العمارة والتشييد > التشييد

قنابلُ موقوتة: سدُّ الموصل

استمع على ساوندكلاود 🎧

قدَّمت السُّدودُ منذُ نشأتِها خدماتٍ هائلةً للبشرية إلا أنّها في الوقتِ ذاته تُعرضُ الملايينَ للخطر في حال انهيارها، وإن كانت أسبابُ الانهيار التّقليدية معروفةً إلى حدٍّ كبير يجب علينا الآن إضافةُ جنون الإنسان كسببٍ إضافي.

ارتبطَ نشوءُ الحضارات الإنسانية وازدهارُها بتوفُّر المصادر المائية، وتُعدُّ حضاراتُ بلادِ ما بين النهرين خيرَ مثالٍ على ذلك، إلا أن الإنسان وبعد أن كان يَعتمد على بيئته ويتعايش معها، تحوَّل إلى ترويضها والتحكّم بها، واجتاز في علاقته مع البيئة بشكلٍ عام خطوطاً حمراءَ كثيرة، ويرى الكثيرون من أنصارِ البيئة أن السُّدود باتت صروحاً تُمثِّل انتصارَ الإنسانِ على أمِّهِ الطبيعة وترويضِه لها.

فبعد أن كانت الأنهارُ بمعظمها في حالتها الطبيعية قبلَ العام 1850 بدأت تتحوَّل تدريجياً إلى مصبَّاتٍ لمياهِ الصَّرف الصحي والنفايات المختلفة ليبدأ انتشار السدود مع نهاية القرن التاسع عشر كأداةٍ لدرءِ خطر الفيضان والتحكُّم بمياهِ الأنهار وجريانها وتسخيرها لخدمةِ الإنسان، ولم يَظهر الوعيُ البشري لآثارها البيئية حتّى النِّصف الثاني من القرن العشرين، راجع مقالنا: "النهر والإنسان... صداقة قديمة حان الوقت لإعادة إحيائها" هنا

تتضاربُ المراجعُ حول أوّل السدود التي بنتها البشريّة إلا أنها تُجمعُ على أنَّ بناء السدود قد بدأ في المنطقة العربية وتحديداً في ما بات يعرف اليوم بـ (سد جاوا) في الأردن و (سد الكفرة جنوب القاهرة) في مصر وفي سوريا (سد بحيرة قطينة وهو الأقدم إذ لا يزال عاملاً) واليمن (سد مأرب) إضافة لما تم اكتشافه في الصين وإيران وسيريلانكا.

والسدّ هو منشأةٌ مكونةٌ من كتلةٍ بيتونيةٍ أو ركاميةٍ (خليط من التراب والحجارة) تتوضّع في المجرى المائي الطبيعي "النهر أو المسيل" لأغراضٍ مختلفة أهمها تأمينُ المياه لحاجات الانسان المختلفة كالشرب والري وتوليدُ الطاقة الكهربائية وتنظيمُ جريان المياه ودرءُ الفيضانات. وبالرغم من الفوائد الجمّة التي خَططَ الإنسانُ لتوظيف السدِّ في خِدمتها والتي تَحَقَّقَ جزءٌ منها إلا أنَّ الثمن كان غالياً في كثيرٍ من الأحيان ويبدو أن وعينا لا يزال قاصراً عن ذلك إلى حدٍّ بعيد. تابع مقالاتنا: ( الجدوى الاقتصادية للسدود الكبيرة هنا – السدود الكبيرة ليست بهذه السمعة الطيبة بعد اليوم! هنا)

انهيار السدود:

انهيار السدود ليس موضوعاً جديداً، فقد شَهد تاريخُ البشرية مجموعةً من الكوارث في هذا الإطار أهمُها انهيارُ سد Banqiao في الصين عام 1975 مخلفاً ما يزيد عن 170 ألف قتيل ومصاب، وانهيار سدّ Machchu في الهند عام 1979 الذي تسبب بوفاة أكثر من 15 ألف نسمة.

