التاريخ وعلم الآثار > حقائق تاريخية

الحشاشون: 1- الحشاشون في بلاد فارس

لقرنين من الزمن ابتداءً من 1090م وصولاً إلى 1273م جرت على ألسنة الناس قصص القتلة المتخفين القادرين على تغيير أشكالهم كالشياطين، ولغاتهم كالحواريين، ليس لهم أسماء أو وجوه، فمن الممكن أن يتواجدوا في أي مكانٍ وفي أي وقتٍ متخفين تحت قناع أي شخصيةٍ، ينتظرون بفارغ الصبر مجيئ الوقت المناسب ليوجهوا ضربتهم.

عائداً من رحلةٍ طويلةٍ طاف بها معاقل الدولة الفاطمية، وصل في صيف 1081م شخصٌ يدعى حسن الصباح إلى أصفهان، وكان قد عقد العزم على أن يقيم دولةً للفاطميين في بلاد فارس. في تلك الحقبة كانت بلاد فارس تحت القبضة الحديدية للحكام السلاجقة، والذين لم يكونوا يدخرون جهداً في مواجهة أمثال حسن الصباح المهددين لسلطتهم الحاكمة.

اندفع حسن الصباح في وسط مدن بلاد فارس داعياً الناس إلى الدولة الفاطمية، متحدياً السلطة الحاكمة، وبفضل جاذبية شخصيته تمكن من جذب الأتباع، وكان ينجح المرة تلو الأخرى في الإفلات من العيون السلجوقية الملاحقة له. أدرك الصباح أنه لن يكون في كل مرةٍ محظوظاً بالنجاة، وأن تجوله بين المدن لايمكن أن يدوم للأبد، لذلك فلا بد من أن يبني لجماعته معقلاً ولدولته المرتقبة عاصمة.

ولم يمر وقتٌ طويلٌ حتى وقعت عين الصباح على قلعة تسمى "ألموت"، بنيت هذه القلعة من قبل أحد الملوك المحليين في منطقة الديلم، وهي حصن مقام فوق طنف ضيق على قمة صخرةٍ عاليةٍ في قلب جبال البورج لايمكن الوصول إليها إلا عبر تسلق طريقٍ ضيقٍ كثير المنعطفات. استطاع الصباح أن يسيطر على القلعة في 4 أيلول/سبتمبر من العام 1090، ولم يغادرها مرةً واحدةً بعد ذلك حتى وفاته بعد 35 عام قضاها في إدارة شؤون دولته. أعقب السيطرة على ألموت انتصاراتٌ أخرى تمثلت بالسيطرة على قلاعٍ أخرى وعلى مناطق رودبار وكوهستان الشرقية، إضافةً للسيطرة على قلاعٍ معينةٍ في خوزستان وفارس، ليؤسسوا بذلك دولةً إقليميةً فعلية، كانت المناطق الجبلية ذات ميزةٍ استراتيجيةٍ في توسع الحشاشين، حيث البلاد المنيعة والسكان الساخطون على الدولة السلجوقية والإرث الايديولوجي المساند للفاطميين.

لم يصبر السلاجقة كثيراً على سقوط مدنهم وقلاعهم، فقاموا بإطلاق حملةٍ عسكريةٍ كبرى استهدفت ألموت وكوهستان، وعلى الرغم من خلو ألموت سوى من سبعين رجلاً، إلا أن الحملة العسكرية هُزمت ولم تستطع أن تحقق أهدافها. وهنا قطع الحشاشون العهود الغليظة لمن يثأر من الشخص الذي حرض الحملة العسكرية ضدهم، فحققوا أول نصرٍ لهم بالفن الذي صار ينسب إليهم "فن الاغتيال" ، فكان ضحيتهم الأولى الوزير السلجوقي ذو النفوذ الرفيع نظام الملك، فعندما كان الوزير السلجوقي محمولاً على محفة لينقل إلى خيم حريمه تقدم من بين جموع الناس رجلٌ متخفٍ بملابس صوفيةٍ انقض في ثوانٍ على نظام الملك ليطعنه بخنجره قبل أن يتمكن حراس الوزير من قتل المهاجم. لكن بعد فوات الأوان حيث كان نظام الملك قد أصيب بجروح قتلته على الفور.

كانت هذه العملية فاتحةً لسلسلةٍ أكبر من الاغتيالات المنفذة من قبل الحشاشين، بل إن سياسة الاغتيال كانت الاستراتيجية العسكرية الرئيسية لهم، والحاضر الأكبر في التراث التاريخي للحركة؛ فقد عكفوا على تدريب من يسمون بـ "الفدائيين" لتنفيذ عمليات اغتيالٍ تميزت بالدقة والمكر ضد الشخصيات السياسية والدينية المناوئة لهم. وقد لجأ الحشاشون في بعض الأحيان إلى التخفي بشخصياتٍ مشهورة، وربما تطول مدة تخفيهم لسنين عديدةٍ ليستطيعوا كسب ثقة من حولهم حتى يصلوا لهدفهم، كما كانوا حريصين على أن تنفذ عمليات الاغتيال في مكانٍ عام بوجود حشدٍ كبيرٍ من الشهود المرعوبين بهدف إحداث أكبر قدر ممكن من الدعاية، وفي أغلب الأحيان لم يكونوا يسعون للهرب وإنما ينتحرون بحماس.

