الكيمياء والصيدلة > صيدلة

(مسكون أم مسموم) محاولات العلم الحديث لتفسير أهم حالات المس الشيطاني التاريخية!

استمع على ساوندكلاود 🎧

لعلّ واحداً من أشهر أمثلة وَلعِنا بالأمور المبهمة هو ذلك الانبهار الاجتماعي بحالات التملك (المس) الشيطاني. ونظراً لوجود عدد هائل من القصص المكرسة لهذه الظاهرة سواء أكانت بشكل أفلام مرعبة عن حالات المس كفيلم The Exorcist (طارد الأرواح الشريرة)، أو بشكل قصص تشرح بالتفصيل حالات الفوضى والمس التي قامت بها ساحرات سايلم، فمن الواضح أنّ الرأي الشعبي لعامة الناس يفضل هذه القصص.

تُعتبر فكرة وجود الساحرات حقاً في سايلم*، أو فكرة المس الشيطاني لبعض الأشخاص في التاريخ أمراً سخيفاً ومضحكاً بكل ما للكلمة من معنى بالنسبة لأغلب الأشخاص في أيامنا هذه، لكن لا يمكننا في الوقت ذاته إنكار حقيقة وجود شهادات حية من شهود عيان عاصروا تلك الحالات.

وهنا نبقى أمام خيارين أحدهما أنّ كل أولئك الناس كانوا كاذبين، أو التصديق بأنّ ضحايا المس كانوا يعانون حقاً من أعراض تتمثّل بالتشنجات والالتواءات وإصدار الأصوات الغريبة. حيث اُعتبرت هذه التصرفات الغريبة منافيةً لأي تفسير منطقي في ذلك الوقت. لكن، وبفضل التطور الحاصل في التقنيات الطيبة والأبحاث، وتفسير وفهم الحالات النفسية، اقترح العديد من العلماء المعاصرين تفسيراتٍ طبية لهذه التصرفات الغريبة المُدرجة تاريخياً تحت بند التملك (المس).

لا يمكننا بالطبع وضع تفسير واضحٍ ومنطقي لما حدث حقاً في سايلم أو لعدد من المدن التي يُقال بأنها عانت من التملك (المس)، ولكن بعض هذه النظريات تُضاهي فكرة التملك والمس والظواهر الخارقة في روعتها.

- التسمم بالإرغوت:

عانى المصابون في أغلب حالات التملك (المس) خلال التاريخ -سواء أكانت نتيجةً للسحرٍ أو لأي أمر آخر- من مظاهر جسدية معيّنة كالتشنجات والإغماء والتغيرات في بنية الصوت والوجه والظهور المفاجئ للإصابات وللآفات الجلدية وفقدان الشخصية أو الذاكرة.

قبل معرفتنا بالظروف التي قد تكون سبباً منطقيا لمثل هذا السلوك، كالذي كان يحدث في محاكمات ساحرات سايلم، كان من الطبيعي أن نعتبر هذه الظواهر عملاً شريراً وعلامة على حدوث أمورٍ مظلمة، لكن بعد عدة مئات من السنين تمكّن العلماء من اقتراح تفسيراتٍ عدةٍ لهذه الأحداث ومنها التسمم بالإرغوت أو التسمم الإرغوني Ergotism.

ينتج التسمم بالإرغوت عن ابتلاع الفطر الذي ينتمي لجنس الـClaviceps والذي ينمو غالباً على حبوب الجاوادارRey (نوع من الحبوب يشبه الشعير) التي تخزّن في مكان رطب وبارد. كان خبز الجاوادار سلعةً غذائية رئيسة في المستعمرات في تلك الأوقات. وقد أكد المؤرخون أنّ منطقة نيو إنغلند كانت على غير المعتاد باردةً في الأعوام 1960، 1961، 1962.

طرحت فكرة التسمم بالإرغوت كسبب لاضطهاد الساحرات في سايلم لأول مرة عام 1976 من قبل ليندا كابروئيل Linda R. Caporeal التي كانت طالبة في جامعة كاليفورنيا - سانتا باربرا. tناقشت ليندا فكرة كون الأعراض التي ظهرت على من اُعتبروا ضحية للسحر أعراضاً نمطيةً للتسمم الإرغوني حيث تشمل هذه الأعراض التشنجات والآثار العقلية كالهوس والذهان، وأضافت أنّ أي ادعاءات بحدوث هلوسات بصرية هي مشابهةٌ لتلك الناتجة عن مخدر الهلوسة "حمض الليزرجيك" LSD وهو أصلاً مشتق كيميائي من الإرغوت.

نالت هذه النظرية الرفض والمديح في الوقت ذاته، فقد أشار النقاد إلى غياب أعراض التسمم الإرغوني الأخرى في شهادات الشهود، وبأن هذا التفسير الذي يعزو هذه الأعراض للتسمم الإرغوني لا يأخذ بالحسبان التأثيرات النفسية والاجتماعية المعقّدة للثقافة التي كانت سائدة في ذلك الوقت.

وشكّك بعض الباحثين أيضاً في صحة هذه النظرية لأن أعراض التملك وأعمال السحر حدثت على مستوى فردي وليس على مستوى المنازل، فلو كان مخزون الطعام لعائلة ما مسمّماً بالإرغوت لأصيبت العائلة كلها بهذه الأعراض. وعلى الرغم من هذه الاعتراضات لايزال الكثير من المؤرخين والعلماء يعتبرون التسمم الإرغوني سبباً محتملاً للحوادث الخارقة للطبيعة في سايلم.

