التاريخ وعلم الآثار > حضارة اسلامية

الرُّبان أحمد وعبقريته في الملاحة البحرية

استمع على ساوندكلاود 🎧

رجالًا اختاروا اقتحام البحار والولوج في لُجَّته، وجازفوا في الغوص في أعماقه السحيقة، وتحملوا مزاجه المتقلِّب وأمواجه العاتية، لكن أسرار مغامراتهم البحرية دُفنت في رمال السواحل البعيدة، وطواها النسيان ....

تعلم العالم منهم فنون الملاحة وأساليب الإبحار وعلوم الفلك، وتعلموا منهم المبادئ الهندسية لبناء السفن أيضًا.

كان البحرُ بستان الملاحين العرب وملعبهم ومؤنسهم، ومدرستهم وملاذهم، طبعوا بصماتهم في ذاكرة الطين والماء، ونقشوها على المسطحات البحرية المترامية الأطراف، وهي الآن تنتظرُ من يكشف الغطاء عنها، ويفك رموزها، وما مقالنا هذا إلا محاولةٌ متواضعةٌ لقراءة السجل التاريخي لفنون الملاحة العربية، ومن أعظم الملَّاحين العرب الذين أردنا تسليط الضوء عليه وعلى أعماله "أحمد بن ماجد" فتابعوه معنا...

هو أحمد بن ماجد بن عمرو بن فضل بن دويك بن يوسف بن حسن بن حسين بن أبي معلق بن أبي الركائب السعدي المعقلي النجدي، وكُنِّي بـ {ابن ماجد} و {ابن أبي الركائب}، ولُقِّب بـ "الشهاب"، و"شهاب الحق" و"شهاب الدين"؛ دلالةً على تدينه، ولُقب بـ "رابع الثلاثة" و"المعلم أسد البحار" و"ربَّان الجهازين" و"معلم بحر الهند" دلالةً على علمه.

نادرةٌ هي المصادر التي ألمحت ببعض الإيجاز إلى أخبار ابن ماجد وآثاره، أما ما صدرَ من تراجم وأبحاث حديثة عنه فقد استمدت معظم أخباره ومسارات حياته ونشاطاته من دراسة آثاره وأراجيزه وقصائده وكتبه النثرية التي عكست بوضوحٍ خلفيته الثقافية والعلمية، التي أخبرتنا بأنَّه كان من أهم ربابنة عصره إن لم يكن الأول والأهم بينهم، والذي ورث في البداية حبَّ البحار وعلومها عن جده، ووالده صاحب الأرجوزة الحجازية في علم البحار، التي تنوف على ألف بيت، فقال في صدد ذلك: (وقد كان جدي عليه الرحمة محققًا مدققًا، ولم يقرأ لأحد فيه -المقصود بحر القلزم؛ أي الأحمر- فزاد الوالد رحمة الله عليه بالتجريب والتكرار، ففاق علمه عِلم أبيه) وأكَّد ما ورثه عن والده بقوله: (وكانت أرجوزة الوالد خيرًا من جميع ميراثه في ذلك المكان).

وإنَّ الدراسة الشاملة الفاحصة لآثار ابن ماجد تُظهر أنَّه كان على اطلاعٍ واسعٍ بعلوم البحر وتقويم البلدان والفلك والأنواء والجغرافية والحساب العربي والهندي وحساب أهل جاوة والصين، وبرع في عدة لغات استوجبتها أسفاره إلى ديار أصحابها وتعامل معهم بحكم مهنته في قيادة السفن التجارية.

إضافةً إلى تمكُّنه من اللغة العربية والنَّظم فيها، واللغة الفارسية والسنسكريتية السواحلية، ولا شك أنَّ ابن ماجد قد اطَّلع ودرس بعمقٍ علوم الفلك والهيئة وخاصةً عند اليونانيين والفرس، وكثيرًا ما كان يستعمل الأسماء الفارسية لبعض الكواكب والنجوم ويقابلها بالأسماء العربية لها.

اختلف الرواةُ في عام ولادته ويُرجَّح ظنًّا أنَّه وُلد عام ٨٣٦ هـ / ١٤٣٢ م، واختلفوا في عام وفاته التي يرجح أيضًا أنَّها كانت عام ٩٢٣ هـ / ١٥١٧ م، ويقال إنَّه بلغ من العمر قرابة ٨١ عامًا.

