التاريخ وعلم الآثار > حقائق تاريخية

حرب الأفيون

استمع على ساوندكلاود 🎧

"أرى أن هذه الحرب شريرةٌ إلى درجة اعتبارها خطيئة وطنية من أعلى الدرجات، وهي تصيبني بهذا الأسى العميق. فهل هناك أي شيءٍ يمكن فعله لإيقاد عقول الناس إلى هذا الذنب المروع الذي نقترفه؟ أنا فعلاً لا أذكر أني قرأت في التاريخ كله عن حرب اشتملت على هذا القدر من الظلم والخسة مثلما اشتملت عليه هذه الحرب".

هكذا وصف المؤرخ البريطاني ثوماس أرنولد حرب الأفيون التي شنتها بلاده على الصين، فما هي حرب الأفيون وكيف بدأت وانتهت؟ فلنتعرف عليها في مقالنا التالي...

حرب الأفيون هو اسمٌ لحربٍ من جزئين اندلعت بين الغرب من جهة والصين من جهةٍ أخرى لأسبابٍ تجاريةٍ. حيث كانت الصين تنتهج سياسةً انعزاليةً واقصائيةً للتجارة مع الغرب. قبل عام 1830 كان هناك منفذٌ تجاريٌ واحدٌ بين الصين والغرب وهو مرفأ كانتون، وكان الصينون لا يقبلون شراء أي بضاعةٍ من الغرب حيث كانت الصين تملك اكتفاءً ذاتياً كبيراً لجميع احتياجاتها. كان التجار البريطانيون يضطرون لدفع الفضة مقابل البضائع الصينية بدل مقايضتها ببضائع أخرى. حرص البريطانيون على معالجة ما ينظر إليه على أنه خللٌ في الميزان التجاري وصممَّت على إعطاء الصينين المنتج الوحيد الذي لا تمتلكه الصين ألا وهو "الأفيون". وعلى الرغم من أن الحكومة الصينية تحظر المخدرات لأسبابٍ غير طبيةٍ إلا أن شركات التجارة البريطانية قامت بشراء الأفيون من مناطق "مالوا وبنغال" الواقعات تحت سلطة شركة الهند الشرقية البريطانية وقامت بتصدريها إلى الصين بوتيرةٍ متزايدةٍ حتى تم إغراق السوق الصينية بالمخدرات الرخيصة بحيث تدفق من الصين 34 مليون دولار من الفضة المكسيكية خلال فترة 1830-1840.

الشكل (1): رسم يعود للقرن 19 عن فقيرين صينيين يتعاطون الأفيون.

انتشر تدخين الأفيون في المجتمع الصيني فقد كان 90 بالمائة من الذكور تحت سن الأربعين في المناطق الساحلية للبلاد يمارسون عادة تدخين الأفيون، فانخفض النشاط التجاري وتوقفت الخدمة المدنية وانخفض مستوى المعيشة، حيث قدَّر طبيب بريطاني يعمل في كانتون أن 12 مليون صيني أصبحوا مدمنين على الأفيون. خلال عام 1837 مثَّل الأفيون 57 بالمائة من واردات الصين. أصبحت السفن البريطانية والأمريكية ترسو في ميناء كانتون لتضع 30 ألف تايل سنوياً ويساعدهم مسؤولو الجمارك الصينيون الفاسدون على تمريرها ليتلقفها تجارٌ صينيون يعملون على توزيعها في السوق الصينية. أصبح ميناء كانتون مرتعاً للرشوة والفساد والتهريب وعدم الولاء لسلطة الامبراطور ليصبح الميناء بؤرةً للصراع بين الصين وبريطانيا العظمى.

