كتاب > مفكرون وكتّاب

رحيلُ عميد المفكرين والنقّاد العرب.. جورج طرابيشي

استمع على ساوندكلاود 🎧

جورج طرابيشي، مفكرٌ وباحثٌ سوري ولدَ في مدينةِ حلب عام 1939م، حاصلٌ على إجازةٍ في اللغةِ العربية وماجستير في التربية من جامعةِ دمشق، عملَ مديراً لإذاعةِ دمشق من عام 1972م وحتى عام 1984م، ورئيساً لتحريرِ مجلةِ الوحدة من عام 1984 وحتى 1989.

نذرَ طرابيشي حياتَه الفكريةَ والنقدية في فضحِ العقولِ وقد تميّزَ إنتاجُهٌ الفكري بتعددِ الاتجاهاتِ ما بينَ الترجمةِ لفرويد، هيغل، روجيه غارودي، وصولاً لسارتر، حيثُ قامَ بترجمةِ أكثرَ من مئتي كتاب، وكذلكَ الاهتمامِ والتأليف في فكرِ النهضةِ العربية، وقراءةِ ومراجعةِ التراثِ العربي الإسلامي.

في بدايةِ حياتِه تبنّى طرابيشي الأيديولوجيات الغربيةِ الحديثة سواءً أماركسية كانت، أو قومية أو اشتراكية، فاتّجهَ تفكيرُهُ وبنيانُ عقلهِ إلى هذهِ الأيديولوجياتِ الغربية، جاعلاً منها زاداً لعلمِه وثقافتهِ، متجاهلاً التراثَ العربي معتبراً أنّه تراثٌ صَدئ لا حولَ لَه ولا قوّة، ولكن مع قدومِ النكسةِ عام 1967م، ومن ثمّ انتشارِ العنفِ والتطرفِ باسمِ الإسلام، والحربِ الأهليةِ والاقتتالِ الطائفي في لبنان الذي كانَ يقيمُ فيه، جعلتهُ كلُّ هذهِ الصدمات، يعيدُ النظرَ في موروثِه وتراثِه الثقافي.

وعندها هاجرَ طرابيشي من لبنان إلى فرنسا، وهناك كانت بدايةُ تصالحِهِ مع الموروثِ والتراثِ الثقافي العربي، الذي جعلَهُ يصلُ إلى أُولى استنتاجاتِهِ، ألا وهيَ أنّ "العقلَ الغربي صارَ متفوّقاً وعالمي الحضارة حينَ مارسَ النقدَ الذاتي، أمّا نحنُ الذينَ لدينا موروثٌ ثقافيٌ لا يقلّ أهميةً أو حجماً عن الموروثِ الغربي، فإننا لن نستطيعَ أن نباشرَ مهمّةَ التحديثِ والوصولِ إلى النهضةِ المرجوةِ ما لم نقمْ بالعمليةِ النقديةِ نفسِها، التي أخضعَ الغربُ نفسَهُ لها، فنحنُ لنْ نستطيعَ أن نخوضَ معركةَ الحداثةِ ونحنُ عراةٌ من النقدِ الحقيقي".

أدّتْ كلّ هذهِ التحولاتِ والتغيراتِ والصدماتِ التي مرّ بِها طرابيشي إلى صياغةِ وانبثاقِ درّةِ أعمالِه البحثيةِ والفكريةِ والنقدية، ألا وهيَ مشروعُهُ ((نقدُ نقدِ العقل العربي)) وهو عملُهُ وبحثُهُ الموسوعي في الردِّ على (محمد عابد الجابري) ولتوضيحِ هذا المشروع لا بدّ من تفكيكِهِ والرجوعِ إلى أسبابِ القيامِ به:

في البدايةِ قامَ الدكتور محمد عابد الجابري بنشرِ مشروعٍ تحتَ اسمْ ((نقد العقل العربي)) وهو مشروعٌ متشعّبُ الاتجاهاتِ والفروع، مكوّن من 4 أجزاء: (تكوينُ العقل العربي)، و (بنية العقل العربي)، و (العقلُ السياسي العربي) و (العقلُ الأخلاقي العربي)، ويتضمّنُ هذا المشروع تحليلاتٍ شمولية للتراثِ العربي الإسلامي، التي انتهتْ إلى عددٍ من الاستنتاجاتِ من قِبلِ الجابري و أهمّ هذه الاستنتاجات:

* أنّ العقلَ العربي/الإسلامي مقسّمٌ إلى مدرسةٍ (شرقية) ومدرسةٍ (غربية)،

المدرسةُ الأولى هي مدرسةٌ بيانيةٌ عرفانية (أي دينيةٌ لا عقلانية)

والمدرسةُ الثانية برهانية (أي علمانية عقلانية).

