الفيزياء والفلك > فيزياء

بحث جديد يعزز من فرضية أن الكون قد يكون صورة هولوغرافية

عندما ننظر للعالم حولنا ونحاول استيعاب محيطنا ندرك في البداية أننا نعيش في عالم ثلاثي الأبعاد: طول وعرض وارتفاع، وكما تذكر النسبية الخاصة فالزمن أيضًا هو بعد إضافي لوصف ما نلاحظه، ويتغير بالنسبة لكل شخص على حدى تمامًا كما تتغير أبعاد الطول والعرض والارتفاع مما يجعلنا نقول أن العالم الذي نعيش فيه رباعي الأبعاد، ثلاثة مكانية وواحد زماني، إذ نسمي هذا النسيج المكون من الأبعاد المكانية والزمانية بالزمكان.

وبحسب وجهة النظر الحالية في الفيزياء الحديثة فإنَّ وَصْفَ هذا العالَم وقوانينه الفيزيائية ينقسم بين نظريتين أساسيتين: النسبية العامة التي تصف قوة الجاذبية من جهة ونظرية الحقل الكمومي التي تصف بقية القوى من جهة أخرى؛ إذ تتجه العديد من جهود الفيزيائيين النظريين للتوحيد بين النظريتين، أو على نحو أدق طرح نظرية أشمل موحدة تصف قوى الطبيعة الأربعة الجاذبية والكهرطيسية والنووية الشديدة والضعيفة في نظرية واحدة، إذ تصف النسبية العامة الطبيعة من أجل المقاييس الكبيرة الشاسعة كالمجموعة الشمسية والمجرات وحتى الكون كاملًا، ولكنها تقف عاجزة عن وصف عالم الجسيمات الذرية والمادون الذرية كالإلكترونات والكواركات؛ إذ يستخدم الفيزيائيون النظرية الأخرى -نظرية الحقل الكمومي- لوصف هذا العالم، ولكن حتى هذه النظرية تنهار كليًّا عندما تصبح تأثيرات الجاذبية كبيرة جدًّا كما يحصل تمامًا عند وجود كثافات عالية جدًّا من الكتلة في حجم بالغ الصغر، أو بعبارة ثانية كما يحصل تمامًا داخل الثقوب السوداء.

يطرح الفيزيائيون العديد من النظريات المتنافسة تنافسًا شديدًا كبديل للنظرية الشاملة المطلوبة لعل أكثرها انتشارًا بين الفيزيائيين هي نظرية الأوتار، والتي بدأت كنظرية لوصف القوة النووية الشديدة المتبادلة بين البروتونات والنترونات داخل نواة الذرة ولكنها تراجعت اما نجاح نظرية الديناميكا اللونية الكمومية. ولكن قدرة الشكل الأولي لنظرية الأوتار -على وصف ما- يشبه قوة الجاذبية فجعلها مرشحة وذلك لو أمكن التغلب على بعض المشاكل النظرية الأساسية من أن تكون النظرية المطلوبة لوصف القوى الأربعة، وقد استلزم حل بعض هذه المشاكل افتراض وجود أبعاد أكثر من الأبعاد التي نشعر بوجودها في عالمنا.

ولاحظ الفيزيائيون -منذ بدايات العمل النظري في هذا الاتجاه- تشابهًا بين بعض ملامح نظرية الأوتار من أجل عدد معين من أبعاد الفضاء وبين نظريات الحقل الكمومي من أجل فضاءات ذات أبعاد أقل، ولعل أبرزهم الفيزيائي الحاصل على جائزة نوبل جيرارد ت هوفت، ولكن هذه الملاحظات طُرحَت طرحًا أوضح عام 1997 في بحث قدمه الفيزيائي خوان مالدسينا وبُني بناء أوضح على يد فيزيائين آخرين؛ إذ اقتضت فرضية مالدسينا وجود توافق ما بين القوانين الفيزيائية في فضاء ذو خواص معينة وعدد أبعاد محدد (موجود داخل مكعب مثلًا) ندعوه فضاء دي سيتر المعاكس وبين نظرية الحقل الكمومي المتعاملة مع حركة الكواركات من جهة ثانية ولكن في فضاء عدد أبعاده أقل موجود على السطح الخارجي للمكعب السابق مثلًا.

وبرغم صعوبة الموضوع ظاهريًّا ولكن تخيله سهل نسبيًّا عندما نفهم ماهو فضاء دي سيتر المعاكس ولماذا يهتم الفيزيائيون به، لو كان لديك كرة مجوفة ضخمة فإن سطحها الداخلي هو فضاء ذو بعدين طول وعرض مثلًا، ويشكل أحد أبسط أشكال فضاءات دي سيتر المعاكسة ولو وضعنا كرتين على هذا السطح فسوف تتحركان باتجاه بعضهما لتصطدما في القعر تمامًا، كما تتحرك مجرتين تحت تأثير تجاذبهما المتبادل. ولذلك تشكل فضاءات دي سيتر المعاكسة (والتي تمثل أحد حلول معادلات آينشتاين في النسبية العامة) محور اهتمام خاص للفيزيائيين.

