المعلوماتية > عام

فرضية الكون القابل للحوسبة - الجزء الأول

استمع على ساوندكلاود 🎧

يوجد فرقٌ بين الأنظمة الفيزيائية التي تقوم بعملياتِ الحوسبة من جهة- مثل الحواسيب (computers) والحاسبات (calculators)- والأنظمةِ الفيزيائية التي لا تقوم بأي عملياتِ حوسبة، كالصخور. ومن جهةٍ أخرى بين الأجهزة التي تقوم بعمليات حوسبةٍ أكبر والتي تقوم بعمليات حوسبة أقل. ما الذي يتحكم في هذه الاختلافات؟ ما هو الفرق الرئيسي، إن وجد، بين الصخرة والحاسبة، أو بين الحاسبة والحاسب؟[2]

أولًا، ما هي الحوسبة؟ لطالما كان ولازال هذا السؤال المحوري في مجال علوم الحاسب. في بداية عام 1930، كانت الحوسبةُ تعني وظيفةَ الأشخاص الذين كانوا يشغلون الحاسبات العملاقة. في نهايات عام 1940، عُرفت الحوسبة بأنها مجموعة الخطوات المنفّذة من طرف حواسيبَ أوتوماتيكية لإنتاج مخارجَ معرفة، وقد بقي هذا التعريف المعياري لخمسين عامًا بعد ذلك. لكنه الآن يخوض تحدياتٍ كثيرة؛ حيث بدأ أشخاصٌ من مجالاتٍ عدة يتقبلون فكرةَ أن التفكير الحوسبي هو طريقةٌ لفهم العلوم والهندسة. الإنترنت مليءٌ بالمخدمات التي تقوم بالأعمال الحوسبية دون توقف. باحثون في مجالات الفيزياء والبيولوجيا يدعون اكتشاف عمليات حوسبة من الطبيعة لا علاقة لها بالحواسيب.

الحوسبة الآن في كل العلوم، علماء الحاسب يصمّمون ويبنون ويبرمجون الحواسيب. لكن مجددًا نعود لسؤالنا، ما الذي يمكن اعتباره حاسوبًا؟ ماالذي تفتقده الصخرة (كنظام فيزيائي) ويمتلكه الحاسوب؟ [3]

بحسب «سيذ لويد»، مؤلف كتاب: برمجة الكون (Programming the Universe)، جميعُ التفاعلات التي تحدث بين الجزيئات في الكون، لا تنقل الطاقةَ فحسب، بل المعلومات أيضًا. بعبارة أخرى، الجزيئاتُ لا تتصادم فقط، بل تقوم بعمليات حوسبة؛ الكون كله يقوم بالحوسبة: كل ذرة وإلكترون وجسيم أولي يحفظ بتات من المعلومات، وفي كل مرة يتصادم فيها جزيئان، تتم معالجة هذين البتّين. بالتعمق في القدرة الحوسبية للكون، يمكننا بناءُ حواسيبَ كمومية تخزن وتعالج المعلومات على مستوى الذرات والإلكترونات. هذه القدرة الحوسبية تشكل أساسًا للأنظمة المعقدة، وتقدم فهمًا أعمقَ لأصل الحياة ومستقبلها.[4]

تُدرَس الحوسبة وفق جهتين: نظريًا وماديًا؛ تُعنى الرياضيات بدراسة الجانب النظري للحوسبة، من خلال تقديم تعاريفَ رياضية للأمور القابلة للحوسبة، كالخوارزميات، وتقديم نظرياتٍ عن خصائصها.

وعلى النقيض من هذا، معظمُ استعمالاتِ الحوسبة في ميدان العلوم والتطبيقات الاعتيادية، تتعامل مع الحوسبة بشكلها المادي: مع الحوسبة في العالم الفيزيائي المادي، كالحواسيب والأدمغة البشرية.

إن أهم فكرة في الحوسبة هي الحوسبةُ الرقمية، التي تصورها كل من: آلان تورينغ (Alan Turing) وكورت غودل (Kurt Gödel) وألونزو تشيرتش (Alonzo Church) وإيميل بوست (Emil Post) وستيفن كلين (Stephen Kleene) عام 1930. حيث بحثت أعمالُهم في أساسيات علم الرياضيات. كان أحد أهم التساؤلات: هل المنطق ذو الرتبة الأولى1 (First order logic) قابل للحسم (decidable)؟ بمعنى هل توجدُ خوارزميةٌ تستطيع اتخاذَ قرار فيما إذا كانت عبارة منطقية معينة (ذات رتبة أولى) عبارة عن نظرية. أثبت كل من تورينغ وتشيرتش أن الإجابةَ سلبية: لا توجد خوارزميةٌ بهذا الوصف. لإظهار ذلك، قدّما وصفًا دقيقًا للمفهوم غير المعروف عن دالة قابلة للحوسبة وكتابتها على شكل خوارزمية.

