التعليم واللغات > اللغويات

علمُ اللّغويات.. موجةٌ من بحرٍ عميقٍ

استمع على ساوندكلاود 🎧

كلُّ لغةٍ في العالمِ هي خليطٌ مركّبٌ من المعارف والقدرات التي يُظهرها متحدّثو اللغة الواحدة من أجلِ سهولةِ التواصلِ فيما بينهم، وللتعبيرِ عن الأفكار والفرضيات والآراء والعواطف والرغبات بين بعضهم بعضًا، وهنا يأتي دورُ اللسانيات التي تهتمُّ بدراسةِ النُّظُمِ المعرفية بكل مظاهرها: ممَّ يتكونُ هذا النظام؟ وكيف يُكتسب؟ وكيف يُستخدم لإنتاجِ الرسائل وفهمِها؟ وكيف تبقى هذه النُّظُمُ ثابتةً ولا تتغيّر طوال هذا الوقت؟

 

يعتمدُ اللغويون على عددٍ من الأسئلة الجوهرية لمعرفة طبيعة اللغة، مثل: ما خصائصُ اللغات الإنسانية؟ وما المشتركُ فيما بينها، وكيف تختلفُ بعضها عن بعض؟ وإلى أي مدى يُعدُّ هذا الاختلافُ منهجيًا وغيرَ اعتباطي؟ وكيف يَكتسبُ الأطفالُ هذا الكمَّ من اللغةِ في هذا الوقت القصير؟ وما الطرائقُ التي تتغيَّر فيها اللغة؟ وهل هناك حدودٌ معينةٌ لهذه التغيُّرات؟ وما طبيعةُ العمليات التي نُجريها لبناءِ اللغة وفهمِها؟

في هذا المقال سنكتفي بتعداد أقسامِ علم اللسانيات وفروعِه، مع لمحةٍ مُوجزةٍ إلى نشأتِه، وهذه الأقسام هي:

- الصوتيات Phonetics: وهو علمُ دراسة الأصوات في أشكالها المادية.

- علم الأصوات Phonology: وهو علمُ دراسة الأصوات ولكن من الناحية الإدراكية.

- علم الصّرف Morphology: وهو علم دراسة تشكيل الكلمة.

- النحو Syntax: يدرسُ كيفيةَ تشكيلِ الجملة وبنائهِا.

- الدلالات Semantics: وهو علم دراسة المعاني.

- البراغماتية Pragmatics: وهو دراسةُ استخدامِ اللغة.

بالإضافة إلى بِنيةِ اللغة وتركيبَتِها هناك أيضًا اختصاصاتٌ عدّةٌ تتفرعُ عن هذا العلم، مثل:

- اللغويات التاريخية.

- اللغويات الاجتماعية.

- علمُ اللغة النفسي.

- اللسانيات (أو أنثروبولوجيا اللغويات).

- علمُ اللهجات.

- اللسانياتُ الحاسوبية.

- علمُ اللغة النفسي والعصبي.

ولأنّ من أهم سمات اللغة أنها بشرية، يتصل علمُ اللسانياتُ اتصالًا مباشرًا مع العلوم الإنسانية الأخرى ويتداخل معها، مثل العلوم الاجتماعية، والعلوم الطبيعية، والفلسفة والأدب والتربية، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، والفيزياء (فيما يتعلق بالصوتيات)، وعلم الأحياء (كعلم التشريح وعلم الأعصاب)، وعلوم الحاسب، وهندسة الحاسب الآلي، والعلوم الصحية (بما في ذلك فقدان القدرة على الكلام وعلاج اضطرابات النطق).

