البيولوجيا والتطوّر > التطور

تجربة "لينسكي"| مثالٌ حيٌّ ومستمرٌ على التطوّر

استمع على ساوندكلاود 🎧

بقدرٍ وافرٍ من المهارة وقدرٍ أوفر من الصبر، يُمكن للإنسان أن يشهد حدوث التطوّر لدى بعض الكائنات الحية. لقد أمضى بيتر وروزماري غرانت عشراتٍ من السنين في جزر غالاباغوس في المحيط الهادي لمراقبة تطوّر مناقير بعض أنواع الطيور بالاستجابة إلى تغيّراتٍ في أنماط الغذاء المتوافر في بيئاتها، تلك الطيور التي أصبحت تُعرف باسم عصافير داروين. كما يقوم علماء الأحياء الدقيقة، يوماً بعد يوم وبمزيدٍ من القلق، بمراقبة تطوّر البكتيريا التي تُصبح مقاومةً للصادّات الحيوية.

ببساطة، يُمكن تعريف التطوّر على أنّه تغيّرٌ في التركيب المورثي مع مرور الوقت وتعاقب الأجيال، وما يتبعه من تغيّرٍ في الصفات الشكلية والتركيبية والوظيفية للكائنات الحية. وبما أنّ حدوث التطوّر يقتضي بالضرورة حدوث تعاقبٍ لأجيالٍ من الكائنات الحية، يُمكن أن نستنتج بسهولة أنّه في حال أردنا مراقبة عملية التطوّر بأعيننا، وبما يتوافق مع فترة حياتنا القصيرة نسبياً، عندها يتوجب علينا البحث عن كائناتٍ تمتلك فترة حياة قصيرة ومعدّل تكاثرٍ مرتفع، ونقوم بتوجيه أنظارنا إليها؛ ومن بينها البكتيريا.

• بداية الحكاية:

بعيداً عن دراسة أحافير الكائنات الحية التي عاشت في الماضي، وبعيداً عن دراسة عالم الطبيعة الذي يزخر بكلّ ألوان الحياة في يومنا الحاضر، قرّر عالم البيئة الميكروبية ريتشارد لينسكي Richard Lenski، في مخبره الخاصّ في جامعة ولاية ميشيغان، عام 1988 البدء في تجربةٍ اعتُبرت في حينها أمراً سخيفاً بعض الشيء؛ حيث وضع ريتشارد عيّناتٍ متطابقة من بكتيريا الإشريكية القولونية E. Coli داخل 12 قارورة تمتلئ كلٌ منها بالمواد المغذية، وفي درجة حرارة 37 مئوية، مما خلق بيئةّ مثالية لنمو البكتيريا وتضاعفها.

القوارير الزجاجية الإثني عشر التي احتوت جماعات البكتيريا الأولية في تجربة لينسكي.

تضاعفت تجمّعات البكتيريا بدءاً من اليوم الأول للتجربة، وفي كل يوم، كان يقوم ريتشارد، أو أحد الطلاب أو المشرفين في المختبر، بنقل جزءٍ صغيرٍ يعادل 1% من البكتيريا إلى قوارير جديدة. كما يقوم الفريق بتجميد بعض العيّنات وحفظها للدراسات المستقبلية أو احتياطاً في حال حدوث تلوّث في العيّنات. استمرّ هذا العمل الدؤوب كلّ 24 ساعة، يوماً بعد يوم، ودون كللٍ حتى في أيام العطل، مما سمح للبكتيريا أن تتضاعف بمعدّل 6.6 أجيالٍ في اليوم الواحد، ولكم أن تتخيلوا ما آلَ إليه الأمر في يومنا هذا!

بعد مرور أكثر من 25 سنةٍ على بدء التجربة، تجاوز عدد أجيال البكتيريا التي نمت في المختبر 63000 جيل، وهذا الرقم يعادل أكثر من مليون عامٍ من التطوّر لدى الإنسان! ومع العدد الهائل لمجموع الخلايا البكتيرية الذي تجاوز تريليوناتٍ من الخلايا، بالإضافة إلى إمكانيّة تقصّي ومعرفة هوية كل طفرة بكتيرية على المستوى الجزيئي، وما ينتج عن كلٍّ منها، أصبح بوسع الباحثين مراقبة حدوث التطوّر ماثلاً أمام أعينهم في المختبر.

