كتاب > الكتب الأدبية والفكرية

كتاب "فلسفة الفن"..رسائل من روما، حينما أثار الفن فضولي

قبل بضعة سنين، كنتُ زائرًا غير مرغوبٍ به لأحد المعارض الفنيّة، وأقول هذا لأن كواكبًا وأقمارًا كانت تفصلِ بيني وبين الفن، وما إن بدأت تتهادى على مسامعي نقاشاتٍ حادّةٍ حول مضمون و نوع هذا العمل الفنّي أو ذاك، حتّى تأكدّت أنني في المكان الخطأ، وغيرَ قادرٍٍ على فهم ما يجري، فتحرّك داخلي فضولٌ للبحث في هذا المجال. وكان الفيلسوف الإيطالي بنديتو كروتشه (1866-1956)، صاحب مذهب "فلسفة الرّوح" وكتابه هذا، خير من تولّى هذه المهمّة. "ما هو الفن؟" سؤالٌ يمكن أن نجيب عنه مازحين، وقد لا تكون المزحه سخيفة، الفن يعرف الناس جميعًا ما هو.

وُلِد هذا الكتاب من رحم الصّدفة الأكاديميّة، فقد دُعيَ بنديتو كروتشه لإلقاء محاضرة حول فلسفة الفن، بمناسبة افتتاح جامعة Rice Institute عام 1912، إلّا أن انشغال كروتشيه في رحلته إلى خليج المكسيك، دعاه للإعتذار عن الحضور، على أن يرسل للجامعة مسودّة المحاضرةِ، لتُترجم وتُنشر في هذه المناسبة، وتلك الأوراق هي التي بين أيدينا الآن على شكل كتاب، وسنعرّفكم بهِ في هذا المقال.

يستهلّ بينديتو كروتشه كتابه في توضيح التمايزات بين المذاهب التي عرّفت الفن وفلسفته، خصوصًا بين ما هو رأيٌ فلسفي وبين ما هو رأيٌ عام، متقصّيًا من ذلك بناءَ تسلسلٍٍ منطقيّ للقارئ عند انتقاله للفصول التالية. كما حاