البيولوجيا والتطوّر > علم المورثات والوراثة

الضغوط النفسية لدى الآباء، ومشاكل الأبناء الصحِّية... هل من رابط يجمعهما؟

استمع على ساوندكلاود 🎧

منذ أن دخلنا المدرسة وبدأنا نتعمّق في مادة علم الأحياء، سمعنا كثيراً من معلمتنا أنّ DNA هو المادة الوراثية ذات الشكل الحلزوني المزدوج هو المسؤول عن حمل الصفات والتعليمات الوراثية ونقلها من جيل لآخر وفق القوانين الماندلية. في تلك الفترة اكتفينا بهذا القَدَر من المعلومات دون الدخول في المواضيع المتعلقة بالعوامل المؤثّرة على الدنا أو تلك المنظّمة لانتساخه والتعبير عن المورثات التي يحملها. وعندما أصبحنا في المرحلة الجامعية أدركنا أنّ المادة الوراثية ليست مُجَرَّد طاقين من النكليوتيدات المتقابلة المتتامة، بل تملك بُنية ملتفّة على بروتينات تُدعى بالهستونات، وأنه يتم انتساخ DNA إلى جزيئات تُدعى ب RNA. كما أنّ لل RNA أنواع مختلفة أحدها المِرسال أو mRNA، والذي بدوره يُترجَم إلى بروتين موافق. كما تعرّفنا أيضاً على العديد من عوامل تثبيط وتفعيل لانتساخ لترجمة المادة الوراثية.

وفقاً لهذا المخزون المعرفي فنحن نعتقد بأنّ DNA (وفقط DNA!) هو مسؤول عن توريث الصفات من الآباء إلى لأبناء، وأي تغيير يطرأ على DNA يتبعه تغير في تلك الصفات.

إلّا أنّ الدراساتُ الحديثةُ تجعلُ الباحثينَ يدركون حقيقةَ وجود آليات ومواد أخرى مسؤولة عن توريث الصفات وظهورها لدى الكائن الحي، وهذا ما سنتناوله في المقال التالي:

نتيجةً لدراسات إُجرِيَت في جامعة بنسلفينيا بالولايات المتحدة الأمريكية بقيادة البروفيسورة Tracy Bale المختصّة في علوم الأعصاب في مدرسة Penn للطب البيطري و مدرسة Perelman للطب البشري، بالتعاون مع كل من خريجي Ali Rogers و Christopher Morgan وأخصائي البحث N. Adrian Leu من مدرسة Penn توصّل الباحثون إلى أنّ الأحداث التي يعيشها الآباء خلال حياتهم لها تأثير مهم على نمو دماغ الأبناء و صحتهم النفسية.

حيث أظهرت على المستوى الجزيئي وباستخدام أساليب بيولوجيّة بحتة كيف أنّ الشدّة أو الضغط النفسي يغيّر في تركيبة نطاف الفأر الذكر بطريقةٍ تؤثر على استجابة أبنائه للضغوط النفسية.

وقد ترافقت هذه الدراسة مع أدلّة مهمة تشرح كيفية تأثير الأحداث التي يمرّ بها الأب أثناء حياته على تطور دماغ أطفاله وصحتهم العقلية والنفسية.

تقول Tracy Bale: "إنّ تعرّض الفأر الذكر لضغط نفسي معتدل الشدّة قد يؤدّي لتغيير هائل في التعبير عن جزيئات الرنا الأصغري - miRs"

إنّ الفئران الذكور الذين تعرّضوا لضغوط نفسية قبل التكاثر- من خلال تغيير أقفاصهم، أو تعريضهم لرائحة حيوان مفترس كبول الذئب، أنجبوا أبناءً يتمتّعون باستجابةٍ ضئيلةٍ للضغوطات. وعند مقارنة النطاف المأخوذة من الفئران المُعَرَّضين للضغوط النفسية مع النطاف المأخوذة من الفئران غير المُعَرَّضين لهذه الضغوطات، كانت النتيجةُ هي تزايدٌ في تعبير تسعة أنواع من جزيئات miRs في نطاف الفئران المتعرّضة للضغوط.

وقد صرّح الباحث المسؤول بأن النتائج السابقة ليست ذات أهمية مالم يثبُت وجود علاقة سببية لهذه الفروقات في التعبير.

