العمارة والتشييد > التشييد

الإسمِنت ... الصديقُ الأزليّ للمهندسِ المدنيّ

استمع على ساوندكلاود 🎧

بَلغَ الإنتاجُ العالميّ من الإسمنت عام 2014 أربعةَ ملياراتِ طنٍّ وهو يُهيمنُ على صناعة التشييد حولَ العالم كمادةٍ اقتصاديّة يَسهُل الحصولُ عليها والتعاملُ معها كما أنَّ دراسته مَحطةٌ أساسيةٌ في تأهيلِ المهندسِ المدني. فهل تساءلتَ يوماً مَتى ظهرَ الإسمنت وكيفَ يَتحوّلُ من عجينةٍ طينيةٍ إلى مادةٍ صلبةٍ بمقاومةٍ عاليةٍ خلالَ ساعات؟

تاريخُ الإسمِنت:

تعودُ بداياتُ الإسمنتِ إلى العُصور الرومانية حيثُ اعتمد الرومانُ خلطَ الماءِ مع الكلس المشويّ للحصولِ على مادّة رابطةٍ تُستعملُ في البناء، أضافوا إليها لاحقاً الرملَ وقِطعَ الطوبِ ليَحصلوا على أوّلِ أشكالِ الخرسانة. لم يُظهِر هذا النوعُ من الإسمنتِ قدرةً على التصلّب تحتَ الماء، وللتغلُّبِ على هذه المُشكلة أضافَ الرومانُ الرمادَ البركانيّ الذي يَحوي السيليكات" SiO2" والألومينات "Al2O3" فحصلوا على ما يُعرفُ اليومَ بالإسمنتِ البوزولانيّ نسبةً إلى قريةِ بوزولي الواقعةِ قربَ بركانِ فيزوف الذي أُخذَ مِنه الرّماد.

تَدهورَت صناعةُ الإسمنتِ بعد سقوطِ الإمبراطوريةِ الرومانية، وبَقيَت على هذه الحال حتّى أواخرِ القرنِ الثامن عشر بعدَ محاولاتٍ أجراها عدّةُ علماء في فَرنسا وبريطانيا إلى أن حَصَل جوزيف أسبدين " Joseph Aspdin" على بَراءةِ اختراعٍ في إنكلترا عامَ 1824 لتحضيرهِ مادةً رابطةً، حيث قامَ بتسخينِ مسحوقٍ ناعمٍ من الأحجارِ الكلسيّة مع الغضار إلى حرارةٍ عاليةٍ حتّى تفككت الأحجارُ الكلسيةُ وتفاعلت مع الغضارِ معطيةً بعدَ طحنها وخلطها بالماءِ كتلةً صلبةً، أُطلقَ عليها اسم الإسمنتِ البورتلاندي بسببِ لونِها القريبِ من لون ما يُعرف بالحجر البورتلاندي، ثم وَضَعَ إسحق جونسون " Isaac Johnson" نموذجَ صناعةِ الإسمنتِ الحديثِ عامَ 1845.

لم تتغيَّر مكوناتُ الإسمنت كثيراً وإنما جَرى تعديلُ نسبِ هذه المكونات وتطورت عملياتُ وآلياتُ التصنيعِ تدريجياً حتى أصبحَ الإسمنتُ المادّة الرائدة في البناءِ في معظم الدول، وكانَ توفُّر المكوناتِ اللازمة من أهم العواملِ التي ساعدت في انتشار صناعةِ الإسمنتِ في جميع أنحاء العالم.

يعتمد مبدأ تصنيع الإسمنتِ على تسخينِ الأحجارِ الكلسيّة المطحونةِ والغضارِ وأكاسيدِ السيليكون والألمنيوم والحديد إلى درجةِ حرارة 1450 مئوية (والتي تعتبرُ العمليةَ الأهمّ والأكثرَ كلفةً في صناعةِ الإسمنت) حتى تندمجَ وتتفاعلَ معطيةً كُتلاً يتمُّ تبريدُها وطحنُها وإضافةُ كميةٍ من الجصّ إليها للحصولِ على الإسمنتِ الذي نعرفه.