• مُشاهداتٌ، ونتائج!

خلال السنوات الأولى من التجربة، توجّه الباحثون نحو دراسة كفاءة البكتيريا؛ أي مدى قدرتها على الحياة والتكاثر، وذلك عن طريق قياس قدرتها على التضاعف بالمقارنة مع أسلافها. في البداية، وُجد أن الكفاءة قد تزايدت بسرعةٍ كبيرة، لكنّ هذا التحسّن تباطأ فيما بعد. وعموماً على مدى كامل التجربة، وحتى يومنا هذا، تحسّنت الكفاءة بنسبة 70%. ذلك يعني أنّ آخر خلية بكتيرية يمكن أن تخضع لـ 1.7 عملية تضاعف خلال الزمن الذي تستغرقه خليّة بكتيرية عادية للتضاعف مرة واحدة.

يمكن للباحثين أن يقارنوا كفاءة سلالتين مختلفتين من البكتيريا بزرعهما معاً ومن ثمّ إحصاء عدد المستعمرات التي تكوّنها. تحمل إحدى السلالتين طفرةً وراثية جعلت مستعمراتها تظهر باللون الأحمر.

ولكن، هل تحسّنت جميع سلالات البكتيريا الإثني عشر على نحوٍ متساوٍ؟

وُجد أنّ جميع السلالات البكتيرية الإثني عشر قد تحسّنت بالقدر ذاته، وبالتالي يُمكن القول أنّ التطوّر قابلٌ للتكرار بصورةٍ عامة. لكنّ بعض السلالات تحسّنت على نحوٍ أسرع من غيرها، كما أظهر التحليل المورّثي لسلالات البكتيريا أنّها اتّبعت مساراتٍ تطوريّة مختلفة.

لقد شهد الباحثون كثيراً من حالات التطوّر المتوازي. فقد أصبحت الخلايا الفردية في كلّ السلالات أكبر حجماً من أسلافها وأكثر كفاءةً في استخدام الغلوكوز من الأوساط الغذائية التي تنمو فيها. بالإضافة إلى ذلك، امتلكت جميع السلالات طفراتٍ متشابهة في العديد من

المورّثات. لكن مع ذلك، فقد اختلفت سلالات البكتيريا في كثيرٍ من الصفات فيما بعد.

وسنعرض في مقالنا هذا مثالين اثنين من هذه التجربة:

المثال الأول:

بعد مرور ثلاث سنواتٍ من عمر التجربة، ومع الوصول إلى الجيل رقم 6500، تطوّر نمطان مختلفان من بكتيريا E. Coli داخل أحد الأنابيب؛ النمط الأول يشكّل مستعمراتٍ صغيرة ويملك خلايا صغيرة الحجم نسبياً، أمّا النمط الثاني فيشكّل مستعمراتٍ كبيرة ويملك خلايا أكبر حجماً. توقّع لينسكي أنَّ واحداً من هذين النمطين سوف يسيطر مؤدياً إلى زوال الآخر في نهاية الأمر، أو أنَّ كلا النمطين سيختفي نتيجة سيطرة نمطٍ آخر يملك طفراتٍ أكثر نفعاً. لكنّ أيّاً ذلك لم يحدث، إذ استمرّ كل نمطٍ في تواجده، مما خلق نظاماً بيئياً سمحت فيه المنافسة وغيرها من التفاعلات بين الأنماط في كلّ مستعمرة لكلّ من النمطين أن يكونا قابلين للحياة.

المثال الثاني:

نأخذكم الآن إلى عام 2003، وفي صباح أحد الأيام، لاحظ لينسكي وزملاؤه وجود عكرٍ في الوسط الزرعي داخل إحدى القوارير، عندها توقّعوا حدوث تلوّثٍ من نوعٍ ما. لذا، قام الفريق بالعودة إلى آخر عيّنة متجمّدة تعود إلى تجمّع البكتيريا ذاته، وقاموا بإعادة زرعها من جديد. بعد ثلاثة أسابيع، عاد العكر إلى الظهور من جديد، ولم يعد هناك مجالٌ للشكّ.

