العمارة والتشييد > التصميم المعماري

العمارة على الكوكب الأحمر: هل نلقي تاريخ العمارة جانباً، ونبدأ من جديد!؟

استمع على ساوندكلاود 🎧

أخذت مجموعة مكونة من 10 طلاب في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT على عاتقها تحدي الإجابة عن السؤال : كيف لنا أنا نصمم مسكناً يؤمن الظروف المناسبة لحياة الإنسان على المريخ، حيث يأتي هذا العمل ضمن إطار مسابقة ترعاها الوكالة الدولية للفضاء NASA وضمن مهلة 20 عاماً فقط، حيث تعلق Caitlin Mueller الأستاذة المساعدة في قسم تقنية البناء ومديرة مجموعة الإنشاءات الرقمية Digital Structures تعلق قائلةً : "إنه جدول زمني ضيق للغاية".

وهذا صحيح، فالرحلة إلى المريخ بعيدة، وكمية الوقود اللازمة للوصول إليه كبيرة جداً، وهذا يعني أنه على المركبة أن تحمل أقل وزن ممكن. ولذلك، وبغية تقليل تكاليف الرحلة، تشجّع NASA على استخدام تقنيات الطباعة ثلاثية الأبعاد باستعمال المواد المحلية الموجودة على سطح المريخ.

ومن رعاة هذه المسابقة أيضاً المعهد الوطني للإبداع الصناعي، حيث عرض هذا المعهد جائزة تبلغ 25 ألف دولار للتصميم الرابح في المسابقة ضمن فعالية New York City Maker وهذه الجائزة هي جزء من جائزة تبلغ 2.25 مليون دولار محددة كجائزة للمسابقة والتحدي المذكور خلال الأشهر التالية.

وتقول Mueller: "إن مجرد التفكير في الأمر هو شيء مضحك، لأنك ببساطة تبدأ من الصفر".

فبالإضافة لدرجة الحرارة المنخفضة والجاذبية الضعيفة، فإن القضية الأكبر هي الكثافة القليلة للغلاف الجوي هناك، لأن هذا يعني أن المسكن يجب أن يكون مضغوطاً جداً من الداخل ليتحمل الفراغ المحيط به في الفضاء.

ولكن هذه الظروف غير المشجعة لم تضعف من عزيمة أعضاء فريق العمل، بل إن هذه المحدّدات كانت شرارةً أشعلت إبداعاتهم حيث يقول Justin Lavallee المدرب التقني ومدير ورشات العمل المعمارية في مدرسة العمارة في MIT، والذي تعاون مع Mueller في هذا المشروع، يقول: "للمفارقة، وجود المشروع المستقبلي في بيئة غريبة كلياً عنّا، قد حرّر تفكيرنا لنعمل بالطريقة المفاهيمية*"، ثم يعقب قائلاً: "يمكننا أن نتحلى بروح الاستكشاف أثناء دراستنا لهذا المشروع، دون أن يعرقلنا فهمنا الحالي للعمارة وما يتوافق أو لا يتوافق معها".

وكانت Mueller تقوم بالعديد من التجارب على طرق جديدة لاستخدام الطباعة ثلاثية الأبعاد، حيث يتم طباعة الهياكل بحيث تنبعُ الطبقاتُ المطبوعةُ خطوطَ إجهادِ الهيكلِ بدلاً من الطباعة التقليدية بطبقات أفقية.

من جهة أخرى فإن Lavallee كان يعمل على مواد جديدة مركّبة من البلاستك الحراري، وجمع الاثنان خبراتهما وعملا معاً على صناعة طابعة ثلاثية الأبعاد تضخّ المادة المركبة عبر فوّهة، وتشكّلها وتحيكها خلال صبّها مع ألياف الزجاج المقوى ليعطيها القوة والشكل المناسبين.

وقد ساعدت الفريق مجموعة من الطلاب من اختصاصات متنوعة من التصميم المعماري وحتى هندسة الكومبيوتر في مهمّته هذه، حيث يقول Mueller: "إن العملية برمتها لم تكن حول تعليميهم كيفية القيام بتصميم هذا الهيكل على المريخ، لأن لا أحد منّا يعرف كيف يفعل ذلك، بل كنا نكتشف سويّة كيفيّة بنائها".

حيث شاهد الطلاب أفلام الخيال العلمي كـ”2001” و “Gravity،” من أجل استلهام الأفكار، وشاهدوا أيضاً حلقات من المسلسل البريطاني المستقبلي “Black Mirror” حيث تقول Nicole Ashurian طالبة الماجستير في العمارة: " لقد وجدنا في هذه الأفلام إلهام كبير لنا، ولكنها كانت مخيفة في الوقت ذاته".

لقد أصرّت المجموعة في مواجهة لاتساع الفضاء الهائل على تصميم مسكن يكون مريحاً بقدر ما يحقق الوظيفة المرجوة منه.

اختار الفريق الشكل الحلقي المشابه لشكل حلوى الدونات الشهيرة، الذي يمكنه أن يكون مضغوطاً بالهواء من الداخل، ويحقق بالوقت نفسه بيئة معيشية متصلة مع بعضها، ويؤمن بالإضافة لذلك الخصوصية في بعض الفراغات.

تختلف البيئة المريخيّة اختلافا شاسعاً عن البيئات التي عهدناها، حيث تقول Ashurian في أثناء محاولتها لتطوير تجربة لتصميم البنية الإنشائية: "هنالك اختلافات مناخية قد تكون طفيفة أحياناً أو كبيرةً أحيانا أخرى، فمرة يكون الجو حاراً، وتارةً بارداً كما في أعالي الجبال، ولكنّنا لم نأبه كثيراً بهذا الاختلاف، بل اعتمدنا بشكل كبير على طلاب قسم الهندسة لحل المشكلات من هذا النوع والتي يصعب علينا معالجتها".