تورينغ نجح في هذا من خلال ما يُعرف بآلة تورينغ (Turing machine)، وهي عبارة عن آلة افتراضية تعالج رموزًا منفصلة مكتوبة على شريط متوافقة مع عدد محدود من الأوامر.[2] لقراءة المزيد عن هذا الموضوع، اقرأ من هنا:

إن دراسةَ الدوال القابلة للحوسبة أصبح ممكنَا بفضل أعمالِ تورينع والآخرين. (انظر الفقرة التالية)

الحوسبة الفيزيائية:

بحسب فرضية تورينغ-تشيرتش، أي دالة قابلة للحوسبة بشكل حدسي تكون قابلةً للحوسبة بآلة تورينغ، يمكن صياغةُ هذا كما يلي: "أي دالة يُنظر إليها أنها قابلة للحوسبة بشكل طبيعي هي دالة تورينغ-حوسبية (Turing-computable)" .

قابلة للحوسبة بـ«شكل حدسي» يُعنى بها أنها قابلةٌ للحوسبة باتباع خوارزمية أو إجراء فعال. يتضمنُ الإجراءَ الفعال لائحةً منتهية من الأوامر الواضحة لإنتاج بنياتٍ رموزية (symbolic structures) جديدة انطلاقًا من بنياتٍ رموزية قديمة.[2]

الكون كنظام حوسبي:

يدرسُ بعضُ العلماء أن الكونَ الفيزيائي أساسًا قابلٌ للحوسبة. الكونُ بحد ذاته عبارة عن نظامٍ حوسبي، وكل ما بداخله هو نظامٌ حوسبي أيضًا. حيث يُنظر إليه وفق منظورين مختلفين؛ أولهما مشتغل آلي خلوي (cellular automata) (سيتم شرحه في الأسفل)، والذي يمثّلُ النموذجَ الحوسبي التقليدي، والثاني الحوسبة الكمومية (quantum computing) والذي يمثل النموذج غير التقليدي.

فكرةُ أن الكون يمكن أن يكون حاسوبًا رقميًا عملاقًا وُجدت منذ عشرات الأعوام. في عام 1960، اقترح إدوارد فريدكن (Edward Fredkin)، ثم أستاذ معهد MIT كونراد زوس (Konrad Zuse)، الذي بنى أولَ حاسوب رقمي إلكتروني في ألمانيا في بداية 1940، فكرةَ أن الكونَ هو حاسوبٌ رقمي متكامل (وحديثًا لاقت الفكرةُ دعمًا من طرف عالم الحاسب ستيفن وولفريم (Stephen Wolfram)). بحسب هؤلاء الفيزيائيين، الكونُ عبارةٌ عن مشتغلٍ آلي خلوي عملاق.

المشتغل الآلي عبارة عن شبكةٍ من الخلايا، بحيث تأخذُ كلُّ خلية حالةً من ضمن مجموعة منتهية من الحالات وتقوم بتحديث حالتها بخطوات منفصلة وفق الحالاتِ المجاورة لها، لكي يكون الكونُ عبارة عن مشتغل آلي خلوي، ينبغي أن تكونَ جميعُ المقادير الفيزيائية منفصلة (discrete). إضافة إلى ذلك، الزمان والمكان يجب أن يكونا منفصلين.

مثال عن مشتغل آلي خلوي (Cellular automata)

على الرغم من قدرةِ المشتغلات الآلية الخلوية على وصف العديدِ من الظواهر الفيزيائية الأساسية، تصعبُ محاكاةُ الميزات الكمومية للكون باستعمال نموذج تقليدي كـ المشتغلات الآلية الخلوية.

الكون كمومي أساسًا، والحواسيب الاعتيادية لا تملك القدرةَ على محاكاة الأنظمة الكمومية. لماذا؟ لأن ميكانيكا الكم أكثرُ غرابةً ومخالفة للحدس مقارنة بالحواسيب العادية كما بالنسبة للبشر. في الحقيقة، من أجل محاكاة جزء صغير جدًا من الكون، لنقل بضعةَ مئات من الذرات لجزء واحد من الثانية، يحتاج حاسوب عادي إلى مساحة ذاكرة أكبر من عدد الذرات الموجودة في الكون كله، وإلى زمن أطولَ من عمر الكون الحالي لإنهاء المحاكاة.