إن جرأة الفدائيين واستعدادهم للموت من أجل تحقيق مهمتهم، دفعت مناوئيهم لتفسير ذلك بتعاطيهم الحشيش "المخدرات" الأمر الذي لم يثبت تاريخياً، بل إن دقة عمليات الاغتيال وحاجة بعضها إلى بقاء الفدائيين متخفين بشخصياتٍ وهميةٍ لفتراتٍ طويلةٍ تجعل من مسألة تعاطيهم للمخدرات مسألةً مستبعدة. لكن مع هذا شاعت تسمية الحشاشين لوصف هذه الحركة في كتب التاريخ.

في 29 من كانون الأول/ديسمبر من العام 1094 توفي الخليفة الفاطمي المستنصر بالله، وتم تنصيب ابنه المستعلي بالله خليفةً فاطمياً جديداً، الأمر الذي لم يرق للأخ الأكبر نزار المصطفى لدين الله، فقد رأى هذا الأخير أن هذا التنصيب مخالفٌ لوصية الخليفة الراحل، فأعلن أن خلافة أخيه باطلة، إلا أنه سرعان ما تم وأد ثورة نزار، وألقي القبض عليه في الاسكندرية وتم إعدامه. لم يتردد حسن الصباح زعيم الحشاشين في تأييد قضية نزار وقطع روابطه بنظام الحكم الفاطمي، واعتبر المستعلي بالله غاصباً للخلافة، وبهذا تكون العلاقة مع الدولة الفاطمية قد قطعت، بل تحول الفاطميون لأعداء ألداء للحشاشين.

بعد وفاة حسن الصباح عام 1124م، تعاقب على رئاسة الحشاشين كلٌ من بزرجميد "صديق حسن الصباح" وابنه محمد بن بزرجميد، ثم تولى الحكم الحسن علي حفيد نزار المصطفى لدين الله، واستمر أولاده في زعامة الحشاشين للتأكيد على ولائهم لخط نزار وحقهم بالخلافة.

تمكن الحشاشون خلال السنين المتعاقبة من الصمود أمام الحملات السلجوقية، ثم الخوارزمية بعدها، و ذلك إلى أن قدمت قوةٌ جديدةٌ للمنطقة. ففي عام 1218م وصلت جيوش المغول بقيادة جنكيز خان إلى حدود الدولة الخوارزمية، وبحلول 1240 كانت غرب ايران بالكامل خاضعةً للسلطة المغولية. ثم بدأ القائد المغولي المتحمس هولاكو في عام 1256 حملةً طموحةً لدفع التمدد المغولي إلى أبعد الحدود، وكانت قلاع الحشاشين إحدى عقبات حملته. بدأ هولاكو هجماته على مناطق الحشاشين، فلم تصمد أغلبها، حيث اقتحم المغول قلاع تون وخوان وأعدموا كل من تجاوز عمره العشر سنوات.

لم يرى زعيم الحشاشين ركن الدين خورشاه في المقاومة حلاً، فعرض على المغول الاستسلام مقابل ضمان سلامة أتباعه، قبل هولاكو العرض، فأخلى ركن الدين وأتباعه قلاعهم ومن ضمنها ألموت التي ظلت حصينةً أمام الحملات العسكرية لفترةٍ طويلةٍ من الزمن. تسلق المغول ألموت وأحرقوها بما فيها من مكتبةٍ ضخمةٍ ضمت أسرار الحركة وأدبها، كما أنهم غدروا بركن الدين فقتلوه وقتلوا ما استطاعوا من أتباعه. لم تستسلم جميع قلاع الحشاشين، فقد قاومت آخر قلاعهم و هي قلعة "غيردكوه" مدة 13 سنةً قبل سقوطها. فرَّ ابن ركن الدين من المقتلة الكبيرة التي حلت بوالده وأتباعه، ليستمر خط نزار وتستمر معه مطالبتهم بالخلافة. استطاع الحشاشون العنيدون العودة والسيطرة على ألموت مرةً أخرى في 1275، لكن لم يستمروا إلا لفترةٍ قليلةٍ فقط لتندثر هذه الحركة تدريجياً في بلاد فارس.

يمكنك متابعة الجزء الثاني من المقال من هنا

المصادر:

1- كتاب الحشاشون، برنارد لويس

2- هنا

3- تاريخ الإسماعيلية، ثامر عارف، الجزء الرابع

4- تاريخ الدعوة الاسماعيلة، مصطفى غالب

5- خرافات الحشاشين وأساطير الاسماعيليين ، فرهاد دفتري