العمارة والتشييد > التصميم المعماري

جاذبية الموانئ البحرية!

استمع على ساوندكلاود 🎧

عندما نَسمعُ كلمةَ مرفأ غالباً ما تتبادرُ إلى أذهاننا صورةٌ سلبيةٌ لمكانٍ موحشٍ ذو فراغاتٍ كبيرةٍ. لمكانٍ يَستهلكُ قِسماً كبيراً من الشاطئ البحري. هذا المقال يقترحُ على المدنِ اتباعَ إحدى الاستراتيجياتِ التاليةِ وذلك لجعلِ المرافئ مكاناً أكثرَ جاذبيةٍ من ما هو سائدٌ الآنَ.

واسعةٌ وقاسيةٌ وذاتُ دخولٍ مقيّدٍ. هذهِ هي الكلمات التي تَخطرُ على بالِنا عندَ رؤيةِ صورةِ ميناء. لكّنَ كلماتٌ مثلَ: صديقةٌ للمشاةِ ومثيرةٌ للاهتمامِ من الناحيةِ الجماليةِ، نادراً ماتستعمل لوصفِ هذا المكان. إنَّ الموانئ بكلِ ما تحتويه من أكوامِ حاوياتِ الشحنِ الخطرةِ والآلاتِ الكبيرةِ، هي أماكنُ يَودُّ الناسُ تجنبها، وذلكَ لأسبابٍ لوجستيةٍ وتاريخيةٍ، فإن الموانئ غالباً ما تُوجَدُ في قلبِ المُدنِ، منتزعةً بذلكِ فراغاتٍ عمرانيةٍ قيمةٍ وأراضي الواجهةِ البحريةِ المرغوبةِ من السكانِ. لكن الأمرَ لا يحتاجُ حقاً أن يكون هكذا.

صدرَ تقريرٌ جديدٌ من الشبكةِ العالميةِ لمدنِ الموانئ The Worldwide Network of Port Cities بعنوان " تخطيط المدن ذات المرافئ: دليلُ الممارسةِ الحسنةِ. هذا التقرير يُوفرُ استراتيجيات للمدنِ من أجلِ تحسينِ كفاءةِ مرافِئِها بينما يَتمُ إعادةُ أكبرَ قدرٍ ممكنٍ من أراضيها للناسِ. يَستخدمُ الدليلُ حالاتٍ دراسيةٍ للتصميمِ العمراني بمراحلَ مُختلفةٍ في اكتمالها وأفكارها، كي يوضح مختلف التقنيات المتوافرة لتطوير هذه المخططات والدراسات بهدف تحسينِ بيئةِ الميناءِ داخلِ المدينةِ.

على الرغمِ من كَونِ هذه المنهجيةُ مُصممةٌ ضمنَ خطةٍ محددةٍ وجدولٍ زمنيّ محددٍ، إلا أنَّ العديدَ من التجاربِ والمشاريعِ المعماريةِ والعمرانيةِ يُمكنُ أن تُسلطَ الضوءَ على فاعليةِ ونتائجِ بَعضِ هذهِ الطرقِ وكيفياتِ استخدامِها ضمنَ ظروفٍ متنوعةٍ. وفيما يلي ملخصٌ لتوصياتِ التقريرِ السابقِ الذكرِ.

أولاً: توفيرُ المساحةِ ضِمنَ الحدودِ الثابتةِ عن طريقِ تصميمِ مساحاتٍ عاليةِ الكثافةِ والتعقيدِ:

إنَ العديدَ من الموانئ وخاصةً تِلك التي تَكونُ في مناطقَ تَزدهرُ فيها صناعةُ الشحنِ البحري، تُعاني مِن قِلةِ المساحاتِ المطلوبةِ للتوسعِ. فعوضاً عن نُمّو هذهِ المَوانئ إِلى ما بَعدَ حُدودِ أفنيةِ الشحنِ الحاليةِ، يترتبُ على المُدنِ القيامَ بِسَدّ الفراغاتِ واستخدامُ المساحاتِ التي تَشغلُها الموانئ حالياً إلى أَقصى حدٍ ممكنٍ. يَسعى مشروعُ إعادة تطويرِ الميناءِ الأوسطِ The Middle Harbor Redevelopment Project في لونغ بيتش - كاليفورنيا، إلى دَمجِ عدةِ أَرصفةٍ بحريةٍ في رصيفٍ واحدٍ وذلكَ بإزالةِ المناطقِ العازلةِ بينهم وردمِ المجاري المائيةِ (القنوات) غيرِ الضروريةِ واستبدالِها بفراغاتٍ إضافيةٍ يُمكِنُ اِستخدامُها لإنشاءِ 55 فدًان جديدٍ من الأراضي دونَ المَساسَ بأي بيئةٍ عمرانيةٍ مجاورةٍ.