أما عن أسباب انهيار السدود فقد وُضِعَت في إطار برنامج سلامة السدود في الولايات المتحدة الأمريكية قائمةٌ بأهمّها وهي:

⦁ الكوارثُ الطبيعية: كالزُلازل والفيضانات غيرِ المأخوذةِ بالحُسبان عند تَصميم السد.

⦁ التصميم والتنفيذ غير المتقن: ويظهرُ ذلك بشكلٍ خاص في السدودِ القديمةِ والتي اعتمدت في تصميمها وتنفيذِها على أساليبَ لم تعد مقبولةً ضمن الشروط الموضوعة حديثاً لإنشاء السدود.

⦁ استخدامُ موادَّ غير ملائمة في إنشاء السد.

⦁ تقدم السد بالعمر وعدم صيانته بالشكل الملائم.

⦁ عدم استقرار قاعدة السد.

⦁ تسرب المياه عبر وأسفل السد.

⦁ فشل الأجزاء الميكانيكية بالعمل في اللحظات الحرجة.

⦁ مشكلاتٌ تتعلّق بإدارة السد.

برغم تنوّع هذه الأسباب وكفايتها لفترةٍ طويلةٍ من الزمن فأنها لم تتطرق إلى إمكانيةِ حدوث عملٍ تخريبيٍّ متعمدٍ يؤدّي لانهيارِ السد، وهو أمرٌ باتَ مطروحاً في أكثرَ من سدٍّ عبر العراق وسورية مؤخراً مما يستدعي الإسراع بتقييمِ الأثرِ الكارثيِّ الذي قد يترتّب على أحداثَ كهذه.

وتوفِّر التقنيات الحاسوبية الجديدة إمكانيةَ دراسةِ عدة سيناريوهاتٍ تُمكِّننا من معرفةِ المناطقِ المعرّضة للغمر والسُّرعة التي يتوجب بها الإعلان عن قرب انهيارِ السد حتى يُتاح للسكان المعرّضين للخطر أخذُ التدابير الملائمةِ إن أمكن وتنفيذُ خططِ الطوارئ التي يتوجب أن تُعدَّ مُسبقاً.

سدُّ الموصل:

دخلَ سدُّ الموصل الخِدمة خلال عام 1986 وهو مُقامٌ على نهرِ دَجلة على بعد 60 كم شمال غرب مدينة الموصل "ثاني أكبرِ المدن العراقية" و 80 كم عن الحدود السورية التركية. وكانت الغايةُ الرئيسيةُ منه تأمينَ المياه للرِّي والحمايةَ من الفيضان وتوليدَ الطاقة الكهربائية. يبلغُ ارتفاعُ السدّ 113 متراً ويحتجز خلفه أكثر من 11 مليار م3 من المياه تتوزع ضمن بحيرة السد. لم تكن الخواص الجيولوجية لمنطقةِ إنشاءِ السدّ في مقدمةِ الأسبابِ التي دعت لاختيار الموقع بل العكس؛ إنّ المنطقةَ التي بُني عليها السدّ تُعتبر غيرَ ملائمةٍ أبداً لهذه الغاية لأنها تُرتِّب خطراً دائماً على استقرار السدّ كونَها تحتوي على مكوناتٍ قابلة للانحلال بالماء "كالجبس والأنهدريت" خاصةً إذا أخذنا بالحسبان الظروف الهيدرولوجية للسد واستثماره والي تتضمن جرياناً دائماً للماء عبر هذه الطبقات. مما تطلَّب القيامَ بتدخلاتٍ هندسيةٍ لضمانِ الاستقرار عبرَ إغلاقِ مساراتِ المياهِ المتسربة في الطبقاتِ أسفلَ السد باستخدامِ تقنيات الحقن.لكن ظهور تسربات وتشققات في الطرف الأيسر من السد وانزلاقات بالقرب من الحافة اليمنى له و تجاويف عند قاعدة السد جعله يستحقّ وفق أحد الباحثين لقب "أكثرِ السدودِ خطورةً في العالم".

