العمارة والتشييد > التصميم المعماري

قراءة ما بين السطور والكنيسة الشفافة

تعتمد الكثير من المشاريع المعمارية على مبدأ تعددية فكرة التصميم، الهدف من ذلك هو إعطاء الانسان الحرية الكاملة في توظيف كافة أحاسيسه ومخيلته أثناء استخدامه للفراغ. فيتميز بذلك هذا النوع من التصاميم بكونه غير تقليدي ويظهر الجانب الفني من الهندسة المعمارية بعيداً عن التقنيات والتطورات الصناعية. تعد الكنيسة التي ترد في هذا المقال مثال على ذلك حيث أن فكرتها التصميمية تدور حول إعطاء الناظر لكتلتها خيارات واحتمالات متعددة حسب زاوية الرؤية.

قراءة ما بين السطور هو مشروع تم تصميمه من قبل مهندسين معماريين شبانين من بلجيكا Pieterjan Gijs و Arnout Van Vaerenbergh. حيث دأب المعماريان منذ عام 2007، على تنفيذ مشاريع في الأماكن والفراغات العامة انطلاقاً من خلفيتهم المعمارية ولم يركزوا على النواحي المعمارية والتخطيطية الصرفة بل عملوا على عكس صورة فنية أيضاً في مشاريعهم بذات الوقت. حيث لم تكن مشاريعهم منطلقةً دائماً من الرغبات والحلول التقليدية التي يرشحها الزبون. فكانت النتائج والتصاميم النهائية تشمل الكثير من الحكم الذاتي على الوضع العام للمشروع وإيجاد الحلول لها بما يتوافق مع ذلك عن طريق استخدام أفكار إبداعية. فقد كانت اهتماماتهم الرئيسية هي التجربة، الانعكاس، بالإضافة إلى الاستعمالات والمداخلات للعناصر المادية المكونة للمبنى مع النتائج النهائية، بالإضافة إلى الأخذ بآراء المشاهدين ومستعملي الفراغ.

هذا المشروع هو جزء من مسار فني يدعى Pit، ساهم فيه عشرُ فنانين بأعمال مختلفة ضمن منطقة تدعى Borgloon-Heers

حيث يشكل Pit الجزء الأول من معرض يدعى مشروع Z-Out، الذي هو عبارة عن مبادرة يعرّف خلالها متحف الفن المعاصر Z33 لمدينة Hasselt، الفن على الفضاءات والفراغات العمرانية في المدينة.

كشف تصميم Gijs Van Vaerenbergh عن منطقة مبنية ضمن منطقةٍ طبيعيةٍ ريفيةٍ، تحددها مجموعةٌ من الطرقِ المبنيةِ حول كنيسةٍ محليةٍ. تتألف هذه الكنيسة من 30 طنٍ من الفولاذ و2000 عمود، مبنيةٌ على قاعدةٍ من الخرسانةِ المسلحةِ.

دفعت الفكرة التصميمية الكنيسة بعيداً عن الأفكار التقليدية من خلال استخدامِ لوحاتٍ أفقيةٍ، محولةً الكنيسة بذلك إلى قطعةٍ فنيةٍ شفافةٍ ومرئيةٍ بوضوح.

حسب زاوية نظر المشاهد، يمكن أن يُرى البناء ككتلةٍ ضخمةٍ ثابتةٍ أو ككتلةٍ متلاشيةٍ (مكتملةٍ أو متجزئةٍ) ضمن الطبيعةِ المحيطةِ بها. وهكذا تصبح الكنيسة بكتلتها المبنية من جهة والطبيعة المحيطة بها من جهة ثانية عناصر رئيسية مكوّنة للمشروع. لا يغني أحدهما عن الآخر. بتعبيرٍ آخرٍ، ووفقَ ما نصّ عنوانُ المقال يجب علينا قراءة الأسطر وما بينها لاستيعاب الفراغ المعماري، فتجعل عناصر الكنيسة المادية بذلك الواقع الطبيعي المحيط محسوساً وقابلاً للإدراكِ وذلك الأمر بالعكس.

يمكن قِراءةُ المشروعِ بطريقةٍ معماريةٍ بحتةٍ، بالتركيز على كافة الجوانبِ المعتادةِ كالمساقطِ وحلّها الوظيفي والمقاييس ودراسةُ الواجهاتِ ...إلخ، ولكنَّ هذا المشروعُ يتجاوزُ بنفسِ الوقتِ كافةَ المحدداتِ المعماريةِ الصارمةِ المُتَبَعةِ بشكلٍ كبيرٍ.

فليسَ مطلوبٌ من هذهِ الكنيسةِ ممارسةَ الوظيفةِ المحددةِ المعتادةِ بل مهمتها التركيزُ على التجربةِ المرئيةِ وارتباطُ العمارةِ بالوسطِ المحيطِ والتحامها معهُ حتى يصبحان واحداً، وبذلك يُمكنُ اعتبارها مُحاولةً لرسمِ خَطٍ في الفراغِ.

يُؤكدُ البناءُ على أن هذهِ التجربةَ والنتيجةَ كانا مُحاولةً لإيجادِ منطقٍ تصميميّ جديدٍ ورؤيةٍ معماريةٍ معاصرةٍ. منطقٌ يشيرُ صراحةً إلى مراحلٍ مختلفةٍ في التصميمِ، فِكرتُها الأساسية هي الرسم والتشكيل. وبذلك تكون الكتلة –الكنيسة في مقالنا- انعكاساً للتراثِ الذي يجب أن يَصيغهُ المبنى بكافةِ فراغاته وأبعادهِ، كما جاء بنفس الوقت مثالاً حياً عن إعادةِ استخدامه كمجسمٍ فنيّ مُحتملٍ. هذا الاندماج يتم عن طريقِ توحيدِ كلِ الطبقاتِ المعماريةِ الواحدةِ وُفقَ عملٍ فنيّ واحدٍ مفتوحٍ لأكثر من قراءةٍ واحدةٍ، مُنتقلاً بذلك من عمارةٍ صارمةٍ تقليديةٍ إلى أُخرى فنيةٍ حيويةٍ. فكان المشروع عبارةً عن تداخلٍ مكاني يصل بسهولةٍ أفكاراً أُخرى مختلفة عن المعتاد، فيمكن بذلك تشبيهه براكبِ الدراجةِ الذي يُسافرُ في الماضي عبرَ رحلةٍ مرئيةٍ غَيرُ مسبوقةٍ.

زيارةُ مِثلَ هذا المكانِ هو تجربةٌ جديدةٌ مليئةٌ بالأفكارِ، كما أنها مصدرٌ تعليميٌّ مهمٌ، يتعرفُ الناس خِلالَهُ على نوعٍ جديدٍ منَ العمارةِ. يستطيعون معها اختيارَ القصةِ والحبكةِ والنهايةِ، تماماً كما يَحدثُ في عالمِ الكتبِ والرواياتِ، فيرسموا بذلك عالماً ورؤى تَخُصهم وحدَهم.


المصدر:

هنا