الفنون البصرية > زيارة إلى متحف الفن

زيارةٌ إلى المتحفِ الوطنيِّ في لندن، رائعةُ يوهان ڤان آيك'صورةُ آل أرنولفيني'

استمع على ساوندكلاود 🎧

قبلَ الدخولِ إلى صومعةِ المعرضِ الوطنيِّ في لندن ينتابُ الزائرَ شعورٌ بالرهبةِ والهيبةِ والقداسةِ تجاهَ الصرحِ المشيّدِ كمعبدٍ رومانيٍّ يتوسطُ ساحةً غايةٌ في الأبّهةِ والعظمةِ وهي ساحةُ 'تراڤالغر' أو كما يحبُّ أن يطلقَ عليها العربُ ساحة ' الطرف الأغرّ'.

عالياً على أحدِ الأعمدةِ يشمخُ تمثالٌ وكأنّه لأبّولو إلهُ الحربِ والحكمةِ الإغريقيِّ لكنَّه بهيئةِ جنرالٍ من القرنٍ التاسعِ عشر: هو الجنرالُ 'نيلسون' الذي هزمَ أسطولَ نابليون في معركةِ تراڤالغو الشهيرةِ ووضعَ حداً لطموحاتِه الإمبراطوريةِ تماماً كما أنهى أبّولو طموحَ آخييل بالخلود.

ينسى السّاعي إلى حرمِ المتحفِ واقعَ الحياةِ المُعاشِ في مدينةٍ باردةٍ كلندن وينوي الاعتكافَ فيه كصوفيٌّ في بطنِ جبل، يُخيّلُ للحاجِّ إليه أنه على موعدٍ مع نُسّاكِ عصرِ الفنِّ الغابرِ وعرّابيه، فجأةً تختلطُ تلكَ الصورةُ الحالمةُ بمشهدٍ واقعيٍّ لفنانٍ أيطاليٍّ مغمورٍ يرسمُ صورةً لوجهٍ على الرصيفِ المؤدّي لبوابةِ المتحفِ وقد ذيّلها بكتابةِ غرافيتي تكادُ تُقرأ على الشكل التالي: "أنا فريدي فنانٌ إيطاليٌّ أدعمُ الحرية".

صورة 1: فنان إيطالي يدعى 'فريدي' يرسم للحرية - كاميرا فريق الفن والتراث "الباحثون السوريون".

بعدَ سعيٍ بين حجراتِ المتحفِ الحاضنِ لذاكرةٍ بصريةٍ بعمرِ ألفِ عامٍ ووقفاتٍ من التأمّلِ والتلذذِ يحتارُ الزائرُ أنّى يحطُّ الرّحالَ؛ أيقفُ خلفَ جسدِ الآلهةِ ڤينوس ل'ڤيلاسكويز' يرقبُها حتى تولّي عنه وجهَها؟ أم يلجُ عالمَ كاراڤاجيو ليْلثمَ رأسَ النبيِّ يوحنّا المعمدان أو يفتدي روحَ المُعلمِ الرسول؟

تنتهي الجولةُ عندَ حجرةِ الفنانِ 'المعلّمُ الأولُ' يوهان ڤان آيك وفيها يجذبُكَ مشهدُ رجلٍ أنيقٍ يمسكُ يدَ امرأةٍ مباركةٍ كقديسةٍ وكأنّه يدعوكَ لتباركَ هذا الجمْعَ المقدّس.

صورة2: صورة آل أرنولفيني 82.2 سم * 60 سم، زيت على خشب البلوط، كاميرا فريق الفن والتراث"الباحثون السوريون".

