البيولوجيا والتطوّر > التطور

لماذا كانت الحشرات القديمة ضخمةً جداً؟

استمع على ساوندكلاود 🎧

قد يعتبر البعض النملة حشرةً مقبولةً إلى حدٍّ ما، إلا إذا كانت كبيرة. والصُّرصور حشرةٌ كريهةٌ بالنسبة للجميع تقريباً، وبالأخص إذا كان كبيراً. أما الجرادة فعندما تقوم بغارة جوية فقد يصفها البعض بأنها "كبيرةٌ كالعصفور" فتخيلوا كم هي مقرفة! لكن، ماذا لو هاجمتنا حشرةٌ طائرةٌ بحجم الصقر، أو صُرصورٌ بحجم القطة، فيا ويلتنا عندئذٍ! ويجدر بنا وقتها ألّا نهاجم الصرصور بالأسلحة الكيميائية (مبيد الحشرات) وإنّما يجب علينا الهرب. والآن، وبعيداً عن هذه التخيلات، فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه، ما هي القيمة العلمية لهذه الأفكار التي تتحدث عن الحشرات الضخمة، هل هي حكرٌ على هوليوود أم يمكن أنْ نجد سناريو علمياً يفسرها؟!

لنجد هذه الحشرات لا بد لنا من أن نسافر، لن نحتاج للطائرة للوصول إلى وجهتنا، بل سنحتاج إلى آلةٍ تخيليةٍ هي "آلة الزمن". وبصفتي الدليل السياحي في هذه الرحلة فسأضبط آلة الزمن لكي تأخذنا إلى حقبةٍ بعيدةٍ عن اليوم، ستأخذنا إلى الوراء 300 مليون سنة، حيث يُخبرنا السجل الأحفوري أنّ هذه الفترة الزمنية هي الأفضل لكي نبحث عن حشراتٍ بأحجامٍ استثنائية.

نحن الآن في فترةٍ تُعرف بالحقبة الأولية أو المبكرة Paleozoic era الممتدة بين (245-570) مليون سنة مضت، عندها لم يكن لنا نحن البشر وجود، لكننا هنا بصدد البحث عن كائناتٍ أخرى مثيرةً للاهتمام، لذلك فلننزل من آلة الزمن خاصتنا، ولننظر إلى السماء، وعندها سنجد كائناً كبيراً يطير، ليس من الطيور، فالطيور لم تتطور بعد، بل هو في الواقع حشرة! هذا ما نبحث عنه تماماً.

إنه يشبه اليعسوب، لكنه ليس بالحجم الذي يوجد فيه اليوم، فالمسافة ما بين جناحيه تصل إلى 65 سم أي أنّه بحجم الصقر المعاصر! في الواقع، فإنّ المكان مليءٌ بحشراتٍ من هذا الحجم، وبالتالي فهو مكانٌ قد لا يفضّل أغلبنا التواجد فيه.

لسوء الحظ (بالنسبة لشبيه اليعسوب هذا) أو لحسن الحظ (بالنسبة لنا) لا توجد اليوم حشراتٌ بهذا الحجم، ولكي لا نضيع الكثير من الوقت، علينا أن نبحث عن إجابةٍ لسؤالين أعتقد أنّهما قد خطرا في أذهانكم أعزائي المسافرين (أو بالأحرى القراء)؛ لماذا كانت الحشرات ضخمةً إلى هذا الحد ولماذا صغُر حجمها فيما بعد؟

لا توجد إجابةٌ حاسمة، ومع ذلك هناك عددٌ من الفرضيات التي قد تساعدنا...

أولاً، يجب أن نعرف أن الحشرات لا تتنفس مثلنا نحن البشر، فهي لا تملك رئتين تقوم بتزويد الدم بالأوكسجين، بل لدى الحشرات فتحاتٌ موجودةٌ في مختلف أنحاء جسمها تقوم بنقل الأوكسجين من الوسط المحيط عبر أنابيب متشعبة إلى داخل جسمها، وتتحكم مصَرّاتٌ (عضلات دائرية) في إغلاق هذه الفتحات أو إبقائها مفتوحة.

ولكنّ هذه الطريقة لا تسمح للأوكسجين بالوصول بكفاءة إلى المناطق الداخلية من أجسام الحشرات إذا كانت ذات أحجام كبيرة، إلّا أنّها لن تعاني من هذه الإشكالية إذا كانت نسبة الأوكسجين كبيرةً في الجو، وهذا هو ما نجده فعلاً، فنسبة الأوكسجين في الهواء في تلك الفترة كانت تصل إلى 5 مقارنةً بـ ! اليوم، وبالتالي أصبحت الأجزاء الداخلية من جسم الحشرة قادرةً على الحصول على الأوكسجين بكفاءة، ولم يعد الحجم الكبير عائقاً، وبالتالي سمح لها الأوكسجين بأنْ تزداد حجماً.

وحقيقةً، فإنّ السجل الجيولوجي يدعم هذه الفرضية، فالحشرات الكبيرة كانت مترافقةً مع كميات الأوكسجين الكبيرة في الجو، وكلما انخفضت تلك الكمية صغُر حجم الحشرة.

