمِلَ دراسَتَها في إرْلِنْغِنْ مسقطِ رأسِها بعد أن أصبَح التحاقُ الفتياتِ بدروسِ الرِّيَّاضيَّاتِ أمراً مُمكناً. قَدَمَتْ إيمي أُطرُوحةً عن اللامُتغيراتِ الجبريةِ عامَ 1907 ، وَعَمِلَت في نفسِ الجامعةِ مِن دونِ أَجْرٍ على أبحاثِها الخاصةِ ، بمساعدةِ والِدِها الرِّيَّاضيّ ماكس نُوثِر .

في عامِ 1915 عادت مُجدداً إلى غُوتِنْغِنْ بدعوى من دِيفيد هِلْبِرْتْ الرِّيَّاضيّ البَارز ، للاستفادةِ مِن خِبْرَتِها في الجَبْرِ في استكشافِ النَّظريَّةِ النِّسبيَّةِ العامة التي كانَ أينشتاين قَد نَشَرها حَديثاً ، وَبِدعْمٍ مِنْ هِلْبِرْتْ وَرِيَّاضِيٍّ أَخَرْ هُوَ فِلِكْسْ كْلايْن، تَمَكَنَت إيمي مِنَ البَقَاءِ في الجَامِعَةِ رَغْمَ الجَوِّ الذُّكُوريِّ الرَّافِضِ لِوجُودِها كَمُدَرِّسَةٍ وَبَاحِثَةٍ هُنَاك، حَيثُ أَلْقَت المُحاضَراتِ بِاسْمِ هِلْبِرْتْ نَفْسِهِ الَّذي أَعطَاها ذَلِكَ الحق .

الحَدَثُ الأَبرَزُ في حياةِ إيمي نُوثِر حَدَثَ عامَ 1918 ، حيثُ اكتَشَفَتْ خَاصَةً للأنظِمةِ الفِيزيائِيَّةِ، ليسَت فقط بالغةُ الأناقةِ كَونَها مُعَمِمَةٌ لجميعِ الأنظمةِ الفيزيائيَّةِ ، بَلْ وبالغةُ العمقِ أيضاً إذْ أنَّها تُعَمِّمُ قَانونَ انحفاظِ الطَّاقّةِ بأناقةٍ ، وتتنبأُ بانحفاظِ بعضِ المقاديرِ الفيزيائيَّةِ المُمَيِّزَةِ لنظامٍ فيزيائيٍّ ما ، عند استيفاءِ شرطِ التَّناظُرِ ، ووجودِ تناظُرٍ عندَ انحفاظِ مقدارٍ ما ( لايتغيرُ المقدارُ عندَ إجراءِ أيَّ تغييرٍ في جُملَةِ الإحداثياتِ) ، تُسمى هذه الخاصة بِمُبَرهَنَةِ نُوثِر، وَتَمَّ عَرْضُها على مجموعةٍ مِنْ عُلماءِ الرِّيَّاضيَّات في مُحَاضَرَةٍ عَامَةٍ عامَ 1919 .

لِشَرحِ هذا المبدأ بتفصيلٍ أكثر، سنأخذُ فيما يَلي نظرةً أقربَ معَ مثالٍ مُنَاسبٍ:

يَنُصُ مبدأُ إيمي نُوثِر على أنَّهُ "مِنْ أجلِ أيِّ تناظرٍ مستمرٍ في الطبيعةِ (في نظامٍ فيزيائيٍّ ما)، لابُدَّ مِنْ وجودِ قانونِ مَصونيَّةٍ موافقٍ، وَمِن أجْلِ أيِّ قانونِ مَصُونيَّةٍ لابُدَّ مِنْ وجُودِ تَناظرٍ مستمرٍ موافق"

هذا القانونُ يَربِطُ بينَ الفيزياءِ و التَّناظُرِ المُجَرَدِ، يُقْصَدُ بقانونِ المَصُونِيَّةِ وجودُ مِقدارٍ فيزيائيٍّ واصِفٌ للنِّظامِ لا تتعلقُ قِيمتُهُ بالجُمْلَةِ المَرجِعيَّةِ، فالمِثَالُ الأكثَرُ شيوعاً هو قانونُ انحفاظِ الطَّاقَةِ، يُمكِنُ رَبْطُهُ بانحِفَاظِ قيمةِ اللاغرانجيان (والذي هو الفرقُ بينَ الطَّاقةِ الحركيَّةِ وَالطَّاقَةِ الكامِنةِ للنِّظام) مِنْ أجلِ أيِّ تغيرٍ في الجملةِ المرجِعيَّةِ، عِندَ إجراءِ أيِّ انسحابٍ أو دورانٍ، وَيُمكِنُ رَبْطُ ذلكَ بِفَشَلِ اختراعِ مُحَرِكٍ دائمِ الحَركَةِ، أو محركٍ يَعْمَلُ مِنْ دونِ طَاقَةٍ، كَونُ كُلِّ النَّماذجِ المُقتَرَحَةِ لمِثْلِ هكذا مُحَرِكٍ، أو لِنَقُلْ أغلبَها، لا تَعْدو كَونَها تُجري انسحاباً أو دوراناً أو كِلاهُما أو مَجموعةَ انسحاباتٍ ودوراناتٍ على أملِ الحُصُولِ على طاقةٍ مِنْ لا شيء، الأمرُ الذي يَتَعارَضُ و مَبْدأُ انْحِفاظِ اللاغرانجيان المُرتَبِط بمبدأ نُوثِر للتناظُر ، إذْ أنَّ الطَّاقةَ الدَّاخليَّةَ للنِّظامِ لا تتعلقُ بالجُمْلَةِ المَرْجِعِيَّةِ*.