لإثبات ذلك، قام فريق العمل بحقن تلك الأنواع التسعة من miRs في البيضات الملقّحة ومن ثمّ زرعها في أرحام الفئران الطبيعية. أما المجموعة الشاهدة فقد تضمّنت بيضات ملقّحة تلقّت إما حقنة مزيّفة أو حقنة حاوية على جزيء miRs واحد.

بعد أن أصبحت ذرية هذه الفئران (الخاضعة للتجربة) في سنّ البلوغ تمّ اختبار استجابتها للضغوط، فكانت النتائج متوافقة لنتائج دراستهم السابقة، وكانت كما يلي:

الذريّة التي نشأت من الفأرة الحاوية على البيضة المحقونة بعدّة أنواع من miRs أظهرت مستويات كورتيزون منخفضة مقارنةً مع المجموعة الشاهدة. كما لوحظ لدى ذريّة الفئران الناشئة من الأم التي تلقّت حقنة مكوّنة من عدّة أنواع من miRs تغييرات كبيرة في التعبير الجيني ضمن النواة الوطائية المجاورة للبطين، وهي منطقةٌ من الدماغ مسؤولةٌ عن تنظيم الاستجابة للضغوط، ومن الممكن أن تؤثر على تطوّر الجهاز العصبي في المراحل المبكّرة من التطور الجنيني.

في نهاية البحث، هدف الباحثون إلى تحديد الآلية التي تقوم خلالها الmiRs بهذا التأثير. فمن المعروف أنّ ال miRs هي خيوط قصيرة من ال RNA، لا يتمّ ترجمتها إلى بروتين، بل تتجلّى وظيفتها في إسكات أو تخريب أنواع محدّدة من RNAs مانعةً بذلك ترجمتها إلى بروتين.

لذلك توجّه اهتمام الباحثين إلى دراسة mRNA الأمومي المُخَزَّن في البويضة لحظة اندماجها مع النطفة والمتواجدة للحظات وجيزة بهدف توجيه تطوّر البيضة الملقّحة إلى حالة الخليتين والأربع خلايا.

إنّ الظنّ السائد يقول: بما أنّ mRNA الأمومي المُخَزَّن في البويضة الملقّحة هو الذي تتم ترجمته خلال المراحل المبكّرة من تطوّر البويضة الملقّحة (مرحلة الخليتين والأربع خلايا)، فإنّ الصفات الموروثة من الأم هي التي تعبّر عن نفسها بشكل كامل، أما الصفات الموروثة من الأب فتبقى صامتة. إلّا أنّ الأبحاث الأخيرة تشير إلى إمكانية miRs الخاصة بالنطاف أن تقوم بمهاجمة mRNA الأمومي محدّدةً بذلك أيٌّ من جزيئات ال mRNAs سيتمّ ترجمته.

للتأكد من هذا، قام الباحثون مجدداً بحقن miRs في البويضات الملقّحة مع وجود مجموعة شاهدة، ولكن في هذه المرّة قاموا بحضن البويضات الملقّحة لثماني ساعات، ومن ثم قامو بتضخيم ال RNA في كل خلية لقياس مستويات التعبير الجيني فيها. فوجدوا أنّ ما تمّ حقنه بعدّة جزيئات multi-miR injection انخفضت مستويات mRNA الأمومي لديه مقارنةً مع المجموعة الشاهدة. إنّ أكثر جزيئات ال mRNA تأثّراً كانت تلك المسؤولة عن إعادة تشكيل الكروماتين.

تعتقد Tracy Bale أنّه عندما يواجه الذكر ضغوطاً نفسية فهذا يؤدّي إلى تحرير miRs من الخلايا الظهارية المبطّنة للبربخ. هذه ال miRs يمكن أن تشارك في عمليات نضج النطاف كما تؤثّر على الإخصاب.

يبقى هذا الموضوع قيد الدراسة، وعلى الباحثين الإجابة على أسئلة عديدة من بينها: ما هي العوامل المؤدّية إلى تحرير ال miRs وكيف يمكن منع تأثير الضغوط النفسية من التأثير على الذرية؟

كما يأمل الباحثون بدراسة دور miRs عند البشر، ومعرفة فيما إذا كان مدى أثر الاستجابة للضغوط النفسية عند الفئران والبشر هو ذاته.

المصادر:

هنا