الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة

الإنسان المغرور؛ صفاته وموقعه الأخلاقي في فلسفة نيتشه

لا يمكن أن يتصور الإنسان النبيل أو يتخيل وجودَ الإنسان المغرور، وتنجم هذه الاستحالة عن طبيعة الإنسان المغرور وطبيعة الغرور ذاته كما يفهمها الإنسان النبيل كونها أخلاق الوضاعة والوضيعين.

فمَن المغرور؟ المغرور هو الشخص الذي يجهد نفسَه في إيهام الغير رأيًا حسنًا به حتى وإن كان المغرور نفسه لا يعتقد ذلك بنفسه؛ ولكن لا يلبث في النهاية أن يُصدِّق ذلك عن نفسه ويقنع ذاته بذاته أنه أهل لذلك الوصف الحسن.

يعود استحسان المغرور بهذا الوصف -بحسب نيتشه- إلى أمرين:

الأمر الأول: عدم قدرة المغرور على وضع نفسه في المكان الحقيقي والصحيح، فيطلب من الآخرين أن يفعلوا ذلك بدلًا منه؛ وعلى الرغم من ذلك فهو يبذل جهدًا في إقناعهم بوضعه في موقع معيَّن يختاره هو بنفسه، وهذا ما يُسمِّيه نيتشه (صَلَفًا وضِعَة).

الأمر الثاني: أن يُبادر الآخرون إلى إبداء رأي حسن في الشخص المغرور، فيُسارع هذا المغرور إلى تصديق ذلك عن نفسه؛ لأن هذا الرأي يجلب له مَنفعة بغض النظر عن صدق ذلك الرأي أو لا، ودون أدنى محاكمة منه عن استحقاق ذلك له.

من أين يأتي الغرور؟ وهل الغرور راسخ في الإنسان المغرور بالفطرة؟ أم بالوراثة؟ أم هو أمر مكتسب؟

يرى نيتشه أن الغرور ينجم بحكم أخلاق العبيد المتأصِّلة في الإنسان المغرور، وهو نابعٌ من أنه ليس بمقدوره وضع قيمة حقيقية لنفسه؛ لأن (خلق القيمة) من حق الأسياد.

إذًا؛ الذي لا يقدر على خلق قيمة لنفسه سيكون محكومًا بالقيم التي سيضفيها عليه الآخرون، ولن يكون بوسعه أن لا يتأثر بهذه الأحكام أيضًا، بل سيكون مُغتبطًا بالقيم الحسنة التي سيضفيها إليه الآخر قولًا له أو اعتقادًا به، وسيُكابد صعابًا جرَّاء إطلاق أحكام سلبية عليه أيضًا.

نعود لنقول: كل ذلك ينبع من عدم قدرته على خلق قيمة لذاته، وكل ذلك بحكم العبودية الكامنة فيه وما يتبعها من أخلاق، والتي ستجعل منه محطَّ تقييم وغير قادر على تقييم الآخرين ولا حتى على تقييم نفسه.

قيمة الغرور الأخلاقية السلبية عند نيتشه:

إن أول ما يتبادر إلى الذهن عند قراءة نص نيتشه عن الغرور؛ هو الخلط بين الترفُّع النبيل والغرور الوضيع.

ولنميز الغرور بحسب نيتشه؛ علينا أن نُحدِّد سماته الأساسية:

أولاً الغرور ضرب من الكذب على الذات، وهو نوع من إيهام الذات بالكذب، ورضوخ لأحكام الآخرين وسحق الذات أمام الآخرأيضًا، وهو اتِّسام وهميٌّ بالنبل عند العبد.

يُمكِّننا هذا التحديد الدقيق من التمييز الحقيقي للقيم النبيلة والسامية والرفيعة قبل أن يُضيِّق لنا المجال على تمييزنا القيم الخسيسة.

إذ إنَّ الإنسان النبيل لا يستمدُّ قيمته ولا يسمح لأحد أن يكون في موضع المقيِّم له لا سلبًا أو إيجابًا، وذلك ينبع من إدراكه ذاته صانعًا للقيم وخالقًا ومبدعًا لها.

يُمكننا بهذا المعنى وضع الغرور موضع خِسَّة، وبغير هذا الفهم؛ سيكون لدينا من الخلط القائم ما يحيلنا إلى أخلاق العبيد من تذلُّل وخضوع وتسول للتقدير، لا كما قد يحسب أحد ما أن الغرور هو ما يُقابل العبودية؛ إذ إن الغرور سِمَة من سمات المتمثِّل أخلاق العبيد؛ لأن الغرور هو تسوُّل للقيمة ملازم لمن لا يستطيعون خلق القيم لأنفسهم.

المصدر: فريديريك نيتشه: ما وراء الخير والشر، ترجمة جيزيلا فالور حجار، نشر وتوزيع غروب فاي، بيروت، الطبعة الأولى، 1955، ص 262 وما بعدها.