الفلسفة وعلم الاجتماع > علم الاجتماع

المجتمع الأموميّ

استمع على ساوندكلاود 🎧

في الأصلِ كانت المرأة! المرأةُ هي السيّدة، والحاكمة، وصاحبةُ القرار. الطبيبة، المُدبِّرة، المالكة، المُعلّمةُ الأولى، والحكيمة. هي التي تُوَرِّث أبناءَها، وهي التي يُنسَبُ إليها الأطفال.

نعم! هكذا كانت المرأة.

إنّ حالةَ التَّبَعِيّةِ والخُنوعِ والذُّلِّ لم تكن مِن خصائصِ المرأةِ قطّ، بل هي صفاتٌ أُلحِقَتْ بها، وهي خارجةٌ عن طبيعتِها ومكنونِها. وما طَرَأَ فيما بعد؛ مِن تهميشٍ واستبدادٍ وقمع، كان نتيجةَ ظروفٍ اجتماعيةٍ قلَبت الموازين.

عن حالة المرأة الأصل، وعن المجتمعِ الأُموميِّ نتحدث. إليكم هذا المقال.

ظلَّ الاعتقادُ السائدُ حتى القرنِ التاسعَ عشرَ أنَّ العائلةَ منذُ القِدَمِ قائمةٌ على السيادةِ الأَبَوِيّةِ الذكوريّةِ أو ما عُرِف بالـ(مجتمعِ البَطْرِيَرْكِيّ)، وأنَّ الذكرَ أو الأبَ يكونُ صاحبَ مركزٍ أعلى مِن قرينتِه (المرأة). إلّا أنَّ هذه النظريّةَ تهاوَتْ أمامَ النقدِ العلميّ؛ فقد تبينَ أنَّ هناكَ أشكالًا أكثرَ قِدَمًا للعائلةِ سبقَت شكلها الأَبَويّ، يقومُ هذا الشكلُ على مكانةِ الأمّ.

إنَّ عاطفةَ الأمِّ لأولادِها وعاطفتَهم نحوَها هي العاطفةُ الأصليّةُ الوحيدة، وما تبقّى مِن عواطفَ فهي مجردُ عواطفَ مكتسبة. وقد سبقَت المرأةُ الرجلَ في تعلُّمِ كيفيّةِ توسيعِ دائرةِ ذاتِها؛ لتشمَلَ غيرَها، هذا بالإضافةِ إلى الدورِ الاقتصاديِّ الذي لعبتْه في تعزيزِ مكانتِها.

بالإضافةِ إلى أنّها كانت المسؤولةَ الأولى عن حياةِ الأطفال، وكانت أوّلَ مَن نسجَ الأقمشةَ والمفارش؛ حيثُ كانت المسؤولةَ عن تحضيرِ جلودِ الحيواناتِ، وهي أوّلُ طبيبة؛ فقدْ استطاعت مِن خلالِ قضاءِ وقتِها في جمعِ الأعشابِ الصالحةِ للأكلِ، معرفةَ بعضِ الخصائصِ الطبيّةِ لهذه الأعشاب. في حينَ أنَّ دورَ الرجلِ لمْ يتعدَّ الصيدَ والبحثَ عن الطرائدِ الكبيرة.

في ذلك المجتمع، سلَّمَ الرجلُ السلْطةَ للمرأةِ تسليمًا تامًّا؛ تقديرًا لخصائِصِها وقدرتِها الخلّاقة. ولم يكُنْ خانِعًا أو خاضِعًا لها، بل على العكس؛ فقد أعطته دورًا في الدفاعِ وصدِّ العُدوان، والذَّوْدِ عن حِيَاضِ المملكة. وعلى الرَّغْمِ مِن طبيعتِها التي أشاعَت العدالةَ والمساواة، ونفورِها مِن العنفِ الجسديّ، فقدْ كان رجالُ العصرِ الأُموميِّ مِن أشدِّ الأبطال، وكانوا أكثرَ عِزّةً وأَنَفَةً وفروسيّةً مِن رجالِ العصرِ البَطْرِيَرْكِيّ. نعم! إنها الحقيقة، وقد دَلَّتْ عليها وأكَّدتْها أُمّاتُ الكتبِ التاريخيةِ والاجتماعية، التي تناولتْ تلك الحِقْبة.

يؤكّدُ أرسطو على ذلك في كتابِهِ (السياسة) إذْ يقول: «أغلبُ الشعوبِ العسكريّةِ الميّالةِ إلى القتال، هي شعوبٌ مُنقادَةٌ إلى النساء؛ ذلك أنَّ المرأةَ رَغْمَ طبيعتِها المسالمة، تسلُكُ سلوكَ اللبُؤَةِ الكاسرةِ إذا تعرَّضَ أشبالُها للخطر».

