الطب > علوم عصبية وطب نفسي

المشي أثناء النوم

استمع على ساوندكلاود 🎧

"لقد قتَلَت ابنَتَها!" هذا ما كان يقولُهُ الناسُ وهم متجمِّعونَ حولَهَا، أمّا هي فكانت في حالةٍ من الصدمة؛ جُثَةُ ابنَتِهَا أمامَها

والسكّينُ في يدِهَا. لكنّها موقِنةٌ بأنّها لم تَفعَلهَا، وكيف تقتلُ فِلذَةَ كَبِدِهَا؟!

في الواقعِ كانت "تمشي أثناء نومِها" وخلال ذلك ارتكبت هذهِ الجريمةَ. والسؤالُ الذي يطرحُ نفسَهُ الآن، ما هو بالتحديدِ

"المشي أثناء النوم" Sleepwalking-Somnambulism؟ وما هي آليتُهُ ونتائجُهُ؟ هل يمكنُ بسبَبهِ أن تَحدُثَ جريمةٌ كهذِهِ؟

وكيفَ يُمكِنُنا علاجِ هذهِ الحالةِ؟

يعودُ أوّلُ ذكرٍ لحالةِ "المشي أثناء النوم" إلى فترةٍ تسبقُ عصرَ الطبيبِ المشهورِ أبوقراط (أي قبلَ القرنِ الخامسِ قبلَ الميلادِ)

وهي تتميزُ بالتأكيدِ بتفرّدٍ جعلها تنالُ اهتمامَ الأدباءِ فضلاً عن الأطباءِ، ففي مسرحيةِ "ماك بيث" للأديبِ الإنكليزي شكسبير

نجدُ أنّ السيدةَ ماك بيث تُتَّهمُ بقتلِ حَميها (والد زوجها)، والواقعُ أنّها كانت تمشي أثناء النوم.

فكيفَ يحدثُ "المشيُ أثناءَ النومِ" يا تُرى، أو، قبلَ ذلكَ، ما هو "المشي أثناء النوم"؟

في حالِ سألتَ أيّ شخصٍ غيرِ مختصٍ فإنّه، وبالاستدلالِ بالاسمِ، سيعرّف "المشي أثناء النوم": بأنَهُ مشيُ الإنسانِ أثناء

النوم! لكن الأمرَ ليسَ بهذا القدرِ من البساطةِ، ولذلك، ولنكون دقيقين أكثر، فـ "المشي أثناء النوم" هو قيامُ النائمِ بأيّ عملٍ

حركيٍّ معقّدٍ (كالمشي بالتأكيدِ، أو الكلام أو ارتداءِ اللباسِ أو إعدادِ الطعامِ أو...) أثناءَ النومِ، وعندما يستيقظُ النائمُ فلن يكونَ

مدركاً لما قامَ به.

أسبابُ "المشي أثناء النوم":

أولاً، لا بد لنا من لمحةٍ بسيطةٍ نُطِلُّ بها على أقسامِ النومِ الرئيسةِ، وهما قِسمانِ:

النومُ ذو حركةِ العينِ السريعةِ أو REM أي Rapid Eye Movement (وفيها تكونُ حركةُ مُقلَةِ العينِ اللاإراديةِ سريعةً)

وهي المرحلةُ التي تتميزُ بالأحلامِ وإفرازِ الهرموناتِ الضروريةِ للنموِ.

النومُ ذو حركةِ العينِ البطيئةِ NREM أي Non Rapid Eye Movement والذي يُقسمُ بدورِه إلى أربعةِ مراحلَ.

يَمُرّ الإنسانِ أثناءَ النومِ بهذه المراحلِ تباعاً (النومُ ذو حركةِ العينِ البطيئةِ بأقسامِها الأربعةِ المتتاليةِ ومن ثُم مرحلةُ حركةِ

العينِ السريعةِ) ويستغرق ذلك بحدودِ الـ 90 دقيقةً، ويَمرُّ الإنسانُ أثناءَ كاملِ فترةِ النومِ بحوالي 4-5 دوراتٍ من هذه

المراحل.

