الفيزياء والفلك > علم الفلك

ما هو العدد المُحتمل للحضارات الذكيّة المتقدمة في مجرتنا؟

استمع على ساوندكلاود 🎧

"هل نحن وحدنا في هذا الكون؟ " يُشكّل هذا السؤال واحدًا من أهم الأسئلة المطروحة في تاريخ البشرية، ولا شك أنَّ الإجابة العلمية عليه سيكونُ لها تأثيرٌ مصيريٌ في نظرة الإنسانية لطبيعةِ وجودها. ولكن على فرض أننا لسنا وحدنا...كيف يمكننا تقدير عدد الحضارات الذكيّة التي يمكننا التواصل معها في هذا الكون الفسيح؟.

قام الدكتور "فرانك دريك" أثناء عمله كفلكيٍ في المرصدِ الفلكي الراديوي في غرب فيرجينيا بوضعِ مقاربةٍ رياضيةٍ تضمّنت عدداً من الشروط، نستطيع من خلالها تخمين عدد الحضارات العاقلة ذات التقدم التقني المقارب لحضارتنا أو الأكثر تقدماً ضمن مجرتنا.

هذه المقاربة تتلخص بمعادلةٍ شهيرة وضعها في عام 1961، حيث تم اطلاق اسمه عليها فيما بعد لتُعرف بمعادلة دريك، وتتضمّن تلك المعادلة عِدّة عوامل محددة، إعتَقد أنها تلعب دوراً في تطوّر تلك الحضارات الفضائية، وعلى الرغمِ من عدم وجود حلٍ واضحٍ لتلك المعادلة إلّا أنها تُعتبر أداة مقبولة وتُستعمل من قبل المجتمع العلمي لدراسة العوامل التي تضمنتها. وهي على الشكل التالي:

N = R *. fp . ne . fl . fi . fc . L

حدود هذه المعادلة قد تبدو معقّدة بعض الشيء، لكن دعونا نُلقي نظرة على العوامل السبعة الموجودة فيها :

N هو ناتج المعادلة ويُمثل عدد الحضارات العاقلة المتواجدة في مجرتنا درب التبانة والتي من الممكن التواصل معها من خلال طيف الإشعة الكهرومغناطيسية.

*R هو معدّل تشكّل النجوم في مجراتنا والتي تكون بنفس الوقت قادرة على تهيئة ظروف صالحة لتطور الحضارات العاقلة (أي نجوم مشابهة لشمسنا).

fp هي نسبة النجوم السابقة التي تمتلك أنظمة كوكبية (كواكب تدور حولها).

ne هي عدد الكواكب التي قد تتوافر عليها بيئات داعمة للحياة في كل نظام كوكبي.

fl نسبة الكواكب الداعمة للحياة التي قد تكون نشأت حياة عليها فعليًا في مرحلةٍ ما (حيث يمكن للحياة أن تنشأ وتصمد).

fi نسبة الكواكب التي تطوّرت فيها تلك الحياة إلى حضارةٍ ذكيّةٍ عاقلة.

fc نسبة الحضارات القادرة على إرسال موجات في الفضاء قابلة للرصد من قبلنا.

L طول المدة الزمنية منذ أن قامت تلك الحضارات بإرسال موجاتها عبر الفضاء (بالنسبة لكوكب الأرض هي قرن من الزمن، 100 سنة)

نلاحظ أن المعادلة إتبعت المسار التالي: إنطلقت من أنواع النجوم القادرة على توفير بيئة ملائمة على الكواكب التي تتبع لها إن وُجدت، إلى احتمالية أو نسبة وجود مثل تلك الكواكب ضمن مدارات النجوم السابقة، ومنه إلى احتمالية تشكّل حياة على تلك الكواكب، إلى حسابِ فُرص أن تكون هذه الحياة ذكيّة ( ليست مجرد حياة ميكروبية أو حيوانية )، ومنه إلى حساب فُرص أن تكون هذه الحياة الذكيّة قابلة للرصدِ من خلال تلسكوباتنا، وذلك طبعًا مرتبطًا بالمدةِ الزمنية التي نحتاجها لرصدِ تلك الحيوات الخارجية. جداء كل تلك العوامل السابقة مع بعضها سوف يعطينا عدد الحضارات الذكية التي تمتلك وسائل تواصل ضمن مجرة درب التبانة وفي أي وقت من الأوقات.

ماذا نعرف عن حدود المعادلة:

قد تبدو معادلة "دريك" بسيطةٌ للغاية من الوهلة الاولى .. فهي مجرد حاصل ضرب عِدة أرقام! لكن حساب N ليس هو الجزء الأصعب هنا، وإنما إيجاد أرقام الحدود التي تحتاجها لحساب N .