إماهةُ الإسمنتِ وتصلُّبُه:

لا تتفاعلُ مكوناتُ الإسمنتِ إلا في وسطٍ مائي ولذلك يسمّى تفاعُله بتفاعلِ الإماهة، أي أنّ توفُّر الماءِ والسيليكات والألومينات يؤدّي إلى تحويلِ الخلطة الإسمنتيةِ إلى كتلةٍ صلبة. وكان لوشاتولييه أوَّلَ من لاحظَ أنّ الموادَ الناتجة عن إماهةِ الإسمنتِ هي ذاتُها كيميائياً المكوناتُ الناتجةُ عن اماهة مكونات الإسمنت كلّ على حِدة و هذا ما سهَّل دراسةَ هذا التفاعل بشكلٍ مفصّل. ويتمّ هذا التفاعلُ على فتراتٍ طويلةٍ جداً علماً أن سُرعته لا تتعلّق بنسبِ المواد الداخلةِ في تركيبِ الإسمنتِ إنّما بقُطرِ حبيباتِ الإسمنتِ المطحونةِ حيثُ لُوحِظَ أنَّ الحباتِ الأصغرَ تتفاعلُ بشكلٍ أسرعَ من الحبّات الأكبر.

تتعلّق سُرعةُ تصلّب الإسمنتِ بشكلٍ رئيسيٍّ بالسيليكاتِ ثلاثيّة الكالسيوم (3CaO.SiO2 يُرمزُ لها بـ C3S) ، فسرعةُ هذا التفاعُلِ ليست منتظمةً ولا حتى متغيرةً بشكلٍ منتظم ويُفسَّرُ عدمُ انتظامِ التفاعل بأنه عند بِدءِ التفاعل تتفاعلُ الطبقةُ الخارجيَّة من حبّات الإسمنتِ مشكلّة غلافاً صلباً رقيقاً جداً يُعيقُ استمرارَ التفاعلِ لبعضِ الوقت (وهو الوقتُ الذي يقومُ فيه العمّالُ بصبّ العجينة الإسمنتية في القوالب) ويلاحَظُ مرورُ التفاعلِ بثلاثةِ مراحلَ تزدادُ فيها سُرعتهُ بشكلٍ ملحوظٍ: الأولى هي لحظةُ إضافةِ الإسمنتِ الجافّ إلى الماءِ حيثُ يتفاعلُ السطح الخارجيّ لحبيباتِ الإسمنتِ و لا تتجاوزُ مدتها العشرَ دقائقَ ويتوقف بعدها التفاعلُ فيما يسمّى بفترةِ الخُمول (Dormant period) والتي تستمرّ لمدة ساعةٍ أو ساعتينِ تكونُ فيها الخلطةُ الإسمنتيةُ بشكلٍ عجينيٍّ يَسهُلُ التحكّم به.

يتحطّم الغلافُ المحيط بحباتِ الإسمنتِ سامحاً للماءِ بالوصول للإسمنت غيرِ المتفاعل مما يؤدي للمرحلةِ الثانيةِ التي يزدادُ فيها التفاعُل و التي تَبلغُ ذروَتَها بعد حوالي عشرةِ ساعاتٍ يبدأ بعدها التفاعُلُ بالتناقصِ تدريجياً ثم يزدادُ مجدداً مرّة أخيرةً و ذلك في عُمر 30 ساعة تقريباً. ثم يبدأ التفاعلُ بالتباطؤِ تدريجياً لمدّة قد تصل لسنة أحياناً قبل أن ينتهي.

الأنواع الرئيسة للإسمنت:

صَنّفت الASTM* خمسةَ أنواعٍ من الإسمنتِ البورتلاندي، تختلفُ هذه الأنواعُ فيزيائياً وكيميائياً كنتيجةٍ لاختلافِ المحتوى من حيثُ نسبةِ سيليكات ثلاثية الألمنيوم C3A، ويختلفُ أداءُها لاختلافِ سُرعةِ الإماهة ومقاومتها للكبريتات:

I : الإسمنتُ البورتلاندي العاديّ ذو الاستخداماتِ المتعددةِ وهو يَحوي كميةً كبيرةً من C3S لإعطاءِ مقاومةٍ مبكرةٍ جيدة، ويُستخدمُ في معظمِ المنشآتِ من أبنيةٍ وجسورٍ وأرصفةٍ ووحداتٍ مسبقةِ الصُّنع.

II : وهو إسمنتٌ ذو مقاومةٍ جيدةٍ للكبريتات، ويتميّز بأن كمية C3A فيه قليلة "أقلّ من 8%"، ويُستخدمُ في المنشآتِ المعرّضة للمياهِ والتربِ الغنيةِ بالكبريتات.