ماذا يمكن أن يحدث إذا انهار سد الموصل؟

تتوفر عدة دراساتٍ بحثت تبعاتِ انهيارِ سدّ الموصل وكانَ من النتائج التي توصلت إليها أن مدناً بأكملها ستمحى عن الخارطة، وتُعد مدينة الموصل أوّل المدن العراقية الكبرى في طريق الموجة الفيضانية التي يُحتملُ وقوعُها وأكثرَها عُرضةً للخَطَر. وقد نُشِرت في العام 2009 ورقةٌ بحثيةٌ تضمنت الأضرارَ الي يُمكنُ أن تَحدُثَ في حالِ انهيارِ سدِّ الموصل بسببِ انحلالِ الطّبقاتِ الواقعة أسفلَ السد، وركزت الدراسةُ على النتائج التي ستعاني منها مدينةُ الموصل. حيثُ تقولُ النتيجة الرئيسية التي توصّل إليها البحث أنه ووفق التوقع الأسوأ "تزامن الانهيار مع التخزين الأعظمي" فإنّ المساحةَ المعرّضةَ للغمر عند انهيارِ السد تَبلُغُ 252 كم2 في المنطقةِ المحصورةِ بين السدّ ومدينةِ الموصل وهي تعتبرُ من الأراضي الزراعية الخصبة التي ستُصبح خارجَ الاستثمار مع انهيار السد. أما في مدينةِ الموصل فسيبلغ ارتفاع الغمرِ الأعظم نحوَ 25 متراً فوق منسوب النهر الطبيعي وغزارةُ الجريان العُظمى نحو 207600 م3/ثا بسرعةٍ وسطيةٍ تبلغ نحو 3.5 م/ثا. ستغطي الموجةُ الفيضانيةُ نحوَ 54% من مدينةِ الموصل وستكونُ الضفةُ الشرقية للنهر أكثرَ عرضةً للغمر من ضفته الغربية. وستستغرقُ الموجة الفيضانية نحو 5 ساعاتٍ للوصولِ إلى مدينةِ الموصِل ابتداءً من اكتمال تشكل فتحة الانهيار في السد. ويُظهرُ الشكلُ المرفق عمقَ الغمر المتوقّع في أجزاءِ المُوصل المختلفة.

أما بعد مدينة الموصل واعتماداً على عدة دراساتٍ أُخرى فستتعرض عدةُ مدنٍ عراقيةٍ للغَمر بدرجاتٍ متفاوتةٍ يوضِّحها الجدول التالي:

تتوقع منظمة مهندسي الجيش الأمريكي U.S. Army Corps of Engineers أن يصل عدد المتضررين من انهيار السد إلى نصف مليون نسمة.

تُقدمُ السُّدودُ خدماتٍ كبيرةً للبشريةِ إلا أنّه من الواجبِ أخذُ آثارها السلبية على البيئة والإنسان بالحسبان، وإن كان الاختصاصيون قد ركّزوا في دراساتهم سابقاً على انهيار السدود نتيجةَ ظروفٍ جيولوجية أو أخطاءَ بشرية في التّصميم أو التنفيذ أو الإدارة فيتوجّب عليهم الآن أخذُ احتمال الأعمال التخريبية المتعمّدة بالحسبان لمجابهةِ الآثارِ التي قد تنجم عن كارثةٍ كهذه.

المصدر:

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا

⦁Julie R. Kelley، Lillian D. Wakeley، Seth W. Broadfoot، Monte L. Pearson، Christian J. McGrath، Thomas E. McGill، Jeffrey D. Jorgeson، and Cary A. Talbot; Geologic Setting of Mosul Dam and Its Engineering Implications September، U.S. Army Corps of Engineers 2007.

⦁Swiss Consultants، Security measures II، Addendum 3- Flood wave studies، Task 2 Mosul flood wave، Confidential report for the Ministry of Irrigation، State Organization of Dams، V. 1 (Summary)، V،2 (The model and model calibration)، V.3 (Calculation of Mosul flood wave)، 1984.