والآن، إلى بيتِ القصيدِ، يحدثُ "المشيُّ أثناءَ النوِمِ" في مرحلةِ النومِ ذي حركةِ العينِ البطيئةِ، وخاصةً في المرحلةِ الثالثةِ أو

الرابعةِ، وغالباً في الدورةِ الأولى أو الثانيةِ للنومِ.

في الواقعِ، لا يَملِكُ الأطباُء حتى الآن إجابةً واضحةً عن سببِ هذهِ الحالةِ، ولكنّ الآليةَ تَرتَبِطُ على الأغلبِ بعملِ بعضِ الخلايا

العصبيةِ في وقتٍ لا يَجِبُ أن تَعمَلَ فيه (أي عَمَلُ الخلايا العصبيةِ المُحرِكَةِ أثناءَ النومِ)، حيث تضطربُ الآليةُ الفيزيولوجيةُ

التي يَتُمُ بواسِطَتِهَا تَثبيطُ هذهِ الخلايا (أي إيقافُ عَملِها) في حالةِ "المشي أثناءَ النومِ"، وهذه الآليةُ باختصارٍ تَعتَمِدُ على ناقلٍ

عصبيٍّ مُثَبِطٍ هو الـ GABA أو gamma-aminobutyric acid، والناقلُ العصبيُّ هو مادةٌ كيميائيةٌ يتم إطلاقُها من أجزاءَ

معينةٍ من الخليةِ العصبيةِ لتُفَعِّلَ أو تُثبّطَ خليةً أخرى*.

ففي الحالةِ الطبيعيةِ أثناءَ النومِ، يؤدي هذا الناقلُ إلى تثبيطِ عددٍ من الخلايا العصبيةِ المسؤولةِ عن حركةِ العضلاتِ الهيكليةِ

في الجسمِ. وعلى الطرفِ المقابلِ (أي في حالةِ "المشي أثناءَ النومِ")، لا يَتِمُّ إنتاجُ أو إطلاقُ الـ GABA بشكلٍ كاملٍ، وبالتالي

تعملُ هذه الخلايا على إعطاءِ الأوامرِ المحرّكةِ للعضلاتِ ممّا يؤدّي إلى مشي المريضِ أو تغييرِ ثيابِهِ أو ما شابهَ ذلك،

ويكونُ السببُ الرئيسُ في هذه المشكلةِ هو عدمُ نضجِ الخلايا العصبيةِ (وهذا ما يُفسِّر لنا ما سنراه بعدَ قليلٍ من كونِ إصابةِ

الأطفالِ بهذهِ الحالةِ أكثرَ من غيرِهم).

أسبابٌ عديدةٌ قد تكونُ هي الأخرى سبباً للمشي أثناءَ النومِ منها (على سبيلِ المثالِ لا الحصرِ) التوترُ Stress وقلّةُ النومِ،

والحُمى، والكحول، وآلامُ الرأسِ الشديدةِ كالشقيقةِ Migraines، ونَقصُ المغنيزيوم.

ولدينا أيضاً العديدُ من الأمراضِ التي قد تسببُ هذه الحالةَ:

- لانظميةُ القلبِ أو اضطرابُ نَظمِ القلبِ Arrhythmia (أي اضطرابُ "الإيقاعِ" الذي يعملُ به القلبُ).***

- الربو الليلي Asthma.**

- نوباتُ الصرع الليليةُ Seizures (وتقلصُ العضلاتِ الشديدُ أثناء النومِ).

- زلّةُ التنفسِ الانسداديةُ Obstructive sleep apnea (توقّفُ التنفسِ لثوانٍ أثناءَ النوم).

- العودُ المريئي المَعِدي Gastroesophageal reflux (أي انتقالُ الطعامِ من المعدةِ إلى المريء فالفم- بعكسِ الطريقِ

الطبيعيِّ، والذي ما يُسبّب عادة حَرْقة المعدة).

- متلازمةُ تململِ الساقين Restless leg syndrome (وهي تحركٌ شديدٌ للساقينِ أثناءَ النومِ).

- أمراضٌ نفسيةٌ عديدةٌ، مثلَ اضطرابِ ما بعد الصدمةِ PTSD-Post Traumatic Stress Disorder أو نوباتِ الذعرِ، أو

الذُهانِ Psychosis.****

كما قد تؤدّي بعضُ الأدويةِ إلى "المشي أثناءَ النومِ" مثلُ الأدوية المنوّمةِ Sedatives أو أدويةِ الأمراضِ النفسيةِ أو الأدويةِ

المهدّئةِ أو المُنبّهاتِ Stimulants أو مضاداتِ الهيستامين Antihistamines (وهي أدويةٌ مضادةٌ للتحسسِ).

