الطب > الجراحة

هل يمكن للمسنّين تحمّلُ العملياتِ الجراحية؟؟

استمع على ساوندكلاود 🎧

أدى تحسنُ الرعايةِ الصحية في العقودِ الماضيةِ إلى زيادةِ أعمار السكان في الكثير من دول العالم. ومع هذه الزيادة، أصبحت نسبةٌ أكبرُ من المسنّين بحاجةٍ لإجراء عملية جراحية لسبب أو لآخر. فهل يمكن للمسنّين تحمّلُ العملياتِ الجراحية، وما هي المخاطرُ التي قد يتعرضون لها، وكيف يمكن التعامل معها؟

المسنّون والأمراضُ العامة

رغم محاولة الكثيرِ من المسنين الحياةَ بشكل طبيعيٍّ والمحافظةَ على حياتهِم النشيطةِ المستقلةِ وممارسةِ الرياضةِ في بعض الأحيانِ، إلا أنّ الإنسانَ المسنَّ يبقى مُعرَّضاً أكثر من غيره للإصابةِ بالأمراضِ المزمنةِ المختلفةِ التي تتراكم تأثيراتُها مع مرورِ السنين، فضلاً عن تعرضِه أكثرَ من غيرِه للسقوطِ والإصاباتِ والمشاكلِ التي قد تنجم عنها.

وإن ما يميز هذه المجموعةَ من المرضى هو كثرةُ الأمراضِ المرافقةِ comorbidities، ففي كثيرٍ من الأحيان يعاني الشخصُ المسنُّ من أكثرِ من مرضٍ مزمنٍ في الوقتِ نفسه، وتشير الدراساتُ إلى أن 20% من الأشخاص الذي تفوق أعمارُهم 70 سنةً يعانون من خمسةِ أمراضٍ على الأقلِّ في الوقت نفسه.

ويشير أحدُ التقاريرِ الحديثةِ من ألمانيا إلى أنّ نسبةَ الأمراضِ المزمنة ستكون في عام 2030 أعلى بكثيرٍ مما هي عليه الآن مع تزايدِ أعمارِ السكان؛ فعلى سبيل المثال ستكون نسبةُ المرضى المصابين بالداء السكريِّ أعلى مما هي عليه اليومَ بحوالي 22%، وستكون نسبةُ الإصابةِ باحتشاءِ العضلةِ القلبية أعلى بمقدار 42%، أما نسبةُ العتاهةِ أو ألزهايمر فستكون أعلى بمقدار 51%. وهذا يعني أن على الأطباء الاستعدادَ للتعاملِ مع عددٍ أكبرَ من المسنين الذين يعانون من أمراضٍ مزمنة ويحتاجون إلى عملياتٍ جراحية. ولذلك فإن هذه المجموعةَ من المرضى تحتاج إلى حذرٍ شديدٍ عند الحاجة لإجراء أية عمليةٍ جراحية.

القرار الجراحي

قد يشكّل القرارُ الجراحيُّ الخطوةَ الأصعبَ في التعامل مع هؤلاءِ المرضى، فهل يحتاج المريضُ إلى إجراءِ العمليةِ حقاً؟ قد تكون الإجابةُ على هذا السؤال سهلةً في الكثير من الحالات، كما في الحالاتِ الجراحيةِ الطارئةِ أو المهدّدةِ للحياة أو في حالات الحوادثِ مثلاً، ولكنّ الإجابةَ قد تكون أصعبَ بكثيرٍ في بعض الحالاتِ المزمنة.

فعلى سبيل المثال، إذا جاءنا مريضٌ شابٌّ يبلغ من العمر ثلاثين عاماً ويعاني من انزلاقٍ في الفقرات يؤدي إلى الألم لدى القيامِ بأدنى حركةٍ، فقد لا يكون هناك أيُّ شكٍ بقرار إجراءِ العملية، ولكن العمليةَ نفسَها قد لا تكون ضروريةً في مريضة تبلغ من العمر ثمانين عاماً ولا تخرج من المنزل إلا نادراً.

وعند اتّخاذِ القرارِ الجراحيِّ يتوجب طرحُ سؤالٍ آخرَ لا يقل أهميةً عن ضرورة هذه العمليةِ الجراحية: هل سيستفيد المريضُ من العملية؟ هل ستحَسّن العمليةُ من نوعية حياتِه؟ هل سيعيش بشكل أفضلَ؟ هل سيستطيع العنايةَ بنفسه كما كان عليه قبل العمليةِ؟ وهل يُحتمَل أن تؤدّيَ مضاعفاتُ العمليةِ إلى تدهور شديد في نوعية حياةِ المريض؟ كلُّ هذه الأسئلةِ يتوجب العثورُ على إجاباتٍ لها قبل إجراء الجراحةِ لدى المسنين.