مرَّ هذا المجتمعُ الأموميُّ بكثيرٍ مِن المراحلِ الحياتيّةِ الزواجيّة. بدايةً، كانت العلاقاتُ الجنسيّةُ حرّةً تمامًا ودونَ أيّةِ روابط. ثُمَّ فيما بعد، نُظِّمتْ هذه العلاقاتُ الجنسيّة، ووُضعتْ لها بعضُ الضوابط؛ فخرجَ الآباءُ مِن دائرةِ العلاقاتِ هذه أولًا. وبمعنًى آخر: فقد حُرِّمَتْ إقامةُ أيّةِ علاقةٍ جنسيّةٍ بين الآباءِ والأبناء، مع بقائِها قائمةً بينَ الإخوة. وفي المرحلةِ التاليةِ حُرِّمَت العلاقةُ الجنسيّةُ بينَ الإخوةِ أيضًا، مع بقاءِ مَشاعيّةِ العلاقاتِ الجنسيّةِ بين أيِّ فردَينِ لا تربِطُهما صلةُ الأبوّةِ أو الأمومةِ أو الأُخُوَّة.

هذه المرحلةُ مِن العلاقاتِ غيرِ المُنَظّمةِ يُطلَقُ عليها تعبيرُ (الهِيتِيرِيّة) (Heterisme). وبالطبع، فإنه لمْ يكنْ مِن الممكنِ معرفةُ والدِ الطفلِ مِن خلالِ هذه العلاقات؛ ومِن ثَمَّ فلا يمكنُ معرفةُ النَّسَبِ إلّا بحسْبِ خطِّ الأمّ. ولذلك كان الطفلُ يُنسَبُ إلى أمِّه لا إلى والدِه؛ وهذا ما سُمِّيَ بـ(حقِّ الأمّ). فكانت النساءُ هُنّ الوالداتِ الوحيداتِ المعروفات، حتى حَظِينَ بقدْرٍ كبيرٍ مِن التقديرِ والاحترامِ بَلَغَ حَدَّ سيادتِهنَّ، وهو ما يُسمّى (الجينيكوقراطيّة) (Gynecocratie)، أيْ (حكْمَ النساء).

هذه الجينيكوقراطيّةُ لمْ تدمْ؛ فقد تابعَ التنظيمُ طريقَه لتشكيلِ عائلةٍ ثنائيّة، بدأتْ بوجودِ زوجَينِ أساسيّينِ في عِدادِ أزواجٍ كُثُر، وتطوّرتْ فيما بعدُ لتَشْمَلَ زوجَيْنِ فَقط وأبناءَهُما، وبدأَ الرجلُ بتولّي السلْطةِ شيئًا فشيئًا مع تَشَكُّلِ العائلةِ الثنائيّة. إلّا أنَّ المرأةَ قد حافظتْ على وضعِها المتميّز؛ فكانت حُرّةً في فَسْخِ الزواجِ متى أرادت، وعودةِ الأطفالِ إليها، وخروجِ الزوجِ مِن المنزلِ صِفْرَ اليدين، كذلك كانت هي مَن تُوَرِّثُ أبناءَها، لا الأب. لكنَّ مركزَ الرجلِ استمرَّ بالتدعيمِ معَ تَقدُّمِ الزمنِ على حسابِ المرأة؛ فبدأَ الوضعُ بالانقلابِ شيئًا فشيئًا، حتى باتَت المرأةُ مُستَعْبَدةً مِن قبلِ الرجل.

لقد تُرِكَت لنا الكثيرُ مِن الأساطيرِ التي تخبرُنا عمّا كان مِن مقاومةٍ قامتْ بها النساءُ للحفاظِ على مكانتِهنّ. وأشهرُ تلك الأساطيرِ الأسطورةُ الإغريقيّةُ عن (الأمازونيّات)، وهي قبيلةٌ مِن النساءِ المحارِباتِ اللواتي أتَيْنَ مِن شواطئِ البحرِ الأسود، وسَكَنَّ عندَ تُخُومِ بلادِ الإغريق، فأسَّسْنَ عددًا مِن المُدُنِ تحكُمُها ملكة. وبسببِ عداوتِهِنَّ للرجال؛ كان مجتمعُهُنَّ مقتصرًا على النساءِ وحدَهُنّ، فإذا أرَدْنَ إنجابَ الأطفالِ أتَيْنَ بلادًا مجاورة، فضاجَعْنَ رِجالَها وعُدْنَ أدراجَهُنّ، فإذا وَضَعْنَ مَولودًا ذَكرًا قَتَلْنَهُ بالمهد، أمّا إذا كانت أنثى أبقَيْنَ عليها وربَّينَها منذُ الصِّغَرِ على فنونِ الحربِ والقتالِ وكُرْهِ الرجال. ويَدَّعي أكثرُ مِن بطلٍ أسطوريٍّ قِتالَهَنَّ مُنفرِدًا والقضاءَ على مَلِكَتِهِنّ، منهم هرقل وثيسيوس.