تُعتبرُ لوحةُ آل أرنولفيني أحدَ أشهرِ الروائعِ في المتحفِ الوطنيِّ العريقِ بلندن، أبدعَها يوهان ڤان آيك في مدينةِ برووج في بلجيكا عامَ ١٤٣٤ وفيها استخدمَ تقنيةَ الرسمِ الزيتيِّ الجديدةِ على أوربّا آنذاك، فبالرغمِ من استخدامِ التلوينِ الزيتيِّ في الهندِ والصين في القرنِ الخامسِ الميلادي، إلا أنَّ ڤان آيك طوّرَ هذه التقنيةَ واستخدمَ أسلوبَ الصّقلِ (glazes) وأضافَ عنصرَ الضوءِ والمكانِ على الرسمِ ممّا أعطى للشخوصِ أو الغرضِ المرسوم صورةً أقربَ للواقعيةِ وأكثرَ عمقاً من جهة، ومن جهةٍ أخرى ألواناً أكثرَ غنىً وعذوبةً ورونقاً، هذه التقنيةُ مكّنتِ الرسامينَ من الحصولِ على عمقٍ أكبرَ للصورةِ وحقيقةً مشهديةً بأبعادٍ ثلاثةٍ أقربُ للواقعِ، تلكَ المؤثراتِ لم تكن موجودةً في الحُقبِ السابقةِ إذ بدا كلُّ شيءٍ كسطحٍ مبسّطٍ، كما مكّنت تقنيةُ الزيتِ الفنانينَ من العملِ بتروٍّ نظراً لبطءِ جفافِ الألوانِ على اللوحةِ على عكسِ تقنيةِ ال (Tempera) المستخدمةِ سابقاً والتي كانت مزيجاً من الأصبغةِ محلولةً في الماءِ وصفارِ البيضِ ذاتِ الجفافِ السريع. منحَ هذا الإبداعُ العبقريُّ فناننا ڤان آيك وبجدارةٍ لقبَ "أبو التصوير الزيتي".

هناك معلومات قليلة جداً عن بدايةِ حياةِ العبقريِّ ڤان آيك إّ يُعتَقدُ أنّه وُلدَ بين 1380-1390 وتوفّي عام 1441 في مدينةِ برووج البلجيكية التي عملَ فيها جُلَّ حياتِه.

كانَ عامُ 1425 نقطةَ تحولٍ في مسيرتِه الاحترافيةِ وشهرتِه فقد دخلَ (كفنانٍ للبلاط) في خدمةِ الأميرِ 'فيليب الخيّر' دوق بورغندي.

بالعودة إلى رائعتِنا هذه اللوحة التي حيرتِ النقادَ والمؤرخين حتى في تسميتِها فتارةً تُدعى 'صورةُ آل أرنولفيني' وتارةً أخرى تُدعى ب 'زواج جيواڤاني أرنولفيني'.

غدت هذه اللوحةُ رمزاً للزواجِ بالرغمِ من أنّ هويّةَ الزوجينِ ومعاني المشهدِ ماتزالُ غامضةً. حاولتِ المؤرخةُ الفنيةُ كارولا هيكس فكَّ الرموزِ في كتابِها 'الفتاةُ ذاتُ الثوبِ الأخضرَ' وتوصّلت إلى أن الزوجَ كانَ من عائلةِ أرنولفيني الإيطاليةِ من طبقةِ التجارِ الإيطاليين الذين عاشوا في مدينةِ برووج المزدهرةِ في القرنِ الخامسِ عشر وأفضلُ تخمينٍ أنَّ الزوجين هما جيوڤاني دي نيكولا أرنولفيني الذي تزوجَ كوستانزا ترينتا عام 1426.

وبالرغمِ من أنّ المرأةَ في اللوحةِ تبدو حاملاً، وبالرغمِ من أنَّ الفنانين كثيراً ما صوروا النساءَ بحالةِ الحملِ كرمزٍ للخصوبةِ التي اعتُبرَت ميزةً جوهريةً للزوجة، إلا أنها على الأغلب ليست كذلك، فزوجةُ أرنولفيني توفيت أثناءَ الولادةِ عام 1433 ممّا يرجّح احتماليةَ أن اللوحةَ عهُدت لڤان آيك لتخليد ذكرى الزوجةِ وَمِمَّا يرجّح هذا التفسيرَ طريقةُ رسمِ وجهِ المرأةِ الأقربِ للمثاليةِ عكسِ الواقعيةِ الواضحة في رسمِ الزوجِ ويدعمُ هذه الفرضيةَ أيضاً الشمعةُ المنتهيةُ في الشمعدانِ المعلقِ من جهةِ المرأة في حين بقاءِ شمعةٍ واحدةٍ مشتعلةٍ من جهةِ الرجلِ.

صورة 3: الشمعدان المعلق

وفي المرآةِ الخلفيةِ أيضاً ما يدعمُ وجهةَ النظرِ هذه فقد رسمَ ڤان آيك مشاهداً لآلامِ المسيحِ حولَ المرآةِ في عشرةِ دوائرَ صغيرةٍ تصورُ خمسةٌ منها والتي من جهةِ المرأةِ مشاهدَ موتِ المسيح.