- الاضطرابات العقلية والجسدية:

لا نستطيع التغاضي عن ضرورة التعمّق في أحداث ساحرات سايلم ودراستها من وجهة نظر دينية وتاريخية. فقد ظهرت حوادث فردية للتملك (المس) الشيطاني لا تصل إلى الأهمية الاجتماعية لأزمة السحر في سايلم، بل وتبدو وكأنها قد ظهرت فجأة والبعض منها حدث خلال القرن الماضي، في الوقت الذي وصل فيه العلم والتشخيص الطبي الحديث إلى مرحلة يستطيع فيها تفسير مثل هذه الظواهر والسلوكيات المقلقة.

تم ربط العديد من الاضطرابات العقلية مع أعراض التملك متضمنة متلازمة توريت** وفصام العقل، نتيجةً للسلوك الذهاني وغير المنتظم الذي تم الإبلاغ عنه عند ضحايا التملّك (المس).

يتم ربط التملك غالباً مع اضطراب الشخصية الفصامي. فحوالي 29% ممن يعانون من هذه الحالة والذين يطلق عليهم المصابين بانفصام الشخصية يُعرفون عن نفسهم على أنّهم شياطين!

وهنا يبقى السؤال إذا كانت الاضطرابات المزاجية والعقلية قد سببت الأعراض النفسية للتملك (المس) إذاً ماذا عن الحالات التي تم الإبلاغ فيها عن وجود أعراض جسدية؟!

قامت الدكتورة كاثلين ساندز Kathleen Sands بإلقاء محاضرة عن "حالات التملك الشيطاني وطرد الأرواح الشريرة وتفسيرها الطبي" في كلية الطب بفيلادلفيا اُقترحت فيها عدّة أسباب مُحتملةٍ لبعض المظاهر الجسدية للتملك. فقد تمّ الإبلاغ في بعض الحالات عن ظهور كلمات على جلد ضحايا التملك وهو ما أرجعته ساندز إلى حالة تدعى "الشرى المفتعل" dermatographic urticaria، فالمصابون بهذا المرض قد يقومون بالضرب أو الضغط على جلدهم لتشكيل خطوط حمراء تظهر بشكل مثير للقلق حقاً بالنسبة لشخص لا يمتلك معرفةً بهذه الحالة.

ومن الأعراض الكلاسيكية الأخرى لحالات التملك الشيطاني الأشياء الغريبة التي تظهر في الجسم أو التي قد تتقيؤها الضحية، فقد أشارت ساندز لاضطراب يعرف باسم "غرابة المأكول" allotriophagy وهو تفسير منطقي لهذا السلوك المرعب بالنسبة لنا، فهو رغبةٌ غير طبيعيةٍ بتناول أطعمةٍ غير عاديةٍ، ويقود هذه الاضطراب إلى تقيؤ مواد غريبة كالنقود المعدنية والحجارة والزجاج!

في نهاية الأمر قد لا يوجد تفسير طبيٌّ محدد للأحداث المسجلة في شهادات محاكمات الساحرات والمذكرات التي تصف حالات التملك، وقد لا نتمكن من تحديد ما حدث فعلاً في هذه الحالات"الخارقة للطبيعة"، لكن من المؤكد أننّا لن نتوقف عن التساؤل عمّا حدث فعلاً.

*قصة ساحرات سايلم:

هي قصة فتيات مراهقات يعشن في مدينة سايلم في نيوإنغلند، كُنّ يصدرن أصواتاً غريبةً كنباح الكلاب ويرقصن رقصاً غريباً في الغابات خلال الليل. وحين تمّ استدعاء الأطباء إلى سايلم لفحص الفتيات، كان الاستنتاج الخطير بأن الفتيان كُنّ واقعات تحت تأثير السحر، وأنّ من يقع عليه اللوم في هذه الأحداث يجب أن يخضع للمحاكمة.

بدأت القصة قي منزل كاهن سايلم القس ساموئيل باريس.Samuel Parris حيث كان لديه خادمة من الكاريبي تدعى تيتوبا Tituba، كانت فتيات البلدة يجتمعن عندها في مطبخ منزل الكاهن في بداية عام 1692. مع بداية الربيع بدأ الناس يخافون من التصرفات الغريبة التي بدأت تظهر على صديقات تيتوبا اليافعات، فقد كُنّ يرقصن في الليل في الغابة رقصة السحر الأسود، وكان كثير من الفتيات يسقطن أرضاً ويصرخن بشكل هيستيري. وسرعان ما بدأت هذه التصرفات الغريبة تنتشر في كل أنحاء سايلم. بدأ الكهنة من القرى المجاورة يتجهون إلى سايلم ويقدمون النصائح الحكيمة واتفق الجميع على ضرورة تحديد طبيعة الاجتماعات التي كانت سبباً لهذه الفوضى.

اعتقد المتزمتون في ذلك الوقت أنّ الشخص يجب أن يقع تحت تأثير لعنة ما ليصبح مسحوراً، وأن أولئك الفتيات لا يمكنهن القيام بذلك بأنفسهن، وهنا تمّ سؤال الفتيات وإجبارهنّ على الاعتراف وإفشاء اسم الشخص الذي قام بتعذيبهن بهذه الطريقة. فتمّ تسمية ثلاثة أشخاص من البلدة من بينهم تيتوبا على أنّهم سحرة. بدأت المحاكمات الشهيرة لساحرات سايلم مع اعتراف الفتيات بأسماء أشخاصٍ آخرين من البلدة كانوا يشتركون في هذه الاجتماعات.

**متلازمة توريت Tourette Syndrome:

اضطرابٌ عصبيٌّ يتمثّل بحركات لاإرادية نمطيّة متكرّرة وإصدار أصواتٍ كصوت الاستنشاق والشخير وتشنجات لاإرادية تعرف بـ Tics. تظهر عادة الأعراض النمطية لهذه المتلازمة في الطفولة بين عمر 3-9 سنوات.

المصادر:

هنا

هنا