لَمْ تؤثِّرْ هَذهِ المُبَرهنة على الفيزياءِ النَّظريَّةِ وَحَسْب، إذْ اعتُبِرَتْ مِنْ أَهَمِّ ما أُنْتِجَ في ذلكَ الفَرْعِ مِنَ الفيزياءِ، بَل وفَتَحَتِ البَابَ أمامَ إيمي نُوثِر لِدُخولِ المَجالِ العِلمِيِّ، الَّذي كانَ يُسيطِرُ عَلَيهِ الذُّكُورُ إلى حَدٍ بَعيدٍ في تِلْكَ الفَترَةِ.

تَرَكَزَتْ أبحاثُ إيمي فِي السَّنواتِ السِّتِّ التَّاليةِ على نظريَّةٍ مُعَمِمَةٍ لِنَوعٍ مُحَدَدٍ مِنَ المجموعاتِ الجُزئيَّةِ الحَلَقيَّة ، وَالتي تُسمى بالأمْثَليَّات، وَساهَمَتْ جُهودُها تِلك في دَفْعِ مَجالاتٍ مُتنوعةٍ مِنَ الرِّيَّاضيَّاتِ نَحْوَ الأمامِ.

بعدَ عامِ 1927 ، رَكَّزَت إيمي عَمَلَها على تعميمِ الجَبْرِ اللاتَبَادُليِّ حيثُ تمكنَتْ مِنْ بِناءِ نَظَريَّةٍ مُعَمَمَةٍ في ذلكَ الموضوعِ، وبالتَّعاونِ معَ بعضِ زُملائِها في ذلكَ العَصْرِ تَمكَّنَت مِن ابْتِكارِ طريقةِ مفاهيمٍ جديدةٍ لذلكَ الفَرْعِ من الجَبْرِ- الجبر اللاتبادلي ذو التَّطبيقاتِ الواسعةِ في نظريَّةِ الحقولِ - وَنُشِرَت عِدةُ أوراقٍ مُتتاليةٍ في تلكَ الفَتْرَةِ تتحدثُ عن ذلكَ الموضوع.

بالإضافةِ إلى البحثِ وَالتَّعليمِ ، انْخَرَطَت إيمي نُوثِر في تَحريرِ إحدى أقوى دَّوريَّاتِ الرِّيَّاضيَّات في جامعةِ غُوتِنْغِنْ في ذلكَ العصرِ، وكانت مِنْ أنشَطِ وأقوى الباحثين في الرِّيَّاضيَّات في جامِعَتِها بين عامي 1930 و 1933 ، وأغلبُ مقالاتِها كانت بالتعاون معَ زملائِها أو طلابِها ، حيث كانت بعضُ الملاحظاتِ تُثيرُ فيها أفكاراً جديدةً فتطلبُ من زملائها أو طَلَبَتِها إكمالَ العملِ.

من إسهاماتِها الجديرة بالذِّكْرِ ، ما أنتجته في الطبولوجيا ، حيث ساهمت إحدى أفكارِها التي تبناها هاينْزْ هوبْف ، وهو من روادِ الطبولوجيا الجبرية ، أدى ذلكَ إلى تطويرِ مفهومِ الهوموتوبي ، وهو تحويلٌ اشتُهِرَ لاحقاً في الطُّبولوجيا ، فَثَمَّةَ نُكتةٌ تقليديَّةٌ في مجالِ الطبولوجيا تقولُ أنَّ الطُّبولوجيين لا يستطيعونَ التَّمييزَ بينَ فنجانِ القهوةِ والإطار ، لأن أَحدَهُما يَنْتُج عن الآخرِ بتحويلٍ طُبُولوجيٍّ مستمرٍ (هوموتوبي) دونَ أنْ يَمُسَّ ذلكَ من خواصِه الطُّبُولوجيَّةِ ، كالترابطِ مثلاً.

العَصْرُ الذَّهَبيُّ لإيمي نوثِر لَم يَدُمْ طويلاً ، حيثُ اقتَربَ عصرُ النَّازيَّةِ، مما اضْطُرَّها للهَرَبِ إلى الولاياتِ المُتحدَةِ الأمريكيَّةِ ، حيثُ عَمِلَت كأستاذَةٍ زائرةٍ في كليةِ برين ماير ، بالإضافةِ إلى إلقائها للمحاضراتِ والأبحاثِ في معهدِ برينستون للدراساتِ المُتقدمةِ ، في فترةٍ مُتزامِنةٍ مع تواجد أينشتاين فيه .

الموتُ بَغْتَةً كانَ بانتظارِها بَعدَ عامينِ من وصُولِها للوِلاياتِ المتحدةِ الأمريكيّة، حيثُ تُوفيت جَرَّاءَ مضاعفاتِ عمليةٍ جراحيةٍ قامت بها عامَ 1935 ، نَعاها رائدُ الفيزياءِ الحديثةِ ألبِرْت أينشتاين قائلاً : " لقدْ كانت إيمي نُوثِر أهمَّ النِّساءِ وأكثَرَهُنَّ إبداعاً و أثراً ، فلا نَظيرَ لعبقريَّتِها الرِّيَّاضيَّةِ منذُ أنْ أصبَحَ التَّعليمُ العَالي مُتاحاً للنِّساء"

المصادر:

هنا

هنا

كِتابُ الكَون والتناظُر الجَميل، لكرِستوفَر هيل، الصَّفحات بين 169 و 174