العمارة والتشييد > التصميم العمراني وتخطيط المدن

دمشق، الهوية الضائعة. (الجزء الأول)

استمع على ساوندكلاود 🎧

كيف نقوم بتعريف شيء ما؟ كيف نعرّف أنفسنا؟ هل يمكننا اختصار ماهيتنا بكلمة أو جملة أو بطاقة هوية؟ لا شك أن الهوية قضية جدليّة فرضت نفسها بقوة في الفلسفة والأدب والأنثروبولوجيا وعلم الإجتماع، لكن هل سبق وخطر لك أن المدينة تمتلك أيضاً هوية تميزها وليست مجرد هيكلٍ فيزيائي من الأبنية والفراغات.

إن فقدان الهوية العمرانية يعد من أهم القضايا التي تواجه المخططين العمرانيين في العالم، حيث أن العديد من مدن العالم بدأت بفقدان خصائصها وجوهرها وتميزها وتفردها وبالأخص تلك التي تمتلك أهمية تراثية وثقافية وتاريخية. مدينة دمشق تعدّ واحدة منها، فقد بدأت بفقدان هويتها العمرانية منذ زمن طويل.

تشكلت المدن عبر الزمن كتعبير عن حالات وظروف مادية وروحية وإجتماعية وسياسية، فهي نتاج إنساني، لذلك هي بحالة دائمة من التغير بتغير المجتمعات الإنسانية وظروفها. إن اختلاف هذه الظروف من مجتمع الى آخر، انعكس على البنية الفيزيائية والاجتماعية للمدينة، بشكل جعل كل مدينة عبارة عن ظاهرة متفردة غير قابلة للتكرار وهذا عامل أساسي في تكوين هوية المدينة.

هذه التغيرات تتم من فترة زمنية إلى أخرى ويمكن التعبير عنها بأنها طبقات زمنية تتراكم فوق بعضها البعض وتتشكل بصورة مادية في المدينة، وبالتالي فإنه من الضروري أن تبنى كل طبقة على أساس الطبقة السابقة لتغنيها وتضيف إليها وليس لتهدمها أو لتمحيها. هذا ما يمكن إحساسه في المدن التاريخية القديمة، حيث أن جمال و روعة هذه المدن يكمن في قدرتها على تذكيرنا بماضيها بكل فتراته الزمنية وكيفية تشكلها عبر الزمن. عندما تفقد المدينة القدرة على إظهار ماضيها في بنيتها الحالية، يمكننا القول أنها فقدت جزءاً مهماً من روحها وهويتها. يقول لويس ممفورد " المدينة هي واقع تراكمي في المكان والزمن".

للأسف فإن العديد من المدن العربية بدأت تفقد مخزونها التاريخي، كما تلاشت أجزاءٌ كبيرةٌ من مراكزها القديمة روحياً ومادياً. فأصبحت الخصائص المميزة لهذه المدن غائبةً وغامضةً بسبب الممارسات المغلوطة في حفظ المعالم الأثرية القديمة، حيث وُجّهَ الاهتمام لشكلها الفيزيائي فقط مع تجاهل المسار الزمني الذي تعاقب على هذه المدن. يقول أوكتاي " يتم توجيه التصميم نحو خلق معالم تراثية بشكل صوري تجريدي فقط بدلاً من تعزيز الإحساس بقيمتها التراثية".

بما أن مفهوم هوية المدينة معقدٌ جداً، حاول العديد من الباحثين في هذا المجال وضع تعريفٍ لهذا المفهوم. البعض اعتمد في تعريفه على البنية المادية للمدينة وآخرون أشركوا العوامل الاجتماعية. أَعطى البعض للذاكرة التاريخية والجوانب العاطفية مثل فابيان وكامينوف وبروهانسكي الاهتمام الأكبر. أما تشارلز كورريرا فقد اعتبر البيئة والعوامل المناخية أهم الأسس المُشكّلة لهوية المدينة.

إن جميع العوامل المذكورة مهمةٌ جداً في تحديد هوية المدينة ولكنها غير كافية، إذ يجب علينا التوقف عن التفكير بالمدينة وكأنّها مجسم مادي ثلاثي الأبعاد، والبدء بتوسيع آفاقنا لتضمين البعد الرابع ألا وهو الزمن. فهوية المدينة هي عملية مستمرة بكل لحظة ولا تتوقف إلا باندثار المدينة مما يجعل عامل الزمن واحداً من أهم العوامل في تشكيل الهوية.

ما الفرق بين هوية المدينة وصورتها ورمزها؟

العديد من الناس وحتى الباحثين في مجال التخطيط العمراني يخلطون بين هذه المفاهيم. في الحقيقة إن هذه المفاهيم مرتبطةُ ارتباطاً وثيقاً ببعضها البعض لكنها تختلف في عدد من التفاصيل.

صورة المدينة:

صورة المدينة ليست عنصراً فيزيائياً مرئياً فحسب بل هي عبارة عن عمل عناصرٍ متشابكةٍ مشكلةٍ للمشهد. لتبسيط المفهوم سنأخذ من التقاط صورة عادية مثالاً: عند التقاط أية صورة نحن بحاجة لمشهد وكاميرا ومعالجة للصورة. يمكننا القول بأن المشهد هو البيئة العمرانية وحياة البشر الإجتماعية ضمنها والكاميرا هي الشخص الذي يعيش في هذه المدينة، فيقوم بالتقاط الصورة لإظهار صورٍ عديدةٍ عن حياته اليومية، أما عملية المعالجة فهي التحليل الذهني لهذا المشهد. بالمحصلة، صورة المدينة هي شيء يختلف من إنسان إلى آخر، أما هوية المدينة فهي التعبير الحقيقي عن ماهيتها وشخصيتها ومضمونها الثابت الذي لا يمكن أن تختلف من وجهة نظر إلى آخرى.

رمز المدينة:

عندما نقول بأن هوية المدينة هي حقيقة مكوناتها وخصائصها، يميل الناس إلى تبسيط هذا المفهوم وتعريف المدن بعنصرٍ أو معلمٍ تاريخي معين، بل حتى بلديات هذه المدن تقوم بتسويقها عبر شعارات مصممة على هذا الأساس. فمثلاً يتم التعبير عن لندن بساعة بيغ بن وباريس ببرج إيفل وسيدني بدار الأوبرا ودمشق بالجامع الأموي. هذه الاستعارات لا يمكن أن تكون صحيحةً بأي حال من الأحوال، فهي عناصرٌ ثابتةٌ لا تعبّر عن هوية المدينة إنما تشكل جزءاً بسيطاً منها. يمكن لأي شخص أن يشتري تذكاراً على شكل الجامع الأموي وإهداءه لشخص ما ولكن من المستحيل أن تنقل هوية مدينة عبر عنصر ما. فهوية المدينة ليست صورةً مرئيةً بل هي روحُ المدينة ولها عناصر ملموسة وأخرى غير ملموسة لا يمكن الإحساس بها إلا بالمامك بالمدينة وتاريخها ككل.

حاولنا أن نطرح مفهوم هوية المدينة بشكل مبسط وأن نميز بين هذا المفهوم وبعض المفاهيم الأخرى. الآن بناءً على ما تعرفتم عليه في هذا المقال، ما هو اعتقادكم بخصوص مدينة دمشق؟ كيف ترون هويتها؟ و هل تظنون بأنها بعيدة عن فقدانها؟ انتظرونا في الجزء الثاني من هذا البحث.

المصدر:

هنا