ضمن حدود معرفتنا التكنولوجية الحالية، فإنه تتوافر لدينا معلومات دقيقة بشكل مقبول لأوّل ثلاثة حدود في المعادلة وذلك من خلال المعطيات التي توفّرها لنا المقاريب (التلسكوبات) الحديثة. حيث أن الفلكيون قد رصدوا العديد من الأنظمة النجمية وتوصّلوا للعديدِ من الأرقام المعقولة، على سبيل المثال: لنفترض أنَّ الفلكيين ينظرون الى حوالي مئة ألف نجم (100،000) ووجدوا تقريبًا ان حوالي أربعين الفاً (40،000) منها لديها كواكب، وبتعميمِ هذه الأرقام على المجرّة بأكملها تكون عندها قيمة الحد fp هي 0.4 (40% ) .

ولكن كيف يمكننا رصد الكواكب في أنظمتها النجمية وهي عديمة السطوع؟ يتم ذلك من خلال مراقبة مستوى سطوع النجم باستمرار والإنتظار ليمرّ الكوكب أمامهُ مما يُسبب نقصاناً طفيفاً في شدّةِ سطوع النجم، كما يمكن تحرّي الكواكب من خلال رصدِ أدلةِ جاذبيتهِ حيث تتسبب بحصول تغييرات طفيفة في مدارات النجوم .

في يومنا الحالي،الفلكيون وبالإعتماد على طُرق رصد الكواكب المبيّنة أعلاه رصدوا مئات الكواكب الجديدة، وبالتالي بحساب عدد الأنظمة النجمية التي تحوي كواكب نسبةً إلى التي لا تحوي، تَبيّن أن الرقم fp هو تقريبًا 0.4، إلّا أن العالم "دريك" وقبل 50 عامًا وبدون الاعتماد على التلسكوبات الحسّاسة قام بتقدير قيمة fp بحوالي 0.5 !

أمّا بالنسبة لـ *R (مُعدّل تشكّل النجوم) فقد تبيّن أن الرقم الحقيقي أقل بكثيرٍ مما قام بتقديره "دريك" (10 نجوم في السنة ) بناءً على المعطيات التي توفرت في عام 1960، فالأرقام الحالية تُشير الى 1 نجم في السنة . وذلك من خلال رصد العديد من السُدّم النجمية (حيث تولد النجوم)، وبجمع الاحصائيات وفقًا للتعداد الإجمالي منها، لتحديد عمر النجوم واستنتاج مقدار تشكّلها عند أي زمنٍ مُعطى.

وفيما يتعلق بالحد ne (عدد الكواكب الداعمة للحياة في كلِ نظامٍ نجمي)، فقد قدّره "دريك" بـ العدد 2 وذلك اعتمادًا على نظامنا الشمسي، حيث أن الأرض هي بطبيعة الحال كوكبٌ داعمٌ للحياةِ ولدينا أيضًا المريخ واقمار مثل يوروبا وتيتان لا زالت جميعها تُمثّل أماكن مُحتملة لوجود حياة إن كان الآن إو في الماضي.

وحتى نَعتبر كوكباً ما قابلاً لنشوء حياة عليه. يجب أن تتوافر فيه الشروط التالية:

أن يكون مداره حول نجمهِ ليس بعيداً أو قريباً جداً، لديه غلافٌ جويّ، تتوافر عليه عناصر الحياة المستدامة الكيميائية (كالجزيئات العضوية والمياه مثلاً) .

حالياً، نحن لدينا مقدرة أفضل على رصدِ الكواكب الحارّة والكبيرة ( كالتي تشبه المشتري) أكثر منها برصد الكواكب التي تشبه الأرض، لذا لا يوجد استنتاجات جديدة لهذا الرقم. ما زال يُقدّر ما بين 0.5 و 2 ، ولكن يمكن تحديد هذا الرقم بشكلٍ أكثرِ دقّة عن طريق مهمات فضائية قادمة تُخصَص لإستكشاف الكواكب الخارجية.

الحد fl (نسبة الكواكب الحاضنة للحياة) فهو رقم لا يمكننا حاليًا وضمن حدود معرفتنا أن نكتشفه، على إعتبار أنه لا يمكننا السفر لتلك الكواكب الخارجية. كما أنّه ومن خلال النظر إلى الطبيعة الكيميائية لتلك الكواكب نستطيع أن نقول إذا ما كانت صالحة لوجود حياة، لكننا بنفس الوقت لا نستطيع أن نجزم بوجود الحياة فعلاً عليها .

