الرياضيات > الرياضيات

التراث الإسلامي والرياضيات

استمع على ساوندكلاود 🎧

عندما سافر Peter J. Lu إلى أوزباكستان لم تكن لديه أدنى فكرة بأن تلك الرحلة ستفتح له أبواباً جديدة في عالم الرياضيات، لقد أبهرت الأنماط الهندسية الجميلة من نوع "girith" الموجودة في الأبنية القديمة والتي تجاوز عمرها 800 عام ذلك الشاب الذي تخرج من قسم الفيزياء في جامعة هارفرد، ودفعه الفضول ليبحث كيف تمكن الفنانون القدماء من تشكيلها، لقد اكتشف ما هو أكثر من مجرد طريقة للبناء، كما اكتشف مستوىً غير متوقع من الرياضيات المعقدة التي لم تطور بشكل رسمي إلا بعد مئات السنين من تلك التصاميم!

إن إصرار Lu على الاكتشاف دفعه إلى الخوض ضمن مئات الصور المتعلقة بالعمران الإسلامي الموجودة في مكتبات جامعة هارفرد، وبما أن القدماء في ذلك العصر لم يملكوا إلا مسطرة و بوصلة، فقد اعتقد Lu أن الفنانين القدماء كان يبتدعون تلك التصاميم بالرسم مباشرة على الجدران.

لكن Lu لاحظ أن الأنماط في تلك التصاميم متقنة جداً، مع أن بعضها رُسم على مساحات واسعة، فإن كان الفنانون قد رسموا تلك الأنماط مباشرة على الحائط اعتقد Lu بأن الأخطاء الصغيرة في الأنماط ستتراكم وتصبح جلية عندما تتسع المساحة المرسومة عليها.

لم يستطع Lu اكتشاف أي خطأ في التصاميم، إذاً لابد أن الفنانين القدماء لجؤوا إلى بعض الحيل التي قادت صنع هذه الأنماط، و هذا ما دفع Lu ليبحث أكثر.

لقد ذكرته تلك الأنماط الموجودة في التصاميم الإسلامية بأسلوب بنروز لرصف البلاط (Penrose tiling)

ما هو بلاط بنروز (Penrose tiles)؟

بلاط بنروز هو عبارة عن زوج من الأشكال المرصوفة جنباً إلى جنب ولكن بطريقة غير منتظمة (فقط عندما تتطابق العلامات على الحواف مع بعضها ولها قواعد خاصة تسمى قواعد المطابقة). قطعتا البلاط المرسومتان في الشكل تبينان نوعان من البلاط، الأول يدعى (kite) والثاني (dart):

أو معين رقيق و معين ثخين.. إن طريقة رصف بلاط البنروز تقوم على أن العلامات الملونة على البلاطات يجب أن تتماشى مع بعضها، وليس بالضرورة أن تشكل البلاطتين معيناً إن دمجناهما معاً، فقد تكون قاعدة المطابقة أن القوس المرسوم على إحداها يجب أن يلتقي بالقوس المرسوم على البلاطة المجاورة عند رصفهما جنباً إلى جنب، الشكل التالي يوضح طريقتين لرصف البلاط باتباع قواعد المطابقة:

وعند رصف البلاط يمكن لهذين الشكلين أن يغطيا مساحة واسعة بنمط معين دون أي تكرار.وكلما اتسعت المساحة التي تحوي بلاطات بينروز اقتربت نسبة الأرقام لكل نوع من هذه البلاطات من النسبة الذهبية 1.618.

إن بلاطات بينروز تحوي خاصية تناظرية دائرية بخمس طيات، تشبه تلك التي تحويها النجمة الخماسية.. أي إذا قمنا بتدوير النمط " dart"و " kite" 75 درجة حول نقطة ما فستبدو نفسها:

ومن أجل اطروحته الجامعية بحث Lu الخواص الفيزيائية للـ quasicrystals و هي عبارة عن تجمع منتظم لجزيئات يُعتقد بأنها تحمل خواصاً تشبه خواص الكريستال أما من ناحية الشكل فيمكن اعتبارها نسخة ثلاثية الأبعاد من بلاط بينروز. إن الخواص الفيزيائية للـ quasicrystals جديرة بالذكر، على سبيل المثال لا تنقل الـ quasicrystals المعدنية الحرارة بشكل جيد.

احتوت الأنماط الموجودة في العمران الإسلامي على مُخمّسات و عُشاريات (مضلع ذو عشرة أضلاع) و أشكال نجمية وجميعها أشكال ذات تناظر خماسي الطيات و هذا ما دفع Lu إلى التفكير ببلاط بينروز فوراً.

"عندما أرى نمطاً خماسي الطيات تلمع عيوني و أبدأ فوراً بتحليله إلى بلاطات"، هكذا قال Lu عن نفسه.