صورة 4: المرآة اللغز

وبغضِّ النظرِ عن الخلافِ حولَ حملِ الفتاةِ المصورةِ ففي رائعتنا هذه عدةُ رموزٍ تدلُّ على الخصبِ كالسريرِ الأحمرَ والسجادةِ الشرقيةِ وتمثالٍ صغيرٍ يعلو الكرسيَّ خلفَ المرأةِ وهو للقديسةِ مارغريت راعيةِ الولادة، كما تُعتبرُ أيضاً فاكهةُ البرتقال، على رفِّ النافذةِ وفوقَ قطعةِ المفروشات، رمزاً للخصوبةِ أيضاً.

في اللوحةِ إظهارٌ واضحٌ ومتعمّدٌ لنمطِ الحياةِ الفارهةِ لأرنولفيني نراهُ في مجملِ مقتنياتِ المشهد من الشمعدانِ المعلقِ للسريرِ والسجادةِ إلى الصندلِ الجلديِّ النسائيِّ الملونِ إلى القماشِ الفارِه والبرتقالِ الذي كان يُعتبرُ عملةً نادرةً في تلك العصورِ نظراً لكلفةِ استيرادِها الباهظةِ من الجنوبِ ومن مظاهرِ الثراءِ الواضحِ في تلك الحقبةِ ' المرآةُ المحدبة' فكانت الشكلَ الوحيدَ المتاحَ وكانت من تكنولوجيا ذلك العصرِ لا يقتنيها إلا الملوكُ والأرستقراطيون والأغنياء (فقط المنعّمين كانوا يَرَوْن وجوههم!) ومن الجديرِ بالذكرِ أنه في عام 1997 قامَ طلابٌ من جامعةِ ويمبلدون للفنِّ بعملِ نسخةٍ للثوبِ الأخضرَ ذي الفرو فتطلّب منهم استخدامَ 35 متر من القماشِ وبُطِّنَ بفراءٍ مصنوعٍ من جلدِ 200 سنجب!

ظهرت تقاطعاتٌ بين الدينِ والعلمانيةِ في فنِّ شمالِ أوربا (Flemish) فصرنا نرى في اللوحاتِ صوراً لأناسٍ عاديين بعدما أن كانت الشخوصُ حكراً على الملوكِ ورجالِ الدين ولوحتنا هنا مثالٌ حيٌّ لهذا التوجهِ فنرى مثالَ 'عين الإله التي ترى كل شيء' حاضرةً مرتين؛ مرةً في الشمعةِ الوحيدةِ المضاءةِ وأخرى في المرآةِ حيث يرى المشاهدُ خيالَ كاملِ الحجرةِ ليس فقط أرنولفيني وزوجتُه وإنما الشخصين اللذين ينظران للمشهدِ من خلالِ بابِ الحجرة وفيها يبدو انعكاسٌ للزوجين، وشخصين إضافيين يرتدي أحدهما اللونَ الأزرق والآخر يرتدي اللونَ الأحمرَ يُعتقدُ أنّه للفنانِ نفسُه، أما الذي يرتدي الأزرقَ فكان يُعتقدُ أنه للقسيسِ الذي أتى ليباركَ الزواجَ، إلا أن هذا الاعتقادَ تلاشى عندما بينت الوثائقُ أنه في بلجيكا القرن الخامس عشر لم يتطلب عقدُ الزواجِ قسيساً وإنما شاهدين كانا يفيان بالغرضِ وأحدُهما هو الفنانُ ڤان إذ أنه كتب فوق المرآة: 'ڤان آيك كان هنا'.

أيضاً السُّبحةُ على يسارِ المرآةِ ترمزُ لتقوى الأنثى وكانت هديةً أساسيةً من الرجلِ لعروسِه، أما الفرشاةُ على يمينِ المرآةِ فترمزُ إلى عملِ وتواضعِ القديسةِ أمِّ المسيحِ أو كما يقال "النظافةُ من الإيمان" "cleanliness right next to godliness".

أمّا الكلبُ في لوحتِنا يرمزُ للوفاءِ والإخلاصِ وكان يُقتنى أيضاً في بلاد الفلندرز لالتقاطِ الجرذان.