III: إسمنتٌ ذو مقاومةٍ مبكرةٍ عالية، وتتميزُ بأنّ حبّاتِها أنعمُ من الإسمنتِ العادي، وأحياناً تحتوي على كميةٍ أكبرَ من C3S، ويُستَخدمُ في المنشآت التي تحتاجُ سرعةَ تصلبٍ عالية، كما هو الحالُ عند العملِ في ظروفِ البرودة الشديدة أو استخدامِ المياه الباردة والتي تؤثر سلباً على سرعةِ تفاعلِ الإماهة، ويجبُ الانتباه لأن سرعةَ التصلّب العاليةِ تجعلُ قابليّته للتشغيلِ محدودةً من حيثُ الزّمن كما أنّ المقاومة النهائية لهذا النوع من البيتون تكونُ أقلّ قليلاً من الإسمنتِ العادي.

IV : إسمنتٌ ذو حرارةِ إماهةٍ منخفضةٍ (تفاعل بطيئ)، وفيه كمّيّةٌ قليلةٌ من C3A و C3S ، يُستخدمُ في المنشآتِ ذاتِ الكتلِ الضخمة كالسدود. وقد صُمِّمَ هذا النوعُ ليَنشُرَ حرارةً أقلّ بكثيرٍ من النوع الأول وذلك عن طريقِ إبطاءِ تفاعل الإماهة مما يَعني إبطاءَ اكتسابِ الخرسانة للمقاومة، وتُعتبرُ هذه الخاصيّة هامّةً في المنشآت الكُتَليَّة حيثُ يُسبِّبُ تفاوُتُ درجاتِ الحرارةِ من مَنطقة لأُخرى في نفس الكُتلةِ إجهاداتٍ تُسبِّبُ خَفضَ المُقاومة.

V : ذو مُقاومةٍ عاليَةٍ للكبريتات، وكمية C3A فيه قليلةٌ جداً "أقلّ من 5%"، ويُستخدمُ في المنشآتِ المعرّضة بشكلٍ كبيرٍ للكبريتات. ويُعتبرُ تفاعُلُ مكوناتِ الخرسانة مع الكبريتات من أخطرِ العواملِ الخارجية التي تتعرضُ لها الخرسانةُ وذلك لأن الموادَّ الناتجةَ عن هذا التفاعلِ لها حجمٌ أكبرُ من حجمِ الموادّ الداخلة به، مما يُسبّبُ حصولَ إجهاداتٍ ضِمنَ الخرسانة ويؤدّي لِحصولِ تشقُّقاتٍ في الكتلة، وتُعتبرُ الوسيلةُ الأفضل للوقايةِ من هذا التفاعل هي مَنعُ الكبريتاتِ من دخولِ الخرسانة ويكونُ ذلك بتقليلِ نِسبة الماءِ إلى الإسمنت عند الخَلط، أو بوضعِ صفائحَ بلاستيكيةٍ بينَ التربةِ الحاويةِ على الكبريتاتِ والخرسانة.

يضاف لهذه الأنواع الخمسة الإسمنتُ الأبيض White ، ويُستخدمُ لأغراضٍ جَمَاليّة حيث يُشابهُ الإسمنتَ العاديَّ في خواصّه ويختلفُ عَنهُ باللونِ الأبيضِ الناتجِ عن انخفاضِ نسبةِ الحديدِ والمغنزيومِ، مما يجعله مناسباً لأعمالِ الديكور.

كلمةٌ أخيرة:

يبدو أنَّ هيمنةَ الإسمنتِ على صناعةِ التشييدِ ستستمرُّ لفترةٍ طويلةٍ، وقد نجحَ العلماءُ في ابتكارِ أنواعٍ من الإسمنتِ ذاتِ مواصفاتٍ خاصةٍ تتناسبُ مع الاستخداماتِ المختلفة. ولا يزال المجالُ متاحاً لتطويرِ صناعةِ الإسمنت خاصةَ في المجالِ البيئي، إضافةً للاستفادة من النفاياتِ والركام في صناعة الاسمنت، ونَعِدُكم بتقديمِ المزيدِ عن الإسمنتِ في القريبِ العاجل.

---------------------------------------------------------------------------------------------------------

* ASTM : الجمعية الأمريكية للاختبارات والمواد American Society for Testing and Materials


المصادر:

Neville، Adam M. Properties of concrete - 5th ed. ISBN 978-0-273-75580-7 -

هنا

هنا

هنا