ثانياً: المشاركة في استعمال المياه والواجهة المائية بين المرافئ ووظائفها المتعددة وبين النشاطات العمرانية الاجتماعية:

شَجعَ التقريرُ المُدنَ على استعادةِ مناطقِ المرافئ وذلكَ من خلالِ تقديمِ نماذجَ لبرامجَ جديدةٍ للموانئ الحاليةِ. توجدُ طرقٌ متنوعةٌ لتحقيقِ هذا الاقتراح. فمثلاً في ميناءِ تولبياك Tolbiac الصناعي في باريس،تَمَّ بناءُ معملُ إسمنتٍ جديدٍ في عام 2010 . حيثَ تمَّ تخصيصُ نصفِ منطقةِ المشروعِ لخلقِ مُتنزهاتٍ على الواجهةِ المائيةِ، وذلكَ عن طريقِ رفعِ المعملِ على ركائزَ عَمِلت على تكوين فراغاتٍ للمشاةِ وإطلالةٍ على المياهِ في الأسفلِ. كما تمت إضاءةُ المعملِ بشكلٍ استراتيجي ليلاً ليضيفَ جمالاً وأماناً للمنطقةِ.

وفي أمثلةٍ أُخرى، أصبحت أعمالُ الشحنِ جزءاً من منشأةٍ ذاتِ استعمالاتٍ متعددةٍ. تعتبرُ المحطةُ المصممةُ من قبلِ المعماري  Larry Malcic في أمستردام عام 2000 خيرُ مثالٍ على ذلك. حيث يجمعُ هذا المبنى الواحدُ بين مَحلاتٍ وقاعةِ اجتماعاتٍ كبيرةٍ وفندقٍ وفراغٍ ثقافي مُخصصٍ للموسيقى.

تَتصلُ الفراغاتُ ببعضها البعضِ أُفقياً، سامحةً بذلكَ بمرورٍ سهلٍ من خلالها. في مشروعٍ آخرٍ " تراساتُ المرفأ" Terrasses du Port في مرسيليا، تمَّ تكديسُ العناصر المكونة للمشروع بشكلٍ شاقولي على طولِ الواجهةِ المائيةِ. فساعدَ هذا على تقليلِ البصمة البيئية والمساحةِ الكليةِ للمشروع والسماح للأقسامِ الأقلِ عموميةٍ، أن تكون مخبأةً تحت مركزِ التسوق التجاري التابع للمشروع. إن التراسات الممتدة من مركزِ التسوقِ نحو المياه، توفرُ للمتسوقين إطلالةً جذابةً كما تُساعدُ على إيجادِ سترٍ إضافي لأقسامِ الشحنِ في المشروع.

ثالثاً: إبرازُ الفراغات الانتقالية بين المرفأ والمدينة:

العملُ على ضَمَ مناطقَ كانت مُخصصةٍ للمرافئ إلى الحيزِ العمراني، وذلكَ بالتركيزِ على الأماكنِ التي يتصلُ فيها هذين العنصرين. حيثُ تمَّ وضع شاشةٍ معدنيةٍ في لو هافغ  Le Havre لتعطي نظرةً/إطلالةً على حوضِ السفنِ، وتغطي بذاتِ الوقتِ الأماكنَ القبيحة المجاورة وتتحقق متطلبات الأمان الضرورية. في مناطقٍ أُخرى من المدينةِ، تمَّ تحويلُ الأحواضِ الصناعيةِ القديمةِ الموجودةِ على الحافةِ الخارجيةِ لحوضِ الشحنِ (المرفأ الخارجي) إلى مساحاتٍ خضراءَ للحدائقِ، فخلقَ ذلكَ حاجزاً طبيعياً فاصلاً يَسمحُ بتعايشِ كُلٍ منَ النشاطاتِ العمرانيةِ ونشاطاتِ المرفأ جنباً إلى جنبٍ.