الأعراض:

الأعراضُ متنوعةٌ ومتدرجةٌ في الشدةِ، فهي تتراوحُ من مجردِ المشيّ، إلى الركضِ، وقد تَصِلُ في بعضِ الأحيانِ إلى إعدادِ

الطعامِ.

وإذا حدثَ وشاهدتم شخصاً يمشي أثناءَ النومِ، فستظهرُ عليهِ مجموعةٌ من الأعراضِ؛ فحركتُهُ غالباً غيرُ مُتّزنةٍ، ووجههُ خالٍ

من التعابيرِ، وعيناهُ شاخصتانِ نحو الأمامِ، وقد ينطقُ بكلماتٍ لا معنى لها، وفي حالِ حاولَ أحدُهُم التحدثَ إليهِ فقد يردُّ أيضاً

بعباراتٍ خاليةٍ من أيّ معنىً أو قد لا يردُّ على الإطلاقِ.

وعلى عكسِ ما هو شائعٌ فلا خطرَ من إيقاظِهِ، إلّا أنّ ذلك صعبٌ، وعندها سيكونُ مُضطرِباً ومُشوَّشاً إلى حدٍّ ما، ولن يتذكرَ

شيئاً ممّا فعلَهُ. كما أنّه بالتأكيدِ لن يمشيَّ ويداه ممدودتانِ نحو الأمامِ كما في الأفلامِ، فهو "ماشٍ أثناءَ النومِ" وليس مصاصَ

دماءٍ! وقد يقوم المريضُ في حالاتٍ نادرةٍ بقيادةِ السيارةِ أو حتى ممارسةِ الجنسِ وقد يقومُ بعمليةِ تبولٍ لا إرادي.

العوامل المؤهبة:

نقصدُ بالعواملِ المؤهبةِ تلكَ التي تزيدُ فرصةَ الإصابةِ بالحالةِ المرضيةِ، وفي حالتِنا هذه فهي:

 العمرُ: الأطفالُ الأصغرُ سناً أكثرُ عُرضةً من غيرِهم للإصابةِ بها، ونفسرُ ذلكَ – كما ذكرنا في بدايِةِ المقالِ - بعدمِ

 العواملُ الوراثيةُ: وجودُ الحالةِ عند أحدِ الأبوين، يزيدُ من فرصةِ إصابةِ الأطفالِ، والفرصةُ أكبرُ إذا كان كلا

نُضجِ الخلايا العصبيةِ المطلقةِ للـ GABA.

الوالدين مصاباً بها، وكذلكَ الأمرُ بالنسبةِ للتوائمِ الحقيقيةِ.

هل المرضُ خطيرٌ؟

ببساطةٍ، لا، فالمرضُ يكونُ عادةً بسببِ عدمِ نُضخِ بعضِ الخلايا العصبيةِ في الدماغِ لدى الصغارِ، وبالتالي يزولُ عندما

يَكبرون، أو يكون ثانوياً (نتيجةَ مرضٍ آخرَ) كالربوِ أو الشقيقةِ ويزولُ عندَ معالجةِ المرضِ المسبّبِ، أو يكون ناتجاً عن

تعاطي بعضِ الأدويةِ فيزولُ عند التوقّفِ عن تعاطيها أو استعمالِ غيرِها (وهذا بالتأكيدِ لا يقرّرُه المريضُ ولا نصائحُ

الأصحابِ والجيرانِ، بل الطبيبُ المختصُ) أو حتى بعضُ الحالاتِ النفسيةِ كالتوتّرِ (ويزولُ بزوالِهِ)، لكن، ألا يجبُ أن

يُراجَعَ الطبيبُ أبداً؟!