عاد Lu إلى هارفرد وبدأ يدرس الصور محاولاً تفكيك الأنماط فعثر على صورة عن مخطوطة معمارية من اسطنبول تعود للقرن الخامس عشر، مخطوطة توبكابي (Topkapi ) والتي كانت كما وصفها Lu: "كأنها كُتيب إرشادات الـ AutoCADالخاص بالعصور القديمة"

(AutoCAD: هو برنامج على الحاسب يستخدم لإنشاء مخططات للمباني والجسور وغيرها يستخدمه المصممون والمهندسون)

في الصورة التالية مخطوطة توبكابي، نلاحظ فيها أن النمط الأساسي المعقد جداً وغير المتكرر يتكون من خطوط غامقة زرقاء وحمراء:

ولكن وراء ذلك لاحظ نمطاً أحمر بلون فاهٍ وبذلك انقسم التصميم إلى خمسة أنواع من البلاطات المزينة: مخمس، مسدس، مُعيَّن، عشري الأضلاع و شكل ربطة العنق (الملون باللون الوردي):

فبينما كان Lu يبحث في صور المباني الإسلامية وجد أنه بإمكانه أن يحلل الأنماط المرسومة على السطوح إلى نفس المجموعة من الأشكال مع أن الأشكال ليست واضحة تماماً في البداية، وقد قال Lu "لم أستطع النوم لعدة أيام، حتى أنني عملت عليها خلال عطلة عيد الميلاد".

بعد البحث اقترح Lu أن العمران الإسلامي قد استخدم الأشكال السابقة، والتي أطلق عليها Lu بلاطات girith ليرسم تلك الأنماط على الجدران، وهذا يفسر تلك الدقة في التصاميم حتى على المساحات الكبيرة.

كما اكتشف Lu أن بلاطات girith تتكون من نوعي بلاط بينروز اللذان ذكرناهما سابقاً (Kite) و (dart)، عندما قسم البلاط بتلك الطريقة وجد أن بناء Darb-i Imam shrineقد استخدم نمط بينروز في رصف البلاط بشكل يكاد يكون كامل الدقة. لقد تم بناء shrine عام 1453 أي قبل أن تُطَور الرياضيات المتعلقة ببلاط بينروز بقرابة 500 عام !

يعتبر بناء Darb-i Imam shrine مثيراً للاهتمام لأنه يحوي بلاط girith بمستويين مختلفين، فالبلاط girith الكبير يقسم إلى أقسام أصغر من بلاطات girith أيضاً، فإذا إن كررنا تكبير البلاطات بهده الطريقة يمكن أن نغطي مساحة عشوائية على حائط كبير باستخدام اسلوب بينروز في رصف البلاط جنباً إلى جنب. في الصورة التالية لقنطار أحد الممرات في بناء Darb-i Imam shrine الموجود في إيران. إن أمعنا النظر سنلاحظ أن المخمسات الكبيرة الملونة بالأزرق الباهت هي من نمط بلاط girith ذات القياس الكبير، أما المخمسات البيضاء الأصغر فهي مكونة من بلاط girith أيضاً ولكن ذات القياس الصغير:

في الصورة التالية أيضاً نلاحظ التصميم البديع لقنطار أحد الممرات في الجامع الأخضر الموجود في تركيا وتم بناؤه عام 1424:

المخطط التالي يوضح لنا النمط الذي تم بناء القنطار السابق منه وهو عبارة عن بلاطات girith :

ولطالما أثار بلاط بنروز اهتمام العديد من العلماء، فقد طرح John Conway سؤالاً فيما إذا كان من الممكن لطريقة بينروز أن ترصف ثلاثة بلاطات ملونة بحيث تكون البلاطات المتجاورة مختلفة في الألوان.في عام 2002 أثبت Sibley و Wagon أنه من الممكن ذلك باستخدام البلاط من النوع المُعيّن "rhombs "، وفي عام 2001 أثبت "Babilon" أن البلاط من النوع "kite" و "dart" قابل للتلوين بثلاثة ألوان أيضاً.

لاحقاً عثر McClure على خوارزمية تسمح بالتلوين بثلاثة ألوان لأنواع البلاط "dart"، "kite"، "rhombs "، و " pentacles ".

لذا نجد أن التصاميم الإسلامية القديمة غاية في الدقة ويكمن السحر في روعتها ودقتها أنها قد اعتمدت على الرياضيات. فكان الفنانون القدماء عباقرة حقاً. فهي ليست مجرد خطوط مرسومة على الجدران، بل هي أشكال مدروسة بدقة. وقد حيرت بدقتها الناس لسنوات عديدة، حتى تمكن العلماء من فك تلك الشيفرة الرياضية التي تكمن في تلك التصاميم القديمة البديعة.

المصدر: هنا