الفيزياء والفلك > فيزياء

مسألة غير قابلة للحل.

استمع على ساوندكلاود 🎧

هناك عدد كبير من المسائلِ العلمية التي تحتاج إلى إيجاد حلول وتفسيرات لها، خصوصاً عندما نتحدث عن فيزياء الكم وفيزياء الجسيمات الأولية. ولكن يبدو وفقاً لمجموعة من الباحثين أن واحدة من هذه المسائل ستبقى بلا حلٍ إلى الأبد، ففي سابقة هي الأولى من نوعها استطاع باحثون تقديم إثبات رياضي على عدم وجود حل لواحدة من المسائل الأكثر أهمية في الفيزياء! وتكمن أهمية هذه النتائج في أنها بيّنت أنّ وجود توصيف رياضي كامل وتام للخصائص المجهرية (Microscopic Properties) للمواد يعتبر أمر غير كافي لتوقع الخصائص الجاهرية (Macroscopic Properties).

يُعتبر عالم الرياضيات الشهير كورت جودل (Kurt Gödel) أول من قدم برهان على وجود بعض المسائل الرياضية التي لا يمكن البت فيها، أي لا يمكن إثبات إذا ما كانت هذه المسائل صحيحة أم خاطئة وذلك من خلال نظريته المعروفة بنظرية عدم الاكتمال. وقد شكّل هذا الأمر صدمة هزّت المجتمع العلمي في ذلك الوقت، ففي تلك الفترة كان علماء الرياضيات يحاولون جاهدين صياغة مجموعة من البديهيات التي يمكن من خلالها اثبات جميع الحقائق الرياضية. إلا أن نظرية عدم الاكتمال التي قدمها جودل عام 1931 كانت بمثابة النهاية لتلك الجهود. غير أن هذه النظرية كانت نظرية رياضية بحتة لا يوجد بينها وبين الواقع صلة.

في عام 1936 استطاع عالم الرياضيات آلان تورينج (Alan Turing ) أن يربط النتائج النظرية التي توصّل لها جودل بعلم الحاسوب. وقد استطاع تورينج القيام بذلك من خلال إعادة صياغة نتائج جودل باستخدام خوارزميات يتم تنفيذها بواسطة جهاز حاسوب مثالي يقوم بقراءة أو كتابة بت واحد كل وحدة زمنية محددة. والنتيجة التي توصل إليها تورينج هي أن هناك بعض الخوارزميات التي لا يمكن البت فيها، بمعنى أنه يستحيل علينا معرفة ما إذا كان هذا الحاسوب المثالي سيقوم بالحسابات في فترة زمنية محددة أو أنه سيستمر بإجراء الحسابات إلى الأبد دون الوصول إلى نتيجة محددة. إضافة إلى ذلك، فإنه لا يوجد طريقة معيّنة يمكن من خلالها معرفة ما إذا كانت خوارزمية معينة تندرج تحت هذا النوع من الخوارزميات غير القابلة للحل. ومنذ تسعينيات القرن الماضي بدأ علماء الفيزياء النظرية بمحاولة إسقاط نتائج تورينج على نماذج مثالية تصف بعض الظواهر الفيزيائية، غير أن النتائج التي حصلوا عليها لم تكن مرتبطة بشكل كبير بالمسائل التي يهتم بها علماء الفيزياء.

لكن البحث الجديد الذي نشر في مجلة نيتشر (Nature) مطلع كانون الاول الماضي بالتعاون بين باحثون من كل من جامعة UCL البريطانية وجامعة كومبلوتنس في مدريد وجامعة ميونخ التقنية، يعتبر البحث الأول الذي يعطي نتائج تثبت أنه لا يمكن البت في مسألة فيزيائية لطالما حاول العلماء إيجاد حل لها. وذلك في إسقاط مباشر لنتائج جودل وتورينج على العالم الفيزيائي المادي.

الموضوع الذي تناوله البحث هو حساب فجوات الطاقة "Spectral gaps": وهي الطاقة اللازمة لانتقال الإلكترون من المستوى الأرضي (أدنى مستوى يمكن للإلكترون التواجد فيه) إلى مستوى طاقة أعلى. مقدار هذه الفجوات يعتبر مهم جداً في تحديد خصائص المواد الأساسية. ففي بعض المواد على سبيل المثال تقليص هذه الفجوات بشكل كبير، أو بمعنى آخر إنسداد فجوات الطاقة، يؤدي إلى تغيير حالة المادة إلى حالة الموصلية الفائقة، وهي الحالة التي تكون مقاومة المادة فيها للتيار الكهربائي مساوية للصفر.