ومن المقارباتِ في اللوحةِ إسقاطٌ دينيٌّ آخرٌ هو النعلُ الخشبيُّ المتسخُ الذي كان يستخدمُ خارجَ البيتِ للوقايةِ من وحلِ الطرقاتِ إذ أنّ وجودَه أيضاً إشارةٌ ضمنيةٌ لقصةِ موسى التوراتية عندما سُئل أن يخلعَ نعليه عند الوادي المقدسِ في طقوسِ مقابلةِ الرب فهذا الرمزُ يضيفُ نوعاً من القدسيةِ على حجرةِ الزوجية في مشهدِ لوحتِنا الغامضة!

صورة 5: النعل الخشبي، كاميرا فريق الفن والتراث"الباحثون السوريون"

اعتُبرَ فناننا من أوائلِ من أدخلَ الغرافيتي أو التوقيعَ على اللوحةِ في التاريخِ وهذا ما وجدناه في توقيعِه فوقَ المرآةِ في لوحتنا "يان كان هنا 1434"، كما نراه في لوحةٍ أخرى "صورة رجل معمم''

صورة 6: لوحة صورة رجل معمم (يعتقد أنها صورة زيتية للفنان نفسه) 1433، زيت على خشب البلوط، كاميرا فريق الفن والتراث"الباحثون السوريون"

في أسفلِ إطارِ اللوحة، كلماتٌ تُقرأ على الشكل التالي:

"يان ڤان آيك صنعني".

اُعتُبِر يان ڤان آيك أولُ المعلمين القدماء (old masters) وأحدُ أهمِّ روّادِ عصرِ النهضةِ الأوربيةِ الشماليةِ (شمالي الألب) في القرنِ الخامسِ عشر. فأسلوبُه اعتبر ثورةً في فنِّ الرسمِ انتشرَ في أوربا وألهمَ العديدَ من الفنانين اللاحقين كالإسباني دييغو ڤيلاسكويز (1599-1660)

وألهمَ أيضاً روادَ عصرِنا كالبريطاني ديڤيد هوكني (1937-)

صورة 7: لوحة لاس مينيناس لڤيلاسكويز. برادو/إسبانيا

صورة 8: لوحة السيد والسيدة كلارك وبيرسي لديڤيد هوكني. معرض تيت في لندن

تكمنُ عبقريةُ الفنِّ بقدرتِه السياقيةِ السرديةِ ورمزيتِه التي تحثُّ الفكرَ والعاطفةَ أو كما يعبرُ عنه 'جاك ديريدا' بقدرةِ الفنِّ خارجِ إطارِ الصورةِ ولوحتُنا في معرضِنا هذا أوجزت تاريخَ مدينةٍ وأشخاصٍ وأشياءَ تحتاجُ لمجلداتٍ وفتحت باباً للحوارِ والتحليلِ والدراسةِ وكلُّ ذلك يحدثُ في صورةٍ واحدة! كما أنها أحدثت ثورةً تقنيةً فنيةً مهدتِ الطريقَ لولادةِ أوربا من جديد.

لكن بين سطرِ 'يان ڤان آيك صنعني' و سطرِ ' أنا فريدي فنان إيطالي' كلماتٌ تبتدئُ عند باكورةِ اللوحاتِ الزيتيةِ المحفوظةِ داخلَ المتحفِ لتنتهي عند الوجهِ الذي رسمَه الفنانُ الإيطالي المغمورُ على الرصيفِ خارجَ المتحفِ، كلماتٌ حُبلى بمئاتِ السنين من هواجسِ الفنِّ وتحولاته، كلماتٌ تحكيها الصورةُ كذاكرةٍ بصريةٍ تعبرُ الزمنَ بسرديةٍ سرمديةٍ ل 'الظرف الإنساني'.

ڤينوس ل ڤيلاسكويز، كاميرا فريق الفن والتراث"الباحثون السوريون"

من روائع كاراڤاجيو (سالوم تستقبل رأس النبي يوحنا المعمدان)، كاميرا فريق الفن والتراث"الباحثون السوريون"

كاميرا فريق الفن والتراث "الباحثون السوريون" في بهو المتحف الوطني بلندن

مما لفت انتباه فريق عمل الفن والتراث (ثقوب أحدثتها مسامير للوحاتٍ سابقة في جدار المتحف)

المصادر:

-مصادر أولية: زيارة ميدانية للمعرض الوطني في لندن.

-مصادر ثانوية:

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا