التاريخ وعلم الآثار > الحضارة السورية

مدينة حلب القديمة.. أسواق المدينة مَعْلمٌ تاريخيٌ نابضٌ بالحياة

استمع على ساوندكلاود 🎧

تميزت حلب بأسواقها الجميلة وهي تُشكِّل مع الخانات والقيسيريات نماذج رائعة للأحياء التجارية في العصور الوسطى، إضافةً لما تمتاز به من طابعٍ عمراني جميل، إذ تتوفر نوافذ النور والهواء فتؤمِّن جوًا معتدلًا لطيفًا، يحمي من حرِّ الصيفِ ومن بردِ الشتاء وأمطاره، ولكن كيف تطورت هذه الأسواق؟ وكيف وصلت إلى الشكل الذي نعرفه اليوم؟

يبلغُ تعداد أسواق المدينة 37 سوقًا، واختص كل منها بنوعٍ معينٍ من المبيعات، ومجموع أطوال هذه الأسواق على الجانبين 15 كم ومساحتها 16 هكتار، ومن أشهر هذه الأسواق: سوق الفرائين، وسوق السراجين، وسوق الزرب، وسوق العطارين، وسوق الخيش، سوق القوافين، وسوق الصاغة، وسوق السقطية، وسوق الباطية، وسوق البالستان، وسوق الصابون، وسوق العبي، وسوق القصابية، وسوق الجمرك،و سوق الدراع، وسوق الشام،وسوق اسطنبول، وسوق الجوخ، وسوق الطرابيشية، وسوق القطن.

وقد سُميِِّت أغلبُ هذه الأسواق بحسب اختصاصها لكنَّ البعض منها لم يعد محتفظًا باختصاصه، ومن أكثر الأسواق تميزًا هو سوق الزرب إذ زُيِّنت واجهةُ مدخل السوق الشرقية بمثلثٍ فوق المدخل يذكرنا بالنسب اليونانية، وقد سُقِفَ السوق بقبةٍ سريريةٍ ذي فتحاتٍ علوية، ولكنَّها أُهملت فيما بعد، ويقعُ في الجهة الشرقية للمَدينة وتعودُ تسميته إلى تحريفٍ في اللغة نتج عن استعمال العثمانيين حرف الظاء بدلًا من الضاد العربية، فاسم السوق الأصلي هو سوق الضرب إذ كانت تضرب به العملة المعدنية في العهد المملوكي ثُمَّ تطور تعبير سوق الظرب التركي ليصبح الآن سوق الزرب، ويتألف السوق من 71 محلًا تجاريًا، ويَمتَهن أصحابها بيع المنسوجات وحاجات البدو .

الشكل (1): سوق الزرب في مدينة حلب القديمة

تمتد أسواق حلب متصالبةً ومتعارضةً ومتداخلةً في تجمعٍ تجاري على طرفي الطريق المستقيم الممتد من باب أنطاكية حاليًا إلى قلعة حلب، ونستطيع أن نحدد مجموعتين رئيستين من الأسواق في مدينة حلب:

1- الأسواق التي تُشكِّل خطين متوازيين مع الجدار الجنوبي للجامع الكبير مثل سوق الحبال وسوق العتقية.

2- الأسواق المحاذية لِجبهة خان الجمرك.

الشكل (2): مخطط لمدينة حلب القديمة.

إنَّ أكثر أسواق المجموعة الأولى ترجع إلى القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين، وقد صُمِّم كل دكان فيها مشابهًا للآخر بالواجهة المعقودة بصفةِ نصف قوس، وقد أُلحقِت بكل مجموعة من الأسواق خان، عدَّ قديمًا بمثابة فندق للمسافرين ومأوًى لهم من التجار، وإلى جانب الخان وبالقرب منه قيسارية يَستقر فيها رجال الدولة من حراس وموظفين وجباة وغير ذلك، ولكل سوقٍ بابٌ خاصٌ به يُقفل عند انتهاء عمليات البيع والشراء، فتُعزل الأسواق عن أحياء المدينة الأخرى، أما سوق المجموعة الثانية فيرجع أكثرها إلى القرن السادس عشر الميلادي، وهي تشبه أسواق المجموعة الأولى من حيث أسلوب البناء.

