البيولوجيا والتطوّر > التطور

التطور بين الصفات المَوروثَة والتغيرات البيئية

استمع على ساوندكلاود 🎧

يُعتبرُ الحوتُ الكبيرُ (the great wheal) من اللواحم التي تتغذى على كائناتٍ صغيرةٍ كالروبيان وأنواعٍ مشابهةٍ له (krill)، ومن الطبيعي أن تكونَ البكتيريا التي تعيشُ في أمعائه مشابهةً لتلك التي تعيشُ في أمعاءِ آكلاتِ اللحومِ الأخرى، ولكن وجدَ العلماءُ أدلةً على أن البكتيريا المعويةَ عند الحيتان تتشابهُ في صفاتها مع كائناتٍ أخرى غيرِ آكلةٍ للّحوم كالأبقار...

حيث وجد مجموعةٌ من العلماء في جامعة هارفرد أن البكتيريا المعويةَ (microbime) الموجودةَ في أمعاء الحيتانِ الكبيرةِ وحيتانِ البالين ( وهي حيتانٌ تتغذى بواسطة جهاز فلترةٍ موجودٍ في الفم، حيت يتمُّ إدخالُ الكائناتِ الصغيرةِ الموجودةِ في الماءِ عبرَه إلى داخل الجسم للتّغذي عليها) تتشاركُ في صفاتِها مع البكتيريا التي تعيش في الأبقارِ من جهةٍ، ومع تلك التي تعيشُ في أمعاء اللّواحمِ والمفترساتِ من جهةٍ أخرى.

تسمحُ المجتمعاتُ الميكروبيةُ الثنائيةُ للحيتانِ باستخلاصِ معظمِ الموادِ المغذيةِ المتاحةِ التي توجد في وجباتِهم الغذائيةِ، فهم لا يكتفون بهضمِ المجذافيات ( وهي إحدى أصنافِ القشريات)، بل يمكنهم أيضاً هضمُ أغلفتِها الكيتينية...

وبناءً على عدةِ دراساتٍ وُجِد أن الحيتانَ تمتلك كغيرِها من آكلاتِ اللحوم، أنواعاً متشابهةً من البكتيريا المعويةِ كتلك التي توجدُ في أمعاءِ الأسودِ والنمورِ، والتي تتغذى بدورها على اللحوم، ولكن الحيتانَ تمتلكُ أيضاً مجتمعاتٍ وفيرةً من البكتيريا اللاهوائيةِ التي تستخدمُها آكلاتُ الأعشابِ لتكسيرِ وهضمِ السليلوز، وتكمنُ الفكرةُ في أنّه لا يوجد الكثيرُ من السليلوز في المحيط، ولكن هناك الكثيرُ من الكيتين، والذي يدخلُ في تركيبِ الهياكلِ الخارجيةِ للقشريات.

ما تقترحه الورقةُ البحثيةُ أن المعي الأمامي للحوت، يشبه كثيراَ أمعاءَ الأبقار، ولذلك تنمو مجتمعاتُ البكتيريا اللاهوائية التي تقومُ بتحليلِ وهضم الكيتين.

تشيرُ الدراسةُ إلى أن هذه الهياكلَ الكيتينيةَ الخارجيةَ تشكلُ ما نسبتُه 10% من إجمالي الاستهلاكِ الغذائيِ للحوت، وتكون الحيتانُ بذلك قادرةً على استخراج أكبرَ فائدةٍ غذائيةٍ ممكنةٍ من نظامِها الغذائيِ بسببِ هذه البكتريا التي تمكّنُها من التغذيةِ بالموادِ الغنيةِ بالكيتين.

يسمي العلماء هذه الظاهرة بماقبل التكيف* ( pre-adaptation) حيث تعطيهم ميزةً تفاضليةً تتمثل في استغلالِ كاملِ الطاقةِ الموجودةِ في طعامهم، خاصةً إذا علمنا أن شكلَ أمعاءِ الحيتانِ أتى من أسلافها التي تشبه أسلافَ الأبقارِ والجمالِ، وتخدم ظاهرة ما قبل التكيف الحيتانَ كآكلاتٍ للّحوم لأنه يسمحُ لها باستخراجِ الحدِ الأقصى من الغذاءِ في نظامهم الغذائي...

كما تتناول هذه الدراسةُ ما هو أبعدَ من أمعاءِ الحيتان، فالسؤالُ الحقيقي هنا فيما يطلقُ عليه ( القصورُ الذاتيُ للنشوءِ والتطور) وفيما يلي شرحٌ لذلك: عندما ننظر الى البكتيريا المعوية في كائنٍ محددٍ، يمكننا إلى حدٍ ما النظرَ إلى الوراء والتعرفَ على صفاتِ الأجداد، وذلك لأن الكائناتِ الحيةَ التي تربطها قرابةٌ فيما بينها لديها بكتيريا معوية متشابهة، لكن ومن جهة أخرى، ليست كلُّ الكائناتِ التي تربطها علاقةُ قربى تعيشُ في نفسِ البيئة، وهنا يظهر سؤالٌ هامٌ يتمحور حول العلاقةِ بين النسبِ والأسلاف من جهة مقابلَ البيئةِ الحاليةِ من جهة أخرى، والسؤال هو: ما معدلُ الاختلافُ الذي تحتاجه البيئةُ قبل أن تغيَّر من البكتيريا المعوية الموروثةِ من الأسلافِ استجابةً للتغيراتِ البيئية الحالية؟