اكتشف الفريق بعد ذلك، وعن طريق زرع البكتيريا على عدّة أوساطٍ مختلفة، أنّ هذه السلالة من البكتيريا قد طوّرت وسيلةً جديدةً للتغذية، وبدلاً من الاعتماد على الغلوكوز أصبحت تعتمد على السيترات كمصدرٍ للطاقة مما مكّنها من الوصول إلى كثافاتٍ أكبر من البكتيريا في باقي القوارير.

لقد كان هذا الاكتشاف بمثابة المفاجئة الكبرى، إذ أنّ أسلاف هذه البكتيريا لم تكن قادرة على استخدام السيترات كمصدرٍ للتغذية، وفي حقيقة الأمر فإنّ إحدى الخصائص المميّزة لبكتيريا E. Coli أنّها لا تستطيع النمو باستخدام السيترات. عند هذه النقطة، وجد لينسكي وزملاؤه أنفسهم أمام منحىً جديدٍ من التطوّر؛ تشكّل أنواعٍ جديدة. وحتى الوقت الحالي، تستمرّ أبحاث العلماء في هذا المجال.

(- يمكنكم الاطلاع على الانفوغراف التالي الذي يوضح خطوات التجربة ببساطة واختصار : هنا ).

• ما الذي يحمله التطوّر لمستقبل الأرض؟

أولاً، لقد قمنا نحن البشر بتغيير كثيرٍ من وجوه الطبيعة والمناخ على هذا الكوكب، مما أدّى ببعض الأنواع إلى الانقراض وبعضها الآخر إلى الاستيطان في مساكن أخرى،وتبديل الضغوط الانتقائية على تلك التي تنجو. يمكن القول أننا تركنا أثراً عميقاً على مستقبل تطوّر الحياة على الأرض.

ثانياً، نحن نمتلك في يومنا هذا المعرفة العلميّة والأدوات التقنية اللازمة من أجل توجيه التطوّر نحو مناحٍ نافعة. إذ يمكن للباحثين اليوم أن يقوموا بدمج المورّثات العائدة إلى أنواعٍ لا يمكن أن تتزاوج فيما بينها، اصطناع مورّثاتٍ جديدة لم تتواجد يوماً في الطبيعة، وتطوير الجزيئات وفق سياقاتٍ جديدة. والأهمّ من ذلك، لقد أصبح بمقدورنا اليوم أن ننقل التطوّر من عالم الطبيعة إلى عوالمَ اصطناعيّةٍ داخل المختبر.

التضاعف الذاتي، الطفرات، التأشيب والتنافس، وغيرها من المفاهيم تمّ نقلها وتقديمها داخل برامج حاسوبية؛ لتشكّل "كائنات حية رقمية" يمكن لها أن تتطوّر وتعمل على حلّ مشاكل حسابية عديدة... وغيرها الكثير...

قدّمت هذه السلسلة اليومية من التجارب الكثير من المعلومات والإجابات، أكثر من أن نقدر على ذكرها جميعاً في مقالٍ واحد. ويمكن القول أنّ هذه التجربة طويلة الأمد تعدّ إسهاماً عظيماً بحقّ في مجال علوم الأحياء والتطوّر.

ولو أمكن لداروين أن يرى إلى أي مدىً قادت أفكاره، لكان قد وقف فاغراً فمه من الذهول!.. إذ لم نعد نفهم تاريخ الحياة على كوكب الأرض وآليات التطوّر أكثر من أي وقتٍ مضى فحسب، بل أصبح بوسعنا أن نراقب هذه العملية وأنّ نقوم بتسخير قواها نحو نهاياتٍ جديدة.

لمزيدٍ من المعلومات حول تجربة لينسكي، ومعرفة آخر التطوّرات المتعلّقة بها، يمكنكم متابعة الموقع الرسمي لهذه التجربة:

هنا

المصادر:

هنا

هنا

هنا

هنا