واختلف رأيُ الباحثين في مكان ولادته ومسقط رأسه؛ فالدكتور المرحوم عبد الهادي هاشم والمستشرق الفرنسي غبريال فران، والريس علي بن حسين الملاح التركي يقولون أنَّه وُلد في مدينة جُلفار عند غُب عمان، في حين يقول عباس العزاوي أنَّه من سكان نهر معقل في بصرة العراق، أما إبراهيم خوري فيؤكد في دراسةٍ له أنَّه من مواليد مدينة صعدة في اليمن، وهو رأيٌ راجحٌ على غيره، فإذا دققنا بنَسب ابن ماجد نَجِد أنَّه سعدي يرقى إلى سعد بن قيس بن عيلان وإلى معقل بن سنام من قبيلة أشجع الغطفانية العدنانية، وكانت اليمن والحجاز مسكن هذه القبائل، غير أنَّ أهل اليمن ورجالها قد عُرفوا من قديم تاريخهم أنَّهم أصحاب بحرٍ وربابنة مهرة يجوبون البحار بين الهند والخليج العربي والبحر الأحمر وشواطئ إِفريقيا الشرقية.

ليس ببعيدٍ أن يكون ابن ماجد من أمهرِ وأشهرِ ربابنة هذه البلاد التي أطلقت عليه ألقابًا متعددةً توحي بقدره ورسوخ علومه البحرية، كان منها أسد البحار الزخّار –المعلم الرئيس أستاذ فن البحر– ورُبَّان الجهازين؛ أي جهاز الأسطرلاب وآلة اليد أو خشبات القياس بالأصابع التي كان قد اخترعها، وأطلق عليه بحارةُ الغرب وخاصة البرتغاليين اسم كانا أو كاناكا؛ الذي يعني باللغة السنسكريتية الحاسب أو المنجم أو الخبير بالملاحة الفلكية؛ وتعني العالِم بأمر البحار أو الرياضي الفلكي، وكلها معانٍ تدل على اعترافٍ صريحٍ من البحَّارة الأجانب بمكانة ابن ماجد في العلوم البحرية ومهارته القيادية في معرفة المسالك والممرات البحرية.

الشكل (1): رسم تخيلي لابن ماجد

ولهذا فقد أقامت البرتغال نصبًا تذكاريًّا في مدينة ماليندي على الساحل الشرقي الإفريقي اعترافًا بنبوغ ابن ماجد وتفوقه، وتخليدًا لما يقال: إنَّ ابن ماجد هو الذي قاد الملّاح البرتغالي (فاسكو دا غاما) إلى مرفأ كاليكوت على الساحل الغربي للهند وذلك في ١٥ من آذار عام ١٤٩٨م؛ وكان هذا التاريخ نقطة البداية في الصدام بين الشرق والغرب في بحر العرب والمحيط الهندي.

وقد تباينت الآراء في صدد هذا الحدث التاريخي الخطير، فبعضها يؤيد وبعضها ينفي عن ابن ماجد هذا الفعل فأين هي الحقيقة؟ هل هي حقًا كامنة بين ثنايا أقوال المؤرخين الذين يُحَمِّلون المسؤولية كاملةً في هذه النكبة الفادحة لابن ماجد؟ أم تظهر واضحةً بين ثنايا الحقائق التاريخية التي يدعمها الواقع الاجتماعي والاقتصادي للوطن العربي وأورُبَّا الغربية، ومن ثم تدعمها وبقوةٍ أكبر حياة ابن ماجد وأخلاقياته وخلفيته الدينية وآثاره وأراجيزه التي سجل فيها كل تحركاته وعلومه ونشاطاته البحرية وتطلعاته ورأيه الواضح في وصول الفرنجة إلى المياه العربية والهندية، هذه الحقائق التي تنفي أيَّة مسؤولية عن كاهل ابن ماجد.

سنختتم مقالنا هنا، وسنكمل معكم في جزئنا الثاني رحلة أحمد ابن ماجد وأهم منجزاته ومؤلفاته.

المصادر والمراجع:

1. عبد العليم، أنور: الفوائد في أصول علم البحر والقواعد لابن ماجد، مجلة العرب، ج٩، ط: ١٩٧٠.

2. فران، غبريال: الربان العربي عند فاسكوداجاما والملاحة العربية في القرنين الخامس عشر، الدورية الجغرافية الفرنسية، ط: ١٩٢٢.

3. حميدة، عبد الرحمن: أعلام الجغرافيين العرب، ط: دار الفكر، ١٩٨٤.

4. خوري، إبراهيم: حياة ابن ماجد، مجلة التراث العربي عدد ٢، ط : دمشق، ١٩٨٥.

5. حميدان، زهير: أعلام الحضارة العربية الإسلامية في العلوم الأساسية والتطبيقية، مجلد ٣، منشورات وزارة الثقافة في الجمهورية العربية السورية، ط : دمشق ١٩٩٦.

6. Cliff، Nigel (2011) Holy War: How Vasco da Gama's Epic Voyages Turned the Tide in a Centuries-Old Clash of Civilizations. London: Harper

7. هنا

8. هنا