وانطلاقاً من هذهِ الاستنتاجاتِ يأتي مشروعُ جورج طرابيشي ((نقدُ نقدِ العقل العربي)) لينقضَ الأسسَ المعرفيةِ والفكريةِ والمنهجيةِ التي يقومُ عليها مشروعُ الجابري بالإضافةِ إلى نقضِ النتائج التي توصّلَ إليها هذا المشروع، فنقضَ طرابيشي المنهجَ الذي اعتمده الجابري في مشروعهِ، كما انتقدَ النتائجَ والوقائعَ التي توصّلَ إليها في هذا المشروع، فالجابري بنى كلَّ مشروعِهِ على فكرةِ وجودِ عقلٍ (مكوِّن) وعقلٍ (مكوَّن) وهذهِ الفكرةُ قامَ بأخذها كما يصرّح، من الفيلسوفِ الفرنسي أندريه لالاند، ولكن بعدَ نشرِ الجابري لمشروعِه أخذَ طرابيشي يدقّق كلّ شواهدِ الجابري، فوجدَ أنّ غالبيةَ الشواهدِ التي استخدمَها الجابري في تنظيرهِ بمفهومِ العقل، ليست مأخوذةً من أصولِها ولا من مراجعِها، ومثالُ تزييف الجابري للشواهد، هو أنّ الجابري اعتبرَ (مالبرانش) أوّلُ ممثّلٍ للفلسفةِ الحديثةِ العقلانيةِ في الغرب، إلّا أنّه في الحقيقةِ هو تلميذٌ (لديكارت) وكانَ كاهناً واسمه الحقيقي (الأب مالبرانش)، وكان كلّ هدفِه مما كتب، هوَ أنْ يردّ على معلمِّهِ ديكارت ويعيدَ تأويلَ أفكارِ ديكارت برسمِ الدينِ وليسَ العقل، فكيفَ لم يعتبر الجابري (ديكارت) مؤسس الحداثةِ الفلسفية؟

بل نسب ذلك لتلميذِهِ مالبرانش، وهو في الحقيقةِ لم يكنْ إلا كاهناً أشعرياً رافضاً للسببية، ورافضاً للطبيعة، وهنا يقعُ الجابري في مأزقٍ ويطبِقُ عليه طرابيشي بكلّ قوّتِهِ، فقد كانّ الجابري يعتبرُ مبدأَ السببيةِ ومبدأُ الهوّيةِ هما المبدآنِ الكبيرانِ المؤسسانِ للحداثة، فكيفَ لهُ أن يعتبرَ مالبرانش ممثّلاً للفلسفةِ الحديثةِ وهو من أكبرِ معارضي السببية؟

وبناءً على هذهِ المستوياتِ المتعددةِ للنقدِ، يتهمُّ طرابيشي الجابري بأنّهُ يزيّفُ على نطاقٍ واسع الشواهدَ والوقائعَ العلمية، وهذا ما أثبتَهُ جورج طرابيشي بالدلائلِ الدامغة، واتهمّهُ أيضاً بأنّهُ يتعمدُ إنشاء تصوراتٍ معينةٍ لتحقيقِ أهدافٍ أيديولوجيةٍ، ويرى طرابيشي أيضاً أنّ مشروعَ الجابري بعنوانهِ (نقد العقلِ العربي) قامَ بإجهاضِ هذا العقلِ العربي في زمنٍ نحنُ فيهِ بأمسِّ الحاجةِ لتفعيلِ دورِ هذا العقل ليتمكّنَ من الوصولِ لمرحلةِ التطور والنقدِ الذاتي. فيقول طرابيشي: "الجابري لم يفعلْ أكثرَ من أن يقرأَ تراثَ القدماءِ بمفاهيمِ القدماء".

أما بالنسبةِ للعلمانيةِ فموقفُ طرابيشي واضحٌ وصريح، حيث يرى أنّ العلمانيةَ ليستْ وصفةً جاهزةً للتطبيقِ وإنمّا يجبُ على المجتمعاتِ العربيةِ/الإسلامية صياغةُ تصوّرِها الخاص للعلمانية.

وأمّا بالنسبةِ للفلسفةِ العربية فيرى طرابيشي أنهُ في الأيامِ القادمة لا وجودَ لفلسفةٍ عربيةٍ في هكذا ظروف.