لقد تطور السوق ومجموعة المباني المكوِّنة له على عدة مراحل، لكن التفاصيل الموجودة تَعجز في كثيرٍ من الحالات عن تقديمِ أجوبةٍ حاسمةٍ؛ فالمصادرَ لا تُقدِّم إلا النذر اليسير كما  لو أنَّ سوق حلب قد وجد دومًا في مكانه، ومع أنَّه يمكن للمرء أن يتعرف هنا أو هناك على أحد المكونات، وأن ينسبها بدقةٍ إلى فترةٍ زمنيةٍ محددةٍ، وحتى لو أمكن ردُّ الأبنية القائمة إلى فتراتٍ زمنيةٍ محددةٍ بدقةٍ متناهيةٍ فإنَّ السؤال: ماذا كان قبلها سيبقى؟ بانتظار الإجابة على الدوام.

إن أفضل وصف لسوق حلب في القرون الوسطى نجده في أخبار رحلة ابن جبير الذي زار المدينة عام 1184 م، يردُّ ابن جبير في معرض وصفه لحلب بعد ذكره قلعتها قوله: "وأما البلد فموضوعٌ ضخمٌ جداً، حفيلُ التركيبِ، بديعُ الحسنِ، واسعُ الأسواقِ كبيرها، متصلة الانتظام مستطيلة، تخرج من سماط صنعة إلى سماط صنعةٍ أخرى إلى أن تفرغ من جميع الصناعات المدنية، وكلها مسقوف بالخشب فسكانها في ظلالٍ وارفة،  فكل سوق منها تُقيِّد الأبصار حُسنًا وتستوقف المستوف تعجبًا. وأما قيسريتها فحديقةُ بستان نظافةً وجمالاً، مطيفةٌ بالجامع المكرم، لا يتشوق الجالس فيها مرأى سواها ولو كان من المرائي الرياضية، وأكثر حوانيتها من الخشب البديع الصنعة، قد اتصل السماط خزانة واحدة، وتخللتها شرفٌ خشبيةٌ بديعةُ النقش وتفتحت كلها حوانيت فجاء منظرها أجمل مَنظرٍ وكل سماطٍ منها يتصل ببابٍ من أبواب الجامع المكرم".

هذا الوصف هو السوق الذي أنشأه نور الدين، لقد أعاد هذا الملك في عام 1169م إعمارَ الأقسام المجاورة للجامع الكبير بعد التدمير الذي لحق به، ويبدو أنَّ معالم الجامع الكبير التي نعرفها تعود على الأقل في الجنوب والشرق والغرب منها إلى أيام نور الدين، الذي وسَّع الجامع في الزاوية الجنوبية الشرقية، وجعل الضلع الشرقي عموديًا على الضلع الجنوبي، وقد قال ابن شداد في هذا: "كان النصف القبلي من الشرقية التي في قبلي الجامع الآن ملاصقة لسوق البز، عن يمين الداخل من الباب القبلي سوقًا موقوفًا على الجامع ولم يكن الجامع على التربيع فأحب نور الدين محمود أن يضيف ذلك إلى الجامع ... فاستفتى في ذلك ... فأتاه بجوازه فنقض السوق وأَضافه إلى الجامع واتسع المسجد". وينبغي أن لا نفهم هنا أنَّ الأزقة المؤدية إلى الجامع الكبير في رواية ابن جبير كانت دائمًا عموديةً عليها، إذ يستحيل أن تكون قد امتدت في الجهة الغربية عمودية، فقد سبق وأُنشئت كاتدرائية هناك وإنَّما هي أزقة محاذية للجامع، ولا يزال تخديم المحلات اليوم من طرفها الشرقي فعلًا.