شيوعُ هذه الأسطورةِ وشبيهاتِها لدى معظمِ المجتمعاتِ البشريّة؛ دليلٌ على صراعٍ حدثَ في هذه المجتمعات، وعلى ردِّ فعلِ المرأةِ الطبيعيِّ على استعبادِها. وقد بقيتْ بعضُ قِيَمِ المُجتمعِ الأموميِّ في المجتمعِ البَطْرِيَرْكِيّ؛ كما في مِصرَ القديمة. فمثلًا، كانَ كُرسيُّ المُلْكِ يَنتقِلُ عبرَ سلسلةِ النَّسَبِ الأموميِّ لا الأبويّ، وكذلك ميراثُ الممتلكاتِ الماديّةِ كان يَنتقِلُ إلى البناتِ لا الأبناء؛ ممّا رَسَّخَ زواجَ الإخوَةِ للحفاظِ على العرشِ ضِمنَ الأسرةِ المالكةِ... إلخ. وبقيتْ هذه الثقافةُ إلى ما يقارِبُ أربعةَ آلافِ عام.

إلّا أنَّ حلولَ المُجتمعِ البَطْرِيَرْكِيِّ كان بدايةً لتاريخِ استغلالِ المرأةِ واستعبادِها. وفكرةُ أنَّ المرأةَ كانَتْ أَمَةً للرجلِ -كما قال أنجلز- هي مِن أسخفِ الآراءِ التي تركَها لنا عصرُ الأنوارِ في القرنِ الثامنَ عشر؛ فقد بدأ استغلالُها معَ حُلولِ المجتمعِ البَطْرِيَرْكِيّ تدريجيًّا، وحلولِ العائلةِ الثنائيّةِ ذاتِ السيطرةِ الذكوريّةِ.

إنَّ كلمةَ (Familia) لا تعني أساسًا (العائلةَ) كما نفهمُها اليوم، بلْ تعني العبيد. فكلمةُ (Famulus) تعني العبْدَ البيتيَّ، و(Familia) تعني مجموعةَ العبيدِ الذين يخصّونَ رجلًا واحدًا، وحتى في زمنِ غايوس، فإنّهم كانوا يُوَرَّثون بالوصيّة (Familia، id est patrimonium). وقد استنبَطَ الرومانُ هذا التعبيرَ لتعريفِ الهيئةِ الاجتماعيّةِ الجديدة، التي كان رئيسُها سيّدًا على المرأةِ وعلى عددٍ مُعيّنٍ مِن العبيد، وكان يملِكُ -بحكمِ السلْطةِ الأبويّةِ الرومانيّة- حقَّ الحياةِ والموتِ على جميعِ هؤلاء الأشخاصِ الخاضعين له.

لسنا نريدُ أنْ نُهَمِّشَ الرجالَ على حسابِ النساء، ولا النساءَ على حسابِ الرجال. إنّ العدالةَ والإنصافَ يقتضيَانِ ألّا يكونَ ثَمَّةَ معيارٌ يُفاضِلُ بين الجنسينِ؛ إلّا الكفاءة. وتسميةُ عصرٍ أو فترةٍ أو حقبةٍ تَبَعًا لجنسٍ بشريّ؛ لَهُوَ أمرٌ غيرُ سَوِيّ. إنَّ العصرَ الأُموميَّ كالأبويّ؛ مُجحِفٌ لأحدِ مكوِّناتِ المجتمع، ومصيرُه حتمًا إلى الزوال.

* اللوحة المُرفقة للمقال، هي لوحة للفنانة التشكيليلة سميرة عبّاسي، بعنوان "الثالوث الأموميّ".

المراجع:

فراس السواح، لغز عشتار الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة، ط2، (سومر للدراسات والنشر، نيقوسيا، قبرص، 1986) ص31-41.

أنجلز، أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة، ترجمة: إلياس شاهين، (دار التقدم، موسكو) ص6-171.