ما هو العمرُ المناسبُ لإجراء عمليةٍ جراحية؟

في الواقع لا يمكن لأي شخصٍ الإجابةُ على هذا السؤال! فتحمّلُ العملياتِ الجراحيةِ لا يرتبط بالعمر الزمنيِّ للمريض وإنما بعمره البيولوجي، والذي يتم تحديدُه من خلال عدةِ عوامل: فعاليةِ المريض في حياته اليوميةِ، والجهدِ الذي يمكنه القيامُ به، وسلامةِ الأعضاءِ الحياتية لديه (وخصوصاً القلب والرئتين). فعلى سبيل المثال قد يبلغ المريضُ من العمر 50 عاماً فقط ويعاني رغم ذلك من الداء السكريِّ ونقص الترويةِ القلبيةِ وارتفاعِ شحوم الدم، ومريضٌ آخر يبلغ من العمر 80 عاماً ولا يعاني من أيٍّ من هذه الأمراضِ، وبالتالي تكون حالتُه الجسديةُ العامةُ ممتازةً، واستعدادُه للجراحة أفضلَ من المريض الأول.

والنقطة التي ينبغي التأكيدُ عليها هنا هي أنّ التقدمَ بالسنّ يجب ألا يكونَ سبباً لإلغاء عمليةٍ جراحية ضروريةٍ، سواء كان المريضُ يعاني من السرطان أو من أيِّ مرضٍ آخر. فإذا كانت العمليةُ مفيدةً للمريض بشكلٍ أو بآخرَ توجبَ إجراؤها ولو كان المريضُ مسناً، ويجب ألا تشكل إصابةُ المريضِ بالسرطان مبرّراً للاستغناء عن فكرة الجراحةِ لمجرّد أنّه مسن.

وحتى في أكثر العملياتِ تعقيداً فإنّ المريضَ يمكن أن يبليَ بلاءً حسناً في حال تقديمِ العنايةِ اللازمة، ففي دراسةٍ من مستشفى غروسهادرن في ألمانيا تبيّن أنّ معدلاتِ الوفاةِ كانت متشابهةً بين الشبابِ والمسنّين الذين خضعوا لعملية استئصالِ البنكرياس والاثنَي عشر، وهي عمليةٌ واسعةٌ تُجرى لعلاج سرطان رأسِ البنكرياس وتُعتبر من أكبر العملياتِ في مجال جراحةِ البطن، ورغم أن معدّلَ المضاعفاتِ المشاهَدَةِ بعد الجراحة قد كان أعلى لدى المسنين، إلا أنه لم تشاهَد اختلافاتٌ في معدلاتِ الوفَيَات.

التعامل مع المريضِ المسنِّ قبل الجراحة

بعد اتّخاذِ القرارِ الجراحيِّ فإن الخطوةَ التاليةَ هي اختيارُ الطريقةِ المناسبة لإجراء العمليةِ الجراحية وإجراءِ التحضيراتِ اللازمة، وقد أصبحت الخياراتُ المتوفرةُ بين أيدينا أوسعَ بكثير مما كانت عليه في الماضي، والكثيرُ من العمليات التي كانت تُعتبر في الماضي خطرةً على المسنّين أصبح من الممكن إجراؤها اليومَ بالمناظير أو بتقنيات أخرى، مما يجعل مضاعفاتِها أقلَّ بكثير.

ويُعتبر التحضيرُ الجيدُ الخطوةَ الأهمَّ على الإطلاق في إجراء أيِّ عمليةٍ لدى المريضِ المسن. ويتم ذلك من خلال استشارةِ الأطباءِ الذين أشرفوا على علاج المريضِ (مثلَ طبيبِ أمراضِ القلب)، وإجراءِ أيِّ تحاليلَ أو صورٍ ضروريةٍ بحيث يدخل المريضُ إلى العملية في ظروفٍ مثالية، وذلك بهدف تخفيفِ نسبةِ المضاعفاتِ إلى الحدِّ الأدنى. ومن المبرَّر تماماً لدى هؤلاءِ المرضى إجراءُ مجموعةٍ واسعةٍ من الفحوص التي لا تُجرى لدى الشبابِ عادةً، وخصوصاً الاختباراتُ القلبيةُ والرئويةُ إضافةً إلى الفحوص المخبريةِ الواسعة.

كما يحتاج الكثيرُ من المرضى إلى تحضيراتٍ دوائيةٍ معينةٍ قبل العملية؛ فهؤلاء المرضى يتناولون عادةً الكثيرَ من الأدوية، وقد يحتاج المريضُ إلى إيقاف أدويةٍ معينةٍ بشكل كاملٍ، أو تغييرِ بعضِ الأدوية بما يتناسب مع الجراحة والتخدير، وقد يحتاج إلى إضافةِ أدويةٍ أخرى لعلاج مشاكلَ معينةٍ اكتُشفت من خلال الفحوص التي خضع لها المريضُ قبل الجراحة. وكلّما تمّ ضبطُ هذه الأمورِ بشكل أفضلَ، كانت نتائجُ العمليةِ أفضلَ ومشاكلُها أقل.