ومن أشهر الطرق التي يستخدمها الباحثون لمعرفة ما إذا كانت مادة ما، تُظهر حالة الموصلية الفائقة عند درجة حرارة الغرفة أو غير ذلك من الخصائص الأخرى للمواد، طريقة الاستقراء الرياضية من التوصيف المجهري للمواد إلى التوصيف العياني، أي يقوم الباحثون بدراسة المادة على المستوى الذري لمعرفة خصائصها، ومن ثم يتم تعميم ذلك لمعرفة الخصائص في حال كانت المادة عيانية وليست ذرية.

وفي البحث الذي نحن بصدده، قام الباحثون ببناء نموذج نظري يهدف لإيجاد مقدار فجوة الطاقة لمادة معينة. وعندما تم تطبيق هذا النموذج لدراسة تركيب يتكون من عدد محدود من ذرات هذه المادة تمكن الباحثون من الحصول على إجابة محددة بخصوص مقدار فجوة الطاقة. ولكن عندما قاموا بتعميم الأمر ليشمل عدد غير محدود من الذرات كانت النتيجة هي أنه يستحيل معرفة ما إذا كانت الحسابات ستنتهي وسنحصل على إجابة محددة أم أنها ستستمر إلى الأبد دون إعطاء إجابة محددة في النهاية. وبهذا فإن مسألة ما إذا كان هناك فجوة طاقة تبقى غير قابلة للتحديد.

ومن المعلوم أن المواد في عالمنا تحتوي على عدد محدد من الذرات، وبالتالي للوهلة الأولى يمكن تحديد خصائصها وذلك إما تجريبيا أو من خلال المحاكاة الحاسوبية. لكن مشكلة عدم التحديد في حالة التعميم على عدد لا نهائي من الذرات تعني أنه حتى ولو كانت فجوة الطاقة معلومة لتركيب من المادة فيه عدد محدود من الذرات، فإن أي زيادة في عدد الذرات حتى لو بمقدار ذرة واحدة قد يؤدي إلى تغيير الوضع من وجود فجوة الطاقة إلى عدم وجودها أو العكس. ولأنه ثبت أن من المستحيل توقع متى ستحدث الزيادة في عدد الذرات أو إذا ما كان ذلك سيحدث فإنه من الصعب استخلاص نتائج عامة سواءً تجريبياً أو عن طريق المحاكاة الحاسوبية.

وفي تعليقه على البحث قال كيوبت (Cubitt ) وهو أحد المشاركين في البحث أن الفريق بصدد دراسة مسألة مشابهة في فيزياء الجسيمات الأولية وهي مسألة Yang–Mills mass-gap. تعتبر هذه المسألة أحد أشهر المسائل المتعلقة بفجوات الطاقة، وهي كذلك واحدة من أشهر المسائل التي لم يستطع أحد إيجاد حل لها. وقد عرض معهد كلاي للرياضيات جائزة مقدارها مليون دولار لأي شخص يستطيع حل هذه المسألة.

ترتبط المسألة بشكل أساسي حول ظاهرة وجود كتلة للجسيمات التي تنقل القوة النووية القوية والضعيفة، وهذا هو السبب في كون هاتين القوتين تَظهران ضمن مدى دقيق لا يتجاوز حدود النوى. على عكس قوة الجاذبية والقوة المغناطيسية التي تمتد لحدود طويلة. كما أن المسألة مرتبطة بالسبب وراء تواجد جسيمات الكوارك في تركيبات محددة كالبروتونات والنيترونات، وعدم تواجدها بشكل منفرد. والمشكلة هنا هي أنه لا يوجد نظرية رياضية متماسكة تفسر السبب وراء هذه الظواهر. ويأمل كيوبت أن تكون أفكار فريقه كفيلة بإثبات أن مسألة Yang–Mills mass-gap غير قابلة للحل كذلك. لكن في الوقت الحالي ليس من الواضح كيفية القيام بذلك الإثبات.

المصدر: هنا

هنا