لا يجب أن يؤخذ كلام ابن جبير حرفيًا عن تصور الأسواق التي أحاطت الجامع من كل أطرافه في أيام نور الدين الزنكي، إنَّ ذلك يتطلب تفسيرًا مطولً،ا لكن إذا ذهبنا إلى أنَّه من الممكن أن يكون ابن جبير شاهد ما يشابه رقعة السوق الكبير، فلن يكون مستبعدًا أنَّ ما شاهده هو سوقٌ سابقٌ ذو تخطيطٍ مشابهٍ.

لكنَّ السوق الذي وجد في ذلك الحين يختلف مع ذلك في ملامحه مع السوق الحالي، فقد كان مسقوفًا بالخشب بل أدَّى الخشب دورًا كبيرًا في إنشائه، وكانت الجدران الأساسية للأسواق التي تكلم عنها ابن جبير أي الجدران الطويلة الموازية للأزقة، والمشكلة للأسواق مبنية من الحجر منذ ذلك الوقت على أقل تقدير، أما الإكساءات الداخلية والجدران الجانبية للمحلات والأسقف فقد كانت من الخشب.

لم يبقَ أي أثر من هذا السوق إلى يومنا هذا، ولأنَّ حلب لم تتعرض لأية كارثةٍ جسيمةٍ في الفترة الممتدة ما بين العصر الزنكي ونهاية العصر الأيوبي في عام 1260؛ لأنَّها لو وقعت لفرضت تصميمًا جديدًا للسوق، ولذلك فإنَّ باستطاعتنا القول أن هذا السوق الذي أنشئ في معظمه من الخشب قد قام في نهاية العصر الأيوبي أيضًا.

لذلك يمكن الإجابة عن السؤال المُلحّ عن  أبكر فترةٍ زمنيةٍ وُجِد بها السوق بصورته التي نعرفها، مسقوفٌ بِقُبب، وتَفصِلُ بين دكاكينه جدرانٌ جانبيةٌ حجريةٌ  تأتي بعد عام 1260 م، أي أنَّه يعد مملوكيًا على أبعد تقدير؛ لذلك أُرِّخت مكونات السوق تبعًا لثلاثِ فتراتٍ زمنيةٍ:

تمتد الفترة الأولى من عام 1260 م إلى عام 1400 م (تنتهي بإحراق المدينة على يد تيمورلنك).

وتمتد الفترة الثانية من عام 1400 م إلى عام 1518 م (تنتهي بسيطرة العثمانيين على المدينة).

بينما تمتد الفترة الثالثة من عام 1518 م إلى عام 1910 م (تنتهي بربط حلب بشبكة السكك الحديدية).

الشكل (3): تطور سوق المدينة

ونشأ في المدينة منذ بداية الإسلام ما يسمى بأمين السوق، الذي حمل فيما بعد اسم المحتسب، وكانت وظيفته الأساسية التأكد من الأوزان والمكاييل ومكافحة الغش، ثم أصبحت هذه الوظيفة مرتبطةً بالتعاليم الشرعية، وحددت لها شروطٌ وواجباتٌ، وأصبح المحتسب من أكبر موظفي الدولة وأوسعهم نفوذًا منذ القرن الحادي عشر الميلادي.

شرح المصطلحات:

* القيسارية: هي مبنى مفتوح نحو الداخل يستقر فيها رجال الدولة والموظفين والجباة وغير ذلك.

المصادر:

1- الحمصي، فايز، حلب القديمة، دمشق: منشورات المديرية العامة للآثار والمتاحف، 1983.

2- غاوبه. هاينتز، فيرت. أويغن، حلب دراسات تاريخية وجغرافية حول البنية المعمارية والتركيبة الاجتماعية والحركة الاقتصادية لأحد مراكز التجارة الدولية في الشرق الأدنى (الجزء الأول)، ترجمة صخر علبي، دمشق: منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، 2007.