أبحاث ومشاريع سورية > أبحاث الدكتوراه

باحثون سوريون ينشرون حالة سريرية نادرة: تضاعف القطعة الثالثة للعفج

استمع على ساوندكلاود 🎧

لقد تحوّل العلم في زمننا هذا إلى مركبٍ كبيرٍ تدفعه آلاف العجلات حول العالم. كلُّ باحثٍ أو عالمٍ يكتشف فكرة جديدة ويرسلها لتلحق بالركب العلمي العالمي وتضيف إليها أثراً مهما كان صغيراً، وتتضافر هذه الإضافات الصغيرة لتحريك عجلات محركات الثورة العلمية لعصرنا.

إن الظروف الصعبة التي تمرّ بها سورية قد تجعلها متأخرة على عدّة أصعدة، إلا أن مساهمات السوريين مازالت تشقُّ طريقها إلى المجلات العالمية ليدلوا بإسهاماتهم وعلومهم وملاحظاتهم.

نُشر هذا البحث في 15 تشرين الثاني من عام 2015 في المجلة العالمية "حالات سريرية في الجراحة" (Case Reports in Surgery)، وتم إدراجه في فهرس الأبحاث الطبية العالمية Pubmed، وذلك بمساهمة من الأطباء الباحثين السوريين الأربعة: أسامة شاهين، وسامر سارة، ومحمد فراس الصفدي، وبيان السيد. ولا ننسى ذكر سعادتنا وفخرنا لكون الدكتور محمد فراس الصفدي جزءاً من عائلة مبادرتنا.

يتحدث مقالنا هذا عن "تقرير حالة سريرية"، ويقصد بهذا النوع من الدراسات أن يقوم الباحثون بتقديم دراسة علمية كاملة عن حالة سريرية معينة تحمل من الخصوصية ما يثير الجدل أو يزيد على بنك المعلومات العالمي. وقد أثبتت الأبحاث أن تجميع التقارير حول مثل هذه الحالات السريرية النادرة على المواقع العالمية للبحث العلمي يتيح جمع خلاصة تجارب الأطباء حول العالم للتمكن من إيجاد بروتوكولات تشخيصية وعلاجية حتى لأكثر الحالات المرضية نُدرةً.

"شابة بعمر 16 عاماً، جاءت إلى قسم الإسعاف بمشفانا، تشكو من ألمٍ بطنيٍّ متكررٍ بعد الوجبات، يتوضَّع هذا الألم في منطقة أعلى ومنتصف البطن وينتشر أحياناً إلى كتفها الأيسر. كما أن الفتاة عانت من الغثيان والقيء المستمرّين، بالإضافة إلى انعدام الشهية الحاد وفقدان بالوزن".

هذا ما جاء في ذكر القصة الأولية، وبالتدقيق والتمحيص ذكر الأطباء معدّو الدراسة أن الفتاة كانت تبدو قلقة، وَهِنة، قليلة الإماهة، قلبُها متسرّع ومؤشر كتلة الجسم لديها يعادل 15.8 كغ/م2 (وهو مؤشر لحالة التغذية، حيث تبلغ القيم الطبيعية 18.5-25، وتشير القيمة المُشاهدة لدى المريضة إلى سوء شديد في التغذية). لم يُظهر فحص البطن لدى المريضة أي صلابة أو كُتَل مجسوسة، بل إيلاماً معتدلاً في أعلى ومنتصف البطن. أما الفحوص المخبرية فقد أظهرت وجود فقر الدم، واضطراب المعادن في الدم، ونقص بروتينات الدم.

لا بد في هذه المرحلة أن نذكر بعض المعلومات عن تضاعف الأمعاء. من المعلوم للجميع أن الأمعاء هي بنية أنبوبية يمر الطعام عبرها ليتم هضمه وامتصاصه. وفي بعض الأشخاص يحدث تشوه خلقي عند تكوّن الأمعاء في المرحلة الجنينية، بحيث تتشكل بنية أنبوبية أو كيسية أخرى طويلة أو قصيرة، وتكون ملتصقة من الخارج بجزء من الأمعاء ولكنها منفصلة عادة عن القناة المعوية بحيث لا يمكن للطعام أن يمر من خلالها. وهذا ما ندعوه بتضاعف الأمعاء.