ولإضافة بعدٍ وراثي كان لا بد من تحديد تسلسل DNA البكتيريا التي تعيش في أمعاء الحيتان، والطريقة الوحيدة هي جمع هذه البكتيريا من براز الحيتان الذي تمَّ البحث عنه في المحيط، وبعد التوصل الى تسلسل DNA هذه البكتيريا، كانت النتيجةُ المفاجئةُ بوجود تشابهٍ كبيرٍ بين البكتيريا المعويةِ في الحيتان وتلك الموجودةِ في كلٍ من آكلاتِ الاعشابِ وآكلاتِ اللحومِ الأرضيةِ على حد سواء.

وبالنظرِ الى ما هو معروفٌ عن الحيتان، بأنّها تعود في أصلِها إلى المجترات ( وهي آكلاتُ الأعشابِ التي تحصلُ على موادِها الغذائيةِ من النباتات عن طريق تخميرها في أحد الأجزاء التي تشبه المعدة)، وأن المعي الأولي فيها ما زال مقسماً لعدةِ أقسام، كانت هناك عدةُ فرضياتٍ تشرحُ وجودَ هذه البكتيريا في أمعاءِ الحيتان منها: أن البكتيريا المعوية عند الحيتان تتشابهُ مع مثيلاتِها في أمعاءِ اللواحمِ كالنمورِ والأسودِ، وأنَ المعي الأمامي في هذه الحالةِ هو رمزيٌ فقط، والنظريةُ الأخرى أن هذا المعي سمحَ لمجموعاتٍ مختلفةٍ من البكتيريا من أن تقومَ بأشياءٍ لم نكن لنفكر بها، وما وُجد فعلياً أن البكتيريا المعوية للحيتان تقفُ في منتصفِ الطريقِ بين بكتيريا اللواحم وبكتيريا آكلات الأعشاب...

يقولُ القائمون على هذه الدراسةِ، لقد توصلنا إلى فهمٍ أفضلَ لتطور الحيتان خلال العقودِ القليلةِ الماضية، وبحثنا عن مكانِها المناسبِ في الشجرةِ التطورية، لكننا لم نفهم التغيراتِ الميكروبيةَ التي سمحت لهم بأن يصبحوا من أنجحِ المجموعاتِ في المحيط، وللمضي قدماً في هذه الدراسة قام الباحثون بتوسيعِ الدراسةِ لتشمل الحيتان التي لا تحتوي أنظمتُها الغذائيُة على الكيتين، فقاموا بأخذ عيناتٍ من معدة الحيتان المحتجزة في أحواضِ السمكِ الكبيرةِ، والتي يمكن للقائمين عليها أن يستخدموا هذه المعلوماتِ حولَ بكتيريا الأمعاء ليقدموا رعايةً أفضلَ للحيتان المحتجزة، فالكثيرُ من هؤلاء قادرون على تقديمِ معلوماتٍ حول الحيتان إذا كانت بصحةٍ جيدةٍ أولاً، ولكن لا يملكون سبباً للشرح، ويمكن أن تكون دراسةُ الميكروباتِ المعوية مفتاحاً كبيراً لحلِّ هذا اللغز، طالما لدينا حيتان في الحجز بشكلٍ دائم ونرغب في أن تكون بصحةٍ جيدة.

من جانبٍ آخرَ لم تجب هذه الدراسة بشكلٍ مقنعٍ عن أسئلةِ النشوءِ والتطور، ولكنها افترضت أنَّ بعضَ الصفاتِ المورفولوجية ( الشكلية ) يمكن الاحتفاظُ بها على الرغمِ من التغيراتِ الجذريةِ في البيئة المحيطة بالكائن الحي.

قدمت هذه الدراسة لمحةً مختصرةً أجابت فيها عن سؤالٍ هو: كيف يمكن للماضي التطوريِّ لكائنٍ حيٍ من جهة، ونظامه الغذائي الحالي من جهةٍ أخرى أن يؤثرا على أنواع البكتيريا التي تعيش داخل أمعائه؟ وكان الجواب: إذا كانت الميزةُ الشكليةُ لها قيمةٌ عند أحد الأنواع، فسيتم الاحتفاظ بها والاستفادةُ منها مع مرور الزمن التطوري.

* ماقبل التكيف: Preadaptation: هي صفة أو تركيبة بنيوية طوَّرها الأسلاف واستفادت منها الأجيال اللاحقة لأغراض مختلفة دون أن يطرأ عليها تعديلات أساسية للتلاؤم مع الأغراض الجديدة؛ مثال: خدم الريش الطيور للحماية من البرد ثم ودون تعديلات هامة استطاع أن يخدم في وظيفة أخرى وهي الطيران... يعتبر الريش كحامٍ من البرد ماقبل تكيف بالنسبة لوظيفة الطيران.

المصادر:

هنا

هنا

هنا