ويفترض المبدأ الذي وضعه مالدسينا وجود توافق بين القوانين الفيزيائية في فضاء دي سيتر المعاكس والذي يمكن أن يمثل عالمنا الذي نعيش فيه، وقوانين نظرية الحقل الكمومية التي تصف حركة جسيمات كالكواركات ولكن في فضاء عدد أبعاده أقل وموجود على السطح الخارجي لكوننا الحالي، وبما أن نظرية الحقل الكمومي لا تحوي على وصف للجاذبية فكذلك العالم المفترض وجوده على سطح كوننا الحالي لا توجد فيه قوة الجاذبية.

وقد رحب مختصو نظرية الأوتار بهذه الفرضية واحتفوا بها لدرجة أنهم في أحد مؤتمراتهم وعلى سبيل الدعابة أهدوا أغنية "ماكارينا" لصاحب الفرضية ولكن بعد تعديل اسم الأغنية لتصبح "مالديسينا"، وحتى اليوم تُعَدُّ ورقة البحث التي قدمها عام 1997 أكثر ورقة بحث اقتُبِس منها في الفيزياء الحديثة.

أما سبب أهمية الفرضية فهوأنها تعني أن معادلات نظرية الأوتار التي يبحث الفيزيائيون عنها من أجل فضاء ثلاثي الأبعاد كالفضاء الذي نعيش فيه تتوافق مع قوانين نظرية الحقل الكمومية المدروسة جيدًا وذلك من أجل فضاء ثنائي الأبعاد موجود على حدود كوننا، فالحسابات الشبه مستحيلة ضمن نظرية الأوتار يمكن استبدالها بحسابات أشد بساطة تتم بمعادلات نظرية الحقل الكمومي وبعدد أبعاد أقل. وقد بين الفيزيائيون احتمال وجود عدة توافقات من هذا النوع ومن أجل عدد متنوع جدًّا من الأبعاد ولو أن الفرضيات مازالت تتعامل مع فضاءات بخمسة أو ستة أو عشرة أبعاد ومازالت غير متطابقة مع عالمنا الذي نعيش فيه ولكن بالنسبة للعديد من الفيزيائين فلا شيء يقترح أن الفرضية غير صالحة من أجل عالمنا وأنه من الممكن أن يكون الكون الذي ندركه هو تجلي لكون ثنائي الأبعاد موجود على حدود كوننا.

يُشبِّه خوان مالدسينا الموضوع بامتلاكك لفيلم سينمائي على بَكَرة إذ كل لقطة موجودة على شريط ثنائي الأبعاد ويمكنك بسهولة من أن ترى كل لقطة بانفراد، وامتلاكك الفيلم نفسه على قرص DVD إذ سترى القرص الملون بألوان قوس قزح التي لم ترها من قبل، تمثل كل من النسختين نفس الفيلم بالأحداث نفسها والأبطال أنفسهم، ولكن أحد النسختين سهلة الإدراك حين تمسكها بين يديك (تمامًا كنظرية الحقل الكمومية في الفضاء ثنائي البعد) والأخر لا يمكنك أن ترى اللقطات إطلاقا لأن الفيلم محفوظ على شكل عدد هائل من البيانات الرقمية التي لن تفهمها إلا بوجود آلة معقدة كقارئ DVD  وهذا ما يشبه إدراكنا الحالي لنظرية الأوتار التي ما زلنا نبحث عنها.

وقد أجرى الباحثون عدة حسابات ومحاكاة حاسوبية على فضاءات ذات أبعاد كخمسة أو ستة أو عشرة أبعاد كم ذكرنا وتبين بالحساب أنها تدعم المبدأ الذي افترضه مالدسينا، ولعل آخر هذه الأبحاث ما نشره الفيزيائي الياباني يوشيفومي هايكوتاكي وفريقه والذين كانوا يعملون على تطبيق هذه الفرضية في دراسة خواص الثقوب السوداء ووصفها ضمن نظرية الأوتار؛ إذ بينت الحسابات النظرية التي أجراها على المحاكاة الحاسوبية التي أجراها الفريق توافق خواص الثقب الأسود الناتجة عن دراسته نظريًا ضمن نظرية الأوتار مع الحسابات الناتجة مع دراسة السطح المحيط بمنطقة الثقب الأسود ولكن باستخدام نظرية الحقل الكمومية ثم غياب الجاذبية، ولكن هذه الحسابات كما يبين هايكوتاكي لا تنطبق بُعْد على عالمنا إذ تصف ثقبًا أسودًا في فضاء ذو عشرة أبعاد.

ولكن يشير البحث أيضًا أن الحسابات التي نجريها في عالمنا من الممكن أن تُجرى على نحو أبسط في فضاء بعدد أبعاد أقل، وكأن الفيزياء الحقيقية تجري في ذلك السطح الثنائي الأبعاد المحيط بكوننا (مهما بلغت صعوبة وصف ذلك ضمن ما نعرفه عن توسع الكون). فقد يكون إدراكنا لهذا العالم وكأننا نتابع صورة هولوغرافية ثلاثية الأبعاد موجودة على سطح ثنائي الأبعاد يقع على أطراف كوننا الواسع.

هل حقيقة هذا العالم أغرب من أبعد تصوراتنا؟! أم أننا فعلا مجرد تجليات لصور موجودة عند أطراف الكون؟

مراجع إضافية:

- Information in the Holographic universe: Jacob D.Bekensein. Scientific American، August 2003.

- The Illusion of Gravity: Juan Maldacena. Scientific American، November 2005.

- هنا