اندلاع الحرب الأولى:

ضاق الامبراطور الصيني ذرعاً بالحال الذي وصلت إليه الأمور وأرسل الضابط "لين زي شو" ومنحه تفويضاً لمعالجة الوضع من خلال إيقاف تهريب التجار للمخدرات إلى الصين. وصل لين إلى كانتون في آذار (مارس) 1839 ليجد الوضع المزري للتهريب وقدم تقريراً يقول أن المدخنين الصينين يستهلكون 100 مليون تايل من الأفيون وإذا ما استمر الوضع هكذا فلن تكون الصين في المستقبل قادرة مالياً على تجهيز الجيش بل ولن يكون هناك جنودٌ لمقاومة أي عدوانٍ أجنبي. اتخذ لين إجراءاتٍ سريعةٍ ضد التجار الأجانب وشركائهم الصينين فقام باعتقال 1600 شخص ومصادرة 11 ألف باوند من المخدرات. وعلى الرغم من محاولة مدير التجارة البريطانية مع الصين تشارلز أليوت التفاوض مع الضابط الصيني على حلٍ وسطٍ إلا أن الإجراءات القاسية للضابط المتحمس استمرت فقام بمصادرة 2000 صندوق من الأفيون ووضع جميع التجار تحت الإقامة الجبرية حتى اضطروا لتسليم ما قيمته 9 مليون دولار من المخدرات والتي قام بحرقها علناً. ثم أمر بطرد جميع التجار الأجانب من كانتون وأعلنها منطقةً محظورةً عليهم.

قامت القوات البريطانية بإرسال قواتٍ لإعادة السيطرة على الميناء، وفي تشرين الثاني (نوفمبر) 1839 أغرقت البحرية البريطانية عدداً من السفن الصينية قرب مدينة قوانغتشو، وبحلول كانون الثاني (يناير) 1841 كان البريطانيون يسيطرون على أرضٍ مرتفعةٍ فوق ميناء كانتون. لتسجل في وقتٍ لاحقٍ انتصاراتٍ في نينغبو وجينهاي مكتسحةً القوات الصينية بكل سهولةٍ. وفي شهر آب (أغسطس) من نفس العام شنَّت القوات البريطانية هجوماً كبيراً ضد نينغبو وتياجين وكانت تلك القوات في ذلك الوقت قد فرضت سيطرتها على تشنجيانغ وعلى أراضٍ واسعةٍ لزراعة الرز في جنوب الصين.

ثمن السلام:

تمت إقالة الضابط الصيني لين وتعيين الضابط كي شان بدلاً عنه، قام كي شان في ربيع 1841 بالتنازل عن ميناء كانتون مقابل ستة ملايين دولار فضة بدلاً من أن يدافع عن الميناء الصيني. وبحلول منتصف صيف 1842 كانت القوات البريطانية تسيطر على مصب نهر اليانغتسي وشنغهاي فاضطرت السلطات الصينية أن تبدأ بالتوقيع على سلسلةٍ من المعاهدات غير المتكافئة وذلك من أجل إيقاف الحرب عليها فقط. فقامت بتحويل جزءٍ كبيرٍ من ساحل الصين إلى السلطة الغربية. ووفقاً لمعاهدة نانكين (29 آب-أغسطس 1842) ومعاهدةٍ تكميليةٍ أخرى وُقِّعت عام 1843 تخلت الصين عن جزيرة "هونغ كونغ" لبريطانيا العظمى، وقامت بفتح خمس موانئ للتبادل التجاري بعد أن كان ميناءً واحداً، وكما ومنحت بريطانيا وضع الدولة الأكثر رعاية تجارية ودفعت لها 9 مليون دولار تعويضاً للتجار الذين دُمِّر أفيونهم على يد الضابط الصيني لين. واضطرت الصين إلى تخفيض الرسوم الجمركية إلى 5 بالمئة، وأخيراً وربما الأكثر إحباطاً هو اضطرار الصين للتخلي عن سيادتها على التجار الأجانب العاملين على أراضيها من خلال جعلهم محصنين من المحاسبة أمام القضاء الصيني، وسرعان ما حصلت كل من أمريكا وفرنسا على نفس التنازلات من الصين. ولم تكد تنتهي مفاضاوت السلام حتى أعاد التجار المتعطشين المخدرات إلى السوق الصينية وبأسعارٍ رخيصةٍ .

حرب الأفيون الثانية:

الشكل (2): رسم كرتوني فرنسي يعود لعام 1898 يُظهر الصين وهي تقسم من قبل الدول العالمية.

في ظل هذه الظروف غير المستقرة وتزايد الأطماع الأجنبية كان اشتعالُ الحربِ أمراً لا مفر منه، حيث كان المسؤولون الصينيون مترديين للغاية بتنفيذ بنود معاهدات حرب الأفيون الأولى. أصرَّت بريطانيا على تفعيل دورها "كالدولة الأكثر رعاية تجارية" في الصين وطلبت فتح جميع الموانئ الخارجية لسفنها وإضفاء طابع الشرعية على استيراد الأفيون من المستعمرات البريطانية "الهند وبورما" وإعفاء البضائع البريطانية من جميع الرسوم الجمركية والسماح بإنشاء سفارة كاملة في بكين.