في الواقعِ، هناكَ بعضُ الحالاتِ التي لا بدّ فيها من الطبيبِ، فرغمَ أنّ 15% تقريباً من الأطفالِ يعانون من درجةٍ ما من

"المشي أثناء النوم"، لكن تكرارَ هذهِ الحالةِ لديهم أكثرَ من مرةٍ أو مرتين كلَّ أسبوعٍ يستوجبُ مراجعةَ الأطباءِ، وكذلكَ الأمرُ

إذا استمرّتِ الحالةُ لديهم بعدَ البلوغِ، وبالنسبةِ للبالغين فإن ظهورَ هذه الحالةِ لأولِ مرةٍ لديهم يستوجِبُ أيضاً التوجَهَ إلى

الطبيبِ. كما تجب معاينة الأطفالِ والبالغين الذين قد يؤذونَ أنفسَهُم أو غيرَهم أثناءَ "المشي في نومهم"، أو في حالِ سببَت لهم

هذهِ الحالةُ المرضيةُ إحراجاً.

العلاج:

أدويةُ البنزوديازبين Benzodiazepines كالـ estazolam، ومضاداتُ الاكتئابِ ثلاثيةُ الحلقةِ tricyclic

antidepressants كالـ trazodone، وتجدرُ الإشارةِ هُنا إلى أنّهُ في بعضِ الحالاتِ قد تعودُ مشكلةُ "المشيّ أثناءَ النومِ"

بعدَ الانتهاءِ من تناولِ الدواءِ الموصى بِهِ لفترةٍ قصيرةٍ ثمَ تزول.

عواملُ تساعدُ في الوقايةِ والعلاجِ من الحالةِ:

الابتعادُ عن مُسبِّباتِ الحالةِ (كالتوترِ) وتجنبُ شربِ الكحولِ، تمارينُ الاسترخاءِ تفيدُ هي الأخرى في هذا الأمر، وإنْ أمكنَ،

فيُفضَّلُ أن ينامَ المريضُ في الطابقِ الأرضيّ (لكي يَتَجَنَبَ السقوطَ من النافذةِ) وأن تتمَ إزالةُ الأشياءِ التي قد يؤذي بها

المريضُ نفسَهُ.

"المشي أثناء النوم" حالةٌ ليست صعبةَ العلاجِ أو خطرةَ النتائجِ، لكنّها قد تكونُ كذلكَ في بعضِ الحالاتِ كما ذكرنا، وعندها

يكونُ الطبيبُ أفضلَ من يُعطي النصيحةَ، فالأدويةُ التي ذكرناها للعلاجِ لا يَجِبُ أن يَأخُذَها من يعاني من هذهِ الحالةِ من تلقاءِ

نفسِه، وبغضّ النظرِ عن كلِّ شيءٍ، فهي حالةٌ مميزةٌ أخذت مكانَها في الأدبِ والسينما..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحاشية:

* تتألفُ الخليةُ العصبيةُ من: جسم الخليةِ واستطالاتٍ هيوليةٍ ومحوارٍ axon توجدُ في نهايتِه انتفاخاتٌ تحوي حويصلاتٍ،

تحوي بدورِها النواقلَ العصبيةَ مثل الـ GABA يتمُ تحريرُها من هذه النهاياتِ لتؤثرَ على خليةٍ عصبيةٍ أو غير عصبيةٍ أخرى.

** الربو: يُمكنُ تعريفُه ببساطةٍ على أنّه تضيّقٌ في المجاري التنفسيةِ مما يُعيقُ التنفّسَ، ويكون السببُ تحسسياً غالباً. يتصفُ

بضيقٍ في الصدرِ وصعوبةٍ مفاجئةٍ في التنفّس مع سعال.

*** لانظمية القلب: عندما يعملُ القلبُ، فإنّه يعملُ بقوةٍ معيّنةٍ وبتواترٍ معينٍ (أيْ بعدد ضرباتٍ معينةٍ) وأيّ اضطرابٍ في هذا

التواتر يمكنُ تسميتُه بالـ "لانظمية".

**** الذُهان: مرضٌ نفسيٌ يتصفُ باضطراب الأفكارِ والمشاعرِ بحيثُ تُصبحُ منفصلةً عن الواقعِ في الحالات الشديدة.

مقالات ذات صلة:

اضطراب ما بعد الصدمة:

هنا

متلازمةُ تململِ الساقين:

هنا

الشقيقة:

هنا

الأرق:

هنا

المصادر:

هنا

هنا

هنا

هنا