فرضيةٌ أخرى لا تتحدث عن الحشرات البالغة، بل عن اليرقات (صغار الحشرات)؛ فاليرقات تأخذ الأوكسجين عن طريق جلدها مباشرةً، وبالتالي فهي لا تتحكم بكمية الهواء الداخل إلى جسمها كما تفعل الحشرات البالغة (التي تملك فتحات تُغلق بواسطة مُصِرّات)، وبالتالي فقد تتعرض لكمية كبيرة من الأوكسجين، والتي قد تضر بهذه الحشرات ذات الحجم الصغير.

وهكذا كانت نسبة الأوكسجين الكبيرة في تلك الفترة أكثر قسوة على الحشرات ويرقاتها صغيرة الحجم، لكنها لن تكون كذلك لو كانت اليرقات –وبالتالي الحشرات- كبيرة الحجم، فالحجم الكبير سيجعلها تمتص نسبةً من الأوكسجين أصغر بالنسبة بحجمها مقارنة باليرقات الصغيرة.

وبالمناسبة، فالكميات الكبيرة من الأوكسجين قد تضر بالإنسان هو الآخر فتسبب له اضطراب رؤية واختلاجات عضلية (تقلصات شديدة غير منضبطة) ودوار، وحتى صعوبة في التنفس.

وبالمناسبة، فالعلماء يحاولون اليوم التأكّد من هذه الفرضية عملياً عن طريق تعريض أجيالٍ متتاليةٍ من ذباب الفاكهة لتراكيز متدرجةٍ من الأوكسجين (وقد وقع اختيارهم على هذا النوع من الحشرات لأن عمره قصيرٌ نسبياً مما يسمح بالحصول على أجيالٍ جديدةٍ بسرعة)، وما يعيق مثل هذه التجارب اليوم هو الفترة الزمنية الطويلة التي تحتاجها، وكون ذباب الفاكهة حشرةً جديدةً نسبياً مقارنةً باليعسوب أو الصرصور.

أعتقد أننا إلى الآن قدمنا تفسيراً جيداً للحجم الكبير للحشرات في العصور القديمة وعلينا أنْ نعرف الآن لماذا صَغُرَ حجمُها؟

الإجابة البديهية التي تفسر اختفاء الحشرات كبيرة الحجم مُتَضمَّنةٌ في الإجابة التي تفسر ظهورها في المقام الأول، فنسبة الأوكسجين الكبيرة أدت إلى ظهور الحشرات الكبيرة، وبالتالي فعندما تناقصت نسبة الأوكسجين تناقص حجم الحشرات معها، وهذا واضحٌ في السجل الجيولوجي.

لكن، وقبل أن ننتقل لتفسير الآخر لاختفاء الحشرات الكبيرة، فإنّه يحق لنا أن نسأل عن السبب الذي جعل الأوكسجين مرتفعاً في فترةٍ زمنيةٍ معينة ومنخفضاً في أخرى.

هناك توازنٌ دقيقٌ فيما يخص "كيمياء الغلاف الجوي" اليوم، فالأشجار تقوم بعملية التركيب الضوئي، فتستهلك غاز ثنائي أوكسيد الكربون وتطرح الأوكسجين، وعندما تموت هذه الأشجار يتم تحليلها بواسطة البكتريا والفطريات مستهلكةً غاز الأوكسجين، وبالتالي، وكما ذكرنا، فإنّ هناك توازناً بين إنتاج الأوكسجين واستهلاكه. لكن ماذا سيحدث لو غابت البكتريا؟ لأكون صريحاً، فالبكتريا كانت موجودةً وقتها لكنها لم تكن قادرةً على تفكيك مركب الليغنين Lignin الموجود في الأشجار، وبالتالي لم تستطع تحليل الأشجار وتفكيكها، فلم يُستهلَك الأوكسجين، وارتفعت مستوياته.

والآن نعود مرةً أخرى إلى شرح السيناريوهات التي أدّت إلى اختفاء الحشرات العملاقة. ولنفهم سبب اختفاء هذه الحشرات العملاقة، يجب علينا أن نقوم بما يقوم به علماء الأحياء غالباً عند التعامل مع الكائنات القديمة، أي الالتفات إلى السجل الأحفوري، الذي يخبرنا أنّ اختفاء الحشرات القديمة ترافق مع ظهور منافسٍ جديدٍ لها ينازعها سيادة الأجواء، لقد كان هذا المنافس هو الطيور، فمنذ 150 مليون سنة تطور الأركيوبتريكس Archaeopetryx، والذي يعدّ حلقة وصل بين الديناصورات والطيور الحديثة. وبتطور الطيور، أصبحت تنافس الحشرات على الغذاء (فالحشرات الكبيرة التي كانت تأكل الحشرات الصغيرة أصبح لها شريك في هذه الوجبة وهو الطيور)، وربما كانت الطيور تفترس حتى الحشرات الكبيرة، وبالتالي بدأت أعداد هذه الحشرات بالتراجع.

إذاً، فالحشرات الضخمة كانت موجودة، ليس بالحجم الذي اخترعته هوليوود (كالحشرات التي تدمر المباني)، لكنه كبيرٌ بما فيه الكفاية ليسبب لنا -في حال عاصرناه- الخوف، ويسببُ لنا الآن نوعاً من الإعجاب والاستغراب.

إنَّ السجل الأحفوري هو الكتاب الذي يروي لنا ما حدث في تاريخ الحياة والمستحاثات الموجودة فيه هي شواهدٌ على أحداث الماضي وهذا ما وجدناه جلياً في سياق رحلتنا مع الحشرات الضخمة.

المصادر:

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا

Oxygen, The Molecule that Made the World, Nick Lane