ماطل المحاميين الصينين لمدة سنتين في المحاكم لكسب الوقت وإيقاف تنفيذ المطالب البريطانية، ولكن سرعان ما حدث أمرٌ أشعل الحرب، ففي 8 تشرين الأول (أكتوبر) 1856 أوقفت السلطات الصينية سفينةً تجاريةً للاشتباه في ضلوعها في عمليات تهريب وقرصنة. وقالت السلطات البريطانية أن السفينة لا تقع ضمن الولاية القضائية الصينية وعليها أن تفرج عن البحارة فوراً، الأمر الذي لم تنفذه السلطات الصينية.

من جهةٍ أخرى كانت فرنسا غاضبةً لإعدام السلطات الصينية مبشراً مسيحياً كان يعمل في الصين، فأرسلت القوات البريطانية عام 1857 قواتها إلى ميناء كانتون الصيني في عمليةٍ منسقةٍ مع السفن الحربية الأمريكية والفرنسية لتنضم روسيا في وقتٍ لاحقٍ لهم. حققت القوات الإنكليزية الفرنسية تقدماً كبيراً دون الحاجة لمساعدةٍ من دولٍ أخرى وسيطرت على ميناء كانتون في وقتٍ متأخرٍ من عام 1857 وذلك بعد مقاومةٍ باسلةٍ ولكن غير مجديةٍ من قبل المواطنين والجنود الصينين في المدينة.

ومع التقدم المستمر للقوات عقدت الصين في حزيران (يونيو) 1858 معاهدة تيانجين سمحت من خلالها بفتح إحدى عشر ميناء، لكنها ماطلت بتنفيذ الاتفاق أيضاً فتحركت القوات البريطانية مجدداً لقصف الحصون الصينينة عام 1859. استسلم الصينيون وسمحوا للأجانب الذين يحملون جوازات سفرٍ بالتجول مجاناً في الصين ومنحوا الصينيون الذين اعتنقوا المسيحية حقوقاً كاملةً.

بعد فترة من الهدوء أصرَّ الصينيون على رفض إقامة سفاراتٍ غربيةٍ في بكين فاشتعلت الحرب مجدداً وانطلقت القوات الانجليزية والفرنسية عام 1860 وسيطرت على القصر الصيفي للامبراطور في تشنغده والقصر الصيفي في بكين وسط انتشارٍ واسعٍ لأعمال النهب. ولإنهاء كل هذا قام الأمير قونغ شقيق الامبراطور شيان فنغ يوم 18 تشرين الاول (أكتوبر) 1860 بتوقيع اتفاقيةٍ لفتح المزيد من الموانئ وضمان حرية المبشرين الأجانب لنشر المسيحية في الصين، ودفع تعويضات مالية كبيرة لبريطانيا وفرنسا، وتنازل الصين عن ميناء كولون لبريطانيا والسماح بتصدير العمال الصينيين إلى الأمريكيتين.

ما بدا على أنه صراعٌ للمصالح التجارية البريطانية في الصين والقيم الكونفوشيوسية المتمثلة بالإكتفاء الذاتي وإبعاد التأثيرات الأجنبية، انتهى إلى تقسيم الصين (التنازل على هونغ كونغ إلى بريطانيا) وهزائم مذلة في البر والبحر أمام العدو المتفوق تقنياً ولوجستياً، وإضعاف للقيم الثقافية التقليدية بسبب المبشرين المسيحيين واستشراء تجارة الأفيون في المجتمع الصيني، وعجز الامبراطور عن معالجة الأمر. خرج الصينيون في تشرين الثاني (نوفمبر) 1899 في انتفاضةٍ شعبيةٍ ضد الوجود الأجنبي في الصين بما عرف بـ " ثورة الملاكمين" عملت رغم القمع على إسقاط سلالة المانشو الامبراطورية.

* تايل: وحدة وزن صينية وتعادل 0.04 كيلو غرام

المصدر:

هنا