وحالة تضاعف جزء من السبيل الهضمي هي حالة نادرة تبلغ نسبة حدوثُها حالة واحدة لكل 25 ألف شخص، حيث سجّل ريغينالد فيتز في منتصف القرن التاسع عشر أوّل حالة لتضاعف كيسة في السبيل الهضمي. ونسبة حدوث هذا التضاعف في العفج (ويدعى أيضاً الاثنا عشر، وهو الجزء الأول من الأمعاء الذي يتلو المعدة مباشرة) لا يتجاوز 5-12% من بين حالات تضاعف أجزاء السبيل الهضمي كلها. وما يجعل هذه الدراسة أكثر نُدرة وأهمية هو حدوث هذا التضاعف في الجزء الثالث من العفج، وهو أكثر أنواع تضاعف العفج نُدرة (حيث يقسم العفج تشريحياً إلى أربعة أجزاء). وغالباً ما تُشخَّص هذه الحالة خلال الطفولة والطفولة المبكرة، ولكن بعض المرضى لا يُبدون أية أعراض حتى البلوغ، وتظهر الأعراض في ثلث هؤلاء بعد سن العشرين.

بكل تأكيد عندما جاءت المريضة إلى المشفى لم يخطر ببال الأطباء للوهلة الأولى وجود هذه الحالة شديدة الندرة، فهذه الحالة تختلط تشخيصياً مع أي توسُّع كيسيّ في هذه المنطقة من الجسم، ويشمل هذا توسّعات القناة الصفراوية، والكيسات الكاذبة في البنكرياس، والأورام الكيسية في البنكرياس، والكيسات المساريقيّة، والرتوج العفجية.

تم لاحقاً إجراء فحوص متممة للمريضة شملت التصوير بالأمواج فوق الصوتية والتصوير الطبقي المحوري ليتّضح لدى الأطباء وجود كتلة كيسية مرتبطة بالجزء الثالث من العفج، في حين كان جوف العفج مشوشاً وغير واضح. بقي التشخيص موضعاً للشكوك، إلى أن تمَّ إجراء تنظيرٍ علويٍّ للمريضة عبر المعدة، والذي أظهر انضغاطاً شديداً في العفج بسبب الكيسة، بينما كانت المعدة متوسّعة بشكل كبير.

وقد تقرر إجراء العلاج الجراحي للمريضة نظراً لأن الجراحة هي الوسيلة العلاجية الوحيدة الممكنة في هذه الحالات. وقد بيّن الفحص الدقيق للمنطقة أثناء العملية أن الكيسة هي بالفعل كيسة تضاعفية على الجزء الثالث من العفج، ولكنها كانت ملتصقة بشدة على الأنسجة المجاورة، وخصوصاً البنكرياس والأوعية الدموية الرئيسية في المنطقة، بحيث لم يكن من الممكن استئصالها. ولذلك فقد تم اختيار إجراء جراحي يدعى باسم "التوخيف"، وفيه يتم فتح الجدار المشترك بين هذه الكيسة وبين الأمعاء بحيث تصبح الكيسة جزءاً طبيعياً من الأمعاء، ودون الحاجة لاستئصال الكيسة وتعريض المريضة لمضاعفات الاستئصال.

وللتأكيد النهائي، فقد تم بعد العملية فحص الجزء المُستأصل من جدار الكيسة في المُختبر تحت مجهر التشريح المرضي، وذلك بهدف التأكد من توفر الخصائص الثلاثة لتضاعف من السبيل الهضمي واستبعاد الأنواع الأخرى من الكتل أو الكيسات (ذلك أن بروتوكول العلاج يختلف كلياً حسب السبب)، وهذه الخصائص التي تم التأكد منها هي: وجود علاقة وثيقة مع السبيل الهضمي، ووجود طبقة من العضلات الملساء المميزة للأمعاء، ووجود طبقة بطانية مخاطية، وهذا ما ثبت بشكل مؤكد من خلال الفحص المجهري للجزء المستأصل من جدار الكيسة.

وعلى الرغم من تعقيد هذه الحالة، إلا أن ذلك يعتبر (من وجهة نظري الشخصية حيث لم يذكر ذلك في البحث) من حسن حظ الفتاة. فعلى الرغم من صعوبة الكشف والتشخيص، فقد خضعت المريضة لعدة فحوص بحيث أمكن تشخيص الحالة قبل الجراحة وعلاجها بالشكل الصحيح. وقد كانت نتائج الجراحة جيدة جداً، فقد تمت مراقبة المريضة لمدة 12 شهراً حيث تخلّصت من الأعراض السابقة وتحسّنت حالتها الغذائية، وارتفع مؤشر كتلة الجسم لديها إلى 20.5 كغ\م2.

المصدر: هنا