كما تمَّ تطويرُ نظامٍ مشابهٍ في ملبورن، حيث اُقترحَ نظامُ ممراتٍ (ممرٍ على المياه) “waterline”، يشكل عزلاً حولَ وظائفِ المرفأ المختلفةِ. إنَّ الممرَ يَستخدمُ عِلمَ الطبوغرافيا بهدفِ عَزلِ مُستخدميه عن وظائفِ المرفأ ويَتضمنُ عِدةَ نقاطِ مُراقبةٍ لكُلٍ من المياهِ من جهة ومناطق المرفأ من جهةٍ أُخرى.

رابعاً: ترشيد البنى التحتية للنقلِ لزيادةِ معدلِ الإنتاجِ (التشغيل)!

في المدنِ التي تَقعُ الموانئ فيها ضِمنَ المناطقِ ذاتِ الحركةِ المروريةِ الكثيفةِ، يجبُ تصميمُ أنماطٍ مروريةٍ جديدةٍ لطُرقِ التبادل والشحن (طرق الشاحنات مثلاً) لتخفيفِ الأثرِ السلبي للموانئ على البيئةِ العمرانيةِ المحيطةِ. يَتمُ إنشاءُ ممرٍ جديدٍ في برشلونة لإبعادِ الشاحناتِ عن منطقةِ مركزِ المدينةِ المجاورِ للمرفأ، مانحةً بذلكِ الفراغَ المتبقي للحركةِ المروريةِ العاديةِ في المدينةِ. بشكلٍ مُشابهٍ، تبني مدينةُ ميامي نفقاً تحتَ الماءِ من أجلِ مساعدةِ الشاحناتِ على الوصول مُباشرةً إلى الطريقِ السريعِ عِوضاً عن إدخالها ضمن المدينةِ.

يمكنُ استخدامُ وسائلِ النقلِ البشريةٍ الصديقةِ للبيئةِ إلى المرافئ عندما تكونُ الأخيرةُ مَوجودةً ضمنَ مراكزِ المُدنِ.

كسبيلِ المثال، يَأمَلُ مَسؤولو المشروعِ في طنجة في المغرب، بتسخيرِ اقتصادِ السياحةِ في بناءِ نظامٍ للنقلِ يعتمدُ على الكابلِ (كالترام) وذلك لنقلِ الزوارِ إلى عدةِ أماكنٍ في المدينةٍ مُتضمنةً المرفأ. إنَّ إخراجَ الناسِ من سياراتِهم يُخففُ من حركةِ المرورِ ويزيدُ من كفاءةِ مناطقِ المرفأ.

خامساً: الحفاظُ على الهويةِ المعماريةِ:

إنَّ الحفاظَ على تاريخِ الموقعِ هو جزءٌ مهمٌ من إعادةِ التنميةِ، وهذا ينطبقُ أيضاً على إعادةِ إحياءِ المرافئ. إنَهُ مِنَ المُمكنِ إنشاءُ صلة وصلٍ ناجحةٍ بينَ الماضي والمستقبلِ لكلٍ من المدينةِ والمرفأ، وتكون بذلك خارطةً لخُططِ التنميةِ المُستقبليةِ. هذا يَتمُ عن طريقِ تحديدِ عناصرِ المرفأ التراثيةِ التي يجب الحفاظ عليها بوضوح وتوثيقها.

ألهمت طريقة التفكير هذه مدينةَ كيب تاون لقبول تَحدّي تحويل صومعةِ حبوبٍ يبلغُ عُمرها الـ 100 سنة إلى متحفٍ للفن الأفريقي المعاصر. قامَ توماس هيثيرويك بتصميمِ الحلِ، لتحويلِ الصوامعِ إلى قاعةٍ مركزيةٍ، يُمكنُ للضوءِ أن يَشُقَ طريقهُ فيها موضحاً ملامحاً لإنشائيةِ المبنى القديمِ.

وهكذا نرى أنَّ صورةَ الموانئ في أذهاننا غالباً ما تَرتبطُ بصورةٍ سلبيةٍ عن بيئةٍ غيرَ ودودةٍ. غيرَ أنَّ دَورنا كمعماريين ومخططين يَكمُنُ دائماً في البحثِ عَن الحُلولِ التي تَسمحُ لجميعِ الأطرافِ باستخدامِ المنشآتِ والمرافقِ الحيوية في المدينةِ بفاعليةٍ وبشكلٍ يَجلبُ الجمالَ والسعادةَ ويحققُ الوظائفَ والمتطلباتَ الطبيعيةِ لجميعِ الفئاتِ السكانيةِ والتجاريةِ والصناعيةِ المختلفةِ.

المصدر:

هنا