هذا ما أدى إلى تطوير نماذج الحوسبة الكمومية، فبدلَ الاعتماد على الأرقام- غالبًا أرقام ثنائية أو بتات- تعتمد الحوسبةُ الكمومية على الكيوبتات (qubits). الفرق بين الكيوبت والبت هو أنه فيما يمكن للبت أن يأخذَ قيمةً واحدة من أحد القيمتين: 0 أو 1، يستطيع الكيوبت أن يأخذَ مجموعةً من القيم والتي تمثل التراكبَ الكمي (superposition) لحالتين 0 و1. وفق هذا النموذج، الكونُ ليس حاسوبًا كلاسيكيًا بل هو حاسوبٌ كمومي، أي أنه حاسوب لا يعالجُ الأرقامَ بل الكيوبتات.

النسخةُ الكمومية للكون أقلُّ جذرية من النسخة التقليدية، حيث أن النسخةَ التقليدية تحذفُ الاستمرارية من الكون، بالادعاء أن حذفَها يتيحُ للحواسيب الكلاسيكية تقديمَ وصف حرفي للكون بدل التقريبي.[2]

الكون عبارة عن نظامٍ فيزيائي، إذن يمكن محاكاته بفاعلية باستعمال حاسوب كمومي- بحجم الكون نفسه- ولأن الكونَ يدعمُ الحوسبةَ الكمومية، وبالإمكان محاكاته باستعمال حاسوب كمومي، فهو يمتلكُ قدرةً حوسبية لا تقل ولا تزيد عن حاسوب كمومي بحجم الكون.[4]

لقراءة المزيد عن الحواسيب الكمومية، اقرأ من هنا:

هنا

رأينا كيف يمكن لقوانين الفيزياء أن تُستعملَ لأداء الحوسبة الكمومية بشكلٍ فعال، دعونا نكتشف كيف يمكن للحاسوب الكمومي أن يقومَ بمحاكاة القوانين الفيزيائية.

«المحاكاة الكمومية» هي العمليةُ التي من خلالها يقوم حاسوبٌ كمومي بمحاكاة نظام كمومي. بسبب الخصائص الكمومية الغريبة، تقوم الحواسيبُ الكلاسيكية بمحاكاة الأنظمة الكمومية بطريقة أقلَّ فاعلية. لكن ولأن الحاسوبَ الكمومي هو نفسه نظام كمومي قادرٌ على إبراز جميع الخصائص الكمومية، فهو قادرٌ على محاكاة الأنظمة الكمومية الأخرى بفاعلية.

كل جزءٍ من النظام الكمومي الذي ترادُ محاكاته يخزّنُ ضمن مجموعة من الكيوبتات داخل الحاسوب الكمومي، وتتحول مختلفُ التفاعلات بين هذه الأجزاء إلى عمليات منطقية كمومية. تكون المحاكاة الناتجةُ دقيقةً للغاية لدرجة يصعب التفريق بينها وبين النظام الذي تمت محاكاته.

في عام 1982، اقترح عالمُ الفيزياء الحائز على جائزة نوبل ريتشارد فاينمان (Richard Feynman) جهازًا افتراضيًا سمّاه: المحاكي الكمومي الكوني (Universal Quantum Simulator)، لمحاكاة 300 لف مغزلي نووي (nuclear spins). احتاج المحاكي الكمومي الافتراضي 300 كيوبت فقط. طالما من الممكن برمجةُ التفاعلات بين الكيوبتات الـ300 لمحاكاة الـ300 لف مغزلي، لذا فديناميكية الكيوبتات تستطيع محاكاةَ ديناميكية الالتفافات المغزلية. فاينمان أشار فقط إلى إمكانية وجود محاكٍ كوني كمومي ولم يتطرق إلى طريقة بنائه.[4]

سنتطرق في مقالنا القادم على أهم الدلائل الكمية التي تدل على حوسبية الكون، وسنحاول معا حساب مقدار حوسبية الكون ومالذي يمنعنا حتى الآن من بناء حاسوب كمومي؟ الكثير والكثير من الأسئلة سنحاول الإجابة عنها في المقال القادم قترقبونا.