والغرضُ الأساسي من دراسة علم اللغة هو تقديمُ المعرفة، وبسبب مركزية اللغة - ولكونها العنصرَ الرئيس والأهمَّ للتواصل الإنساني - فإنّنا نجدُ أن حاملي شهادات الإجازة والدراسات العُليا في اللسانيات يُدرَّبون على العديد من المجالاتِ المتنوعة، متضمنةً طرائقَ تدريس اللغة، وعلمَ أمراضِ الكلام وتركيبِه، والروابطَ الطبيعية بين اللغات، ومحرّكاتِ البحث، والترجمةَ الآلية، والطبَّ الشرعي، والتسمية، بالإضافة إلى أشكالِ الكتابة والتحرير والنشر.

لنَعُدْ قليلًا إلى الوراء، يعودُ أصلُ علم اللغويات إلى حضارات القراءة والكتابة في العصور القديمة كبلاد الرافدين، وشمالي الهند والصين، ومصر، وقد شهِدتْ الهندُ تأسيسَ واحدةٍ من أوائلِ مدارس علم اللغويات وأعظمِها التي أدت إلى ظهور قواعد (بانيني) للُّغة السنسكريتية في الألفية الأولى، وظهرت حينها بداياتُ الاهتمام بعلم اللغة في الغرب مع ظهور حركة التنوير الفلسفية في القرن الثامن عشر، التي بدورها شجّعت على تكوين ما يسمّى بقواعد اللغة العامية، وزادَ الاهتمامُ بعلم اللغويات مع حاجة اللغة اللاتينية إلى تطويرِ أساليب تعليم اللغة وتجديدِ التَّواصل مع العلماء السنسكريتيين الذين اشتُهروا بموضوعيتهم وحِدَّةِ تفكيرهم. وقدْ وُلدَ علمُ اللغويات في بادئِ الأمر تحت مسمّى علم فقه اللغة philology واستمرَّ تطويرُه على يد الألمان والفرنسيين ونُظَرائهم في القارة الأمريكية، إلى أن نُشرت محاضرات (فيرديناند دو سوسور) في عام 1916 في باريس، والتي كانت سببًا في تحويل علمِ فقه اللغة المقارن والتاريخي المتَّبعِ في القرن التاسع عشر إلى علم لغويات القرن العشرين المعاصر، ليُصبح (سوسور) بذلك "الأبَ المؤسِّسَ" لعلم اللغويات الحديث. وقد تميّزَ منهجهُ في دراسة اللغة بكونه يَدرسُ اللغةَ لذاتِها وليس لأي سببٍ آخر، وقد تواكبَ نشرُ محاضراته مع نشرِ أول جزءٍ من كتاب لغات الهنود الحمر على الطَّرف الآخر من الأطلسي في واشنطن، بالإضافة إلى نشرِ (بلومفيلد) لكتابه الذي أعاد فيه تسميةَ علمِ فقه اللغة بعلم اللغويات linguistics، وفي الفترة التي تلتْ ذلك تطورَ علم الصوتيات في أوروبا بينما سادت دراسةُ البِنى اللغوية في أمريكا، وتلا مرحلةَ الازدهار هذه فترةُ فراغٍ علمي استمرت قرابة أربعين سنة سبَّبَها وفاةُ العديد من علماء اللغويات، وانتهت هذه المرحلة عندما توصل (جون فيرث) إلى صيغةٍ لدراسة صوتيات اللغة مع سياق النص، وقد تأثَّر بها طالبه (ميشيل هاليدي) الذي أوجد نظريةَ اللغة في السيَّاق الاجتماعي، وجذبت هذه النظريةُ الفئةَ الشابَّة إلى دراسةِ علم اللغويات، وكان من بين الذين اهتمُّوا بدراسة اللغة والمجتمع (نعوم تشومسكي)، مؤسسُ القواعد التوليدية التحويلية في بداية ستينيات القرن العشرين، التي يَعتمد عليها علمُ اللغويات المعاصر.

لنْ يكفينا مقالٌ واحدٌ للتعريف بهذا البحر الواسع، ولكن سنحاولُ جهدنا في قادمِ الأيام أن نحيطكم بمعظم جوانب اللغويات علمًا.

المصادر:

هنا