لكننا قد نكون قادرين على القيام بالمهمة السابقة من الأرض، حيث يحاول علماء الاحياء الفلكية تحديد إذا ما كانت الحياة ستنشأ على تلك الكواكب لو طبّقنا عليها ظروف نشوء الحياة (ظروف مماثلة لتلك التي توفرت خلال المراحل المبكرة من تاريخ الأرض)، وتحديد إذا ما كان نشوء الحياة سيكون حتميًا وفقًا للظروفِ السابقة أم هو حالة شاذة؟ بالنسبة لـ "دريك" فقد اعتقد أنها حتميّة وجعل هذا الرقم مساويًا لـ 1!

في حين أن العلماء الحاليين يتحفّظون على هذا الافتراض نظرًا لعدمِ قبولهم لمبدأ التخمين.

بعد أن نكون قد حددنا عدد الكواكب التي تحوي حياة فعلاً، كم من هذه الكواكب استطاعات أن تُطوّر الحياة عليها إلى حياة ذكية (fi)؟

يقول دريك بأن العدد هو 0.01 أي من بين كل 100 كوكب يحوي على حياة، هناك كوكب منها تتصف الحياة عليه بالذكيّة. نحن طبعاً لا يمكننا أن نُقدّم تخميناً أكثر دقة في وقتنا الحاضر، لكنَّ البعض قال بأن الحد (fi) يجب أن يكون صغيراً جداً، فمن بين مليارات الأنواع الحيّة على كوكبنا نحن النوع الوحيد الذكي. البعض الآخر قال بأن كل تلك الأنواع سوف تقود حتمياً لوجودنا، وبأن ذلك سوف يُعطي فرصة لتطور الحياة لكي تصبح ذكيّة. ما يعني وبحسب قولهم بأن (fi) قد يساوي الـ 1. لكن يبقى ما سبق مجرد تخمين.

بعد أن خلصنا من بحث وجود حياة ذكيّة. ما هي فرصة أن تَستعمل إحداها أو بعضها للأشعة الكهرومغناطيسية في الاتصالات، وهو ما يمثّل الحد (fc)؟ أجاب "دريك"على هذا السؤال مُفترضًا أن تكون fc مساوية لـ 0.01 (1%) ، عملياً فإنه لا يمكننا معرفة هذا الرقم حتى نرصد مئات الحضارات الفضائيّة! ولكن عند حصول ذلك فان معادلة "دريك" لن تكون محط اهتمامنا ابداً!

الشيء ذاته ينطبق على الحد السابع L ( طول المدّة الزمنية التي بدأت فيها تلك الحضارات بالتواصل عن طريق الأشعّة )، المثال الوحيد المتوافر لدينا هو نحن ( حضارة البشر ) ! ولا نستطيع معرفة متى ستنتهي مقدرتنا على استخدام وسائلنا التكنولوجية في الاتصالات وبث الاشعة. ممكن لحربٍ عالمية أن تُنهينا، أو سوبرنوفا قريبة، أو مُذنّب، أو حتى يُمكن لبعضٍ من تأثيرات الاحتباس الحراري المفاجئة أن تُنهي كلَّ شيءٍ بسهولة!

بالمقابل قد تستمر حضارتنا لملايين السنين، لكن المشكلة هي بأننا لن نعرف ذلك حتى نصل فعلاً لذلك الوقت.

وبالعودة للحد (L) فإن "دريك" إفترض هنا أيضاً بأنه يساوي 10،000 سنة، لكن مرةً أخرى هو مجرد تخمين يشوبه الأمل.

يجدر الذكر إلى أن L هو العامل الأكثر مقدرة على تغيير ناتج المعادلة، حيث أن معظم العوامل الأخرى هي ما بين الصفر والواحد، وهي غالباً تُقلل من الناتج N، في حين أن الحد (L ) من الممكن أن يكون أي رقم، بالتالي إن فترة حياة الحضارات الذكيّة القادرة على إستخدام تقنيات الإتصال هي العامل الأهم في تحديدِ فرصتنا في العثور عليها.

بأخذ الأرقام الحالية للحدود ( أو متوسط كل تخمين ) وبتطبيقها لحساب المعادلة، نجد:

(N=(1)(0.4)(1)(0.5)(0.5)(0.5)(10،000

نحصل على قيمة لـ N مساويةً لـ500 حضارة ذكيّة متطوّرة في مجرتنا درب التبانة !

بالرغم من أن معادلة دريك لا تعطي حلاً وحيدًا إلّا أنها تُشكل كما ذكرنا سابقاً أداةً مقبولة في المجتمع العلمي، كما أنها تُشكّل أداة فعالة وبسيطة لتحفيز الفضول الفكري والمعرفي لدى البشر، ولمساعدتنا في فهم كيف أن الحياة هي نتاج تطوري طبيعي للكون. ولجعلنا ندرك كم أننا جزءٌ أصيلٌ وصغير في هذا الكون الفسيح.

المصادر:

هنا

هنا