وكانت مهمّة Mitchell Gu أحد الطلاب المختصين بمجال الهندسة الكهربائية وعلوم الكومبيوتر أن يقوم بالتحليل التقني ويتأكد من إمكانية تنفيذ هذا التصميم، حيث يقول: " كانت إحدى مخاوفنا هي عدم وجود مادة السيليكا في الرمل الموجود على المريخ بشكل يكفي لصنع الزجاج، ولكن لحسن الحظ، تمكّنت المركبة التي تجول على المريخ من إيجاد بقعة تحتوي تربتها على السيلكا بنسبة 60%، بطلق عليها اسم وادي السيلكا. كما توصل Gu وباقي أعضاء الفريق لطريقة مكنتهم من إنتاج البولي بروبلين من الهيدروجين وثاني أوكسيد الكربون الموجودان في الغلاف الجوي للمريخ، حيث أن البولي بروبلين ضروري لإنتاج مركب البلاستك الحراري.

وبعد مدة طويلة من العمل وإجراء التجارب المختلفة قام أعضاء الفريق بوضع كل ما جمعوه من معارف ضمن عرض تقديمي لهذا التصميم الذي أسموه Ouroboros كناية عن رمز إغريقي لأفعى تلتهم ذيلها، حيث تقول Mueller واصفةً هذه التجربة: "لقد كانت شيئاً يشبه العمل على كتاب للخيال العلمي ومسابقة معمارية في آن واحد، إضافةً لبعض أعمال الحوسبة الهندسية الحقيقية طبعاً"، وتضيف: "لقد كانت تجسد بالفعل رسالة معهد MIT، حيث جمعنا كل هذه الخبرات من مختلف الاختصاصات لصنع شيء مبتكر بكل ما تحمل الكلمة من معنى".

وتتضمن المرحلة التالية من المسابقة صنع نموذج مصغّر للمسكن، حيث قام Lavallee بجمع كل الأدوات من الورش المعمارية بالإضافة إلى الآلات المعدنية، وقوالب الصب الرملية المصنوعة من الألومينيوم، وقام بطباعة البلاستك الحراري لتشكيل البنية الأقرب للتصميم المقترح، حيث يقول: "غالباً ما نركز على آلة أو أداة واحدة للعمل في المشاريع الاعتيادية التي نعمل عليها، ولكن المثير في هذا المشروع هو تركيز قدراتنا جميعها وصبّها ضمن مشروع واحد".

وأخيراً، جاءت اللحظة الحاسمة، حيث توجه الفريق إلى مدينة نيويورك ليواجه 30 خصم آخر، وأغلب هذه الخصوم كان من المكاتب المعمارية المحترفة، وبعد فترة من الزمن كانت الصدمة كبيرة لأعضاء فريق MIT عندما اختارت اللجنة تصميم آخر، حيث تقول Mueller: "هذا لا يعني أن التجربة كانت عديمة القيمة، بالطبع شعرنا بخيبة الأمل، ولكن سرعان ما تلاشت، وأصبح الأمر بالنسبة لنا أكبر من مجرد الفوز بهذه الجائزة"

فقد تمكن كل من Mueller و Lavallee من تطوير أفكار جديدة حول الطباعة ثلاثية الأبعاد، ويخطّطان الآن لإضافة هذه الأفكار لأبحاثهم ومناهجهم التعليمية، حيث يقول Lavallee: "البلاستك الحراري هو مستقبل المواد المركبة، لقد كانت تجربة غنية وممتعة لأنها أكسبتنا خبرة كبيرة في هذه الأنظمة الجديدة"

ويخطّط الفريق لدخول المرحلتين التاليتين للمسابقة من خلال إنشاء التصميم بالمقياس الحقيقي للمشروع المقترح، وبناء التجهيزات كاملة، ولكل من هذه المراحل جائزة تقدر بـ 1.1 مليون دولار.

وبالنسبة لـِ Mitchell Gu إضافة لكون المسابقة قد ألهمته بأحلام أوسع، فأن التجربة هذه أشعلت حبّه للفضاء مما جعله يفكر جدياً باتخاذ العمارة في الفضاء كمهنة مستقبلية له، لربما يجد نفسه يوماً يبني بشكل حقيقي على الكوكب الأحمر، حيث بقول: " لقد جعلتني المسابقة أدرك أننا ربما ندخل الآن بعصر المريخ، كما دخلنا يوماً بعصر القمر، وإنها لفرصة عظيمة وخاصة أن أكون جزء من هذا العصر".

نهايةً، يبدو حتى وإن اختلفت البيئات التي نصمم فيها، فالمبادئ التي تعلمناها من تاريخ عمارة أسلافنا تبقى مفيدة حتى وإن ذهبنا إلى المريخ، وإحدى أهم هذه المبادئ هو استخدام مواد البناء المحليّة في الإنشاء.

شاركونا بآرائكم.

----------------------------------------------------------------------

هامش:

المفاهيمية: وهي حالة تحويل فكرة ما وجعلها ملموسة عبر الرسم أو الأعمال التركيبية، ظهر هذا الأسلوب الفني المفاهيمي في أميركا وأوروبا في نهاية الخمسينيات وبعدها انتشر في العديد من عواصم العالم.


المصدر:

هنا