التعامل مع المريض المسن بعد الجراحة

يكون الصحوُ من التخدير بطيئاً نسبياً لدى المسنين، حيث يتأخر إطراحُ أدويةِ التخديرِ من الجسم ويكون الدماغُ حساساً بشكل كبير للأدويةِ المستعملةِ في التخدير، مما يؤدي إلى اضطرابٍ في عمل الجهازِ العصبي. كما أن التبدّلاتِ العامةَ في معايير الجسم (مثلَ نقصِ الأوكسجين) تؤدي إلى تفاقم هذا الاضطراب، ولذلك فإن المريضَ المسنَّ قد يعاني من التخليط الذهنيِّ والهلوسةِ بعد التخديرِ العامِّ بنسبة أكبرَ ولفترةٍ أطولَ مقارنةً بالمريض الشاب.

ونظراً للأمراض التي يعاني منها الكثيرُ من المسنّين، فإنّ المريضَ سيحتاج بعد الجراحةِ إلى المراقبةِ الحثيثةِ للتأكد من أنّ أعضاءَه المختلفةَ تقوم بوظائفها بشكل جيد، وتُعتبر وحدةُ العنايةِ المشدّدةِ المكانَ المناسبَ لمراقبة هذه الوظائفِ عن كثب، لذا فمن الشائعِ للغاية أن يُخرَجَ المريضُ من غرفة العملياتِ إلى وحدة العنايةِ المركزةِ حتى لو كانت حالتُه جيدةً، وذلك بهدف المراقبةِ وتقديمِ العنايةِ الأمثل.

ماذا عن المضاعفات التاليةِ للعملية؟

ومن أهم المشاكل التي يمكن أن تشاهَدَ لدى المسنين أثناء العملياتِ أو بعدَها نذكر المضاعفاتِ القلبيةَ الوعائية. فالتصلّبُ الشريانيُّ الذي يصيب الأوعيةَ الدمويةَ لدى المسنّين قد يؤدي إلى نقصِ الترويةِ القلبيةِ والجلطةِ القلبيةِ والدماغية، كما أن تبدّلاتِ الضغطِ الشرياني تمثل مشكلةً شائعة جداً لدى المسنين بعد العمليات. وكثيراً ما يعاني المسنّون من اضطرابٍ في الذاكرة أو الحالةِ الذهنيةِ بعد العمليةِ بسبب جلطاتٍ دماغيةٍ صغيرة، وقد تبقى هذه المشاكلُ لمدةٍ طويلةٍ تصل إلى عدة أشهرٍ، وقد تستمر مدى الحياةِ في حالات أخرى.

ويُعتبر هؤلاء المرضى ذوي أجسامٍ ضعيفةٍ ومناعةٍ متدنّية، وأيُّ مشكلةٍ بسيطة لديهم - مثل التهاباتِ الجروح - يمكن أن تتطورَ سريعاً إلى حالة مهددةٍ للحياة؛ لذا وَجبَ دائماً بعد العمليةِ تقديمُ عنايةٍ فائقة لهؤلاء المرضى مقارنة بالمرضى العاديين، والحرصُ على التغذية البروتينيةِ الجيدةِ لتعزيز المناعة. كما وجبَ الانتباهُ إلى أية مضاعفاتٍ أو مشاكلَ في مرحلةٍ مبكرة من حدوثها، وينبغي دائماً التنسيقُ مع الطبيبِ لدى حدوثِ أي مشكلة أو أعراضٍ غير طبيعيةٍ لدى المريض، وذلك بهدف تدارُكِ هذه المشكلةِ باكراً.

الخلاصة

في النهاية نعود ونؤكد بأن العملياتِ الجراحيةَ لدى المسنين لا تترافق مع مخاطرَ إضافيةٍ مقارنةً بما هي عليه لدى الشباب، طالما تم التخطيطُ للعملية بشكل جيدٍ وتم تقديمُ العنايةِ المناسبةِ قبل وبعد العملية. وحتى لو كان المريضُ يعاني من السرطان أو من مرضٍ آخر مهددٍ للحياة، فيتوجب دائماً تقديمُ العلاجِ الجراحيِّ المناسب طالما أُجريَت العمليةُ بهدف تحسينِ نوعيةِ حياةِ المريضِ أو فرصةِ بقائه على قيد الحياة.

المصادر:

هنا

هنا

هنا

هنا