ومن أهم ما دعا إليه جورج طرابيشي هو عدمُ خلقِ هالاتٍ مثاليةٍ وهالاتِ قداسة حولَ الأشخاص مهما كانت مكانتُهمْ، فيقولُ في أحدِ حواراته:

"عندما كنتُ مراهقاً بعمر 15 سنة، ضربني أبي لذنبٍ لم أرتكبْهُ ولم يكنْ لي أيُّ علاقةٍ به، فامتلأ قلبي حُزناً وأسىً وكانت تلكَ الحادثةُ بدايةَ عقدتي النفسية، فبدأتُ أبحثُ عن أبٍ لا يضرِبُ أبناءَه، وكانَ أوّلَ من توجّهتُ إليه هو الله باعتبارهِ الأب الرحيم، ولكنْ شاءتِ الظروف أنّه في مدرستي في حلب في درسِ التعليم الديني المسيحي، كان هنالكَ راهبٌ متشددْ، ألقى علينا درساً في أبديةِ عذابِ النار وعذابِ جهنم، فقالَ لنا تصوّروا كرةً أكبرَ من حجمِ الكرةِ الأرضية بمليونِ مرة وهذهِ الكرةُ من نُحاسْ، وكلّ مليونِ سنة يمرُّ طائرٌ فيمسحُها بجناحيهِ، كمْ مِن مليونَ سنةٍ تحتاجُ هذه الكرةُ النحاسية، التي يمرّ عليها الطائر فيمسحُها بجناحيه حتّى تذوب؟ تذوبُ هذه الكرة ولا تذوبُ عذاباتُكم في نارِ جهنم، وعندَها عدتُ للبيت، وأصابتني حمّى وقلتُ لا يمكن لهذا الأبِ الوحشي أن يكونَ أبي. فكانت هذهِ بدايةَ رحلتي الجديدةِ مع العالم، بعدَ أن اتخذتُ قراراً أن لا أتّخذَ أباً ما حييت".

وقد أكدّ جورج في كتابهِ "هرطقات الجزء الثاني: العلمانيةُ كإشكاليةٍ إسلاميةٍ-إسلامية" على أنّ العلمانية يجبُ أن تُطرَحَ كحلٍ للإشكاليةِ الإسلاميةِ-الإسلامية من خلالِ عرضِه للسجلِّ المذهلِ والصادمْ عن تاريخِ الحربِ الطائفيةِ بالأفعالِ كما بالأقوالِ التي دارت -ولا تزال- على مدى أكثرَ من ألفِ سنةٍ بين كُبريي طوائفِ الإسلام: السُنةَ والشيعة.

من هذا المنظورْ تحديداً يرى المؤلّفُ أنّ العلمانيةَ تمثلُ ضرورةً داخليةً ليتصالحَ الإسلامُ مع نفسِه، وليستبدلَ ثقافةِ الكراهيةِ بين طوائفِه بثقافِةِ محبة، وليتحررَّ في الوقتِ نفسه من أسرِ التسييس والأدلجةِ وليستعيدَ من خلالِ العلمنةِ بعدَه الروحي الذي هو مدخَلُه الوحيد إلى الحداثة.

حيث يجب الابتعادُ عن فكرةِ:"تصوّرِ العلمانيةِ في الأدبياتِ العربيةِ السائدة على أنّها إشكاليةٌ مسيحيةٌ-مسيحية جرى اختراعُها في الغرب ِالمسيحي حصراً لتسويةِ العلاقاتِ بين طائفتيه الكبيرتين: الكاثوليكية والبروتستانتية، ولوضعِ حدٍ بالتالي لما سمّيَ في أوروبا بحربِ الأديان التي عصفَتْ بها على امتدادِ أكثرِ من مئةِ سنة."

توفيَ جورج طرابيشي يومَ الأربعاء 16/آذار-مارس/2016 في العاصمةِ الفرنسية باريس عن عمرٍ ناهزَ سبعةً وسبعينَ عاماً، ومن أهمّ أعمالِ جورج طرابيشي:

- شرق وغرب، رجولة وأنوثة: دراسة في أزمة الجنس والحضارة في الرواية العربية، 1977.

- عقدة أوديب في الرواية العربية، 1982.

- أنثى ضد الأنوثة: دراسة في أدب نوال السعداوي على ضوء التحليل النفسي، 1984.

- الروائي وبطله: مقاربة للاشعور في الرواية العربية، 1995.

- نظرية العقل العربي :نقد نقد العقل العربي (ج1)، 1996.

- إشكاليات العقل العربي : نقد نقد العقل العربي (ج2)، 1998.

- وحدة العقل العربي : نقد نقد العقل العربي (ج3)، 2002.

- العقل المستقيل في الإسلام : نقد نقد العقل العربي(ج4)، 2004.

- هرطقات 1: عن الديمقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية، 2006.

- هرطقات 2 :العلمانية كإشكالية إسلامية- إسلامية، 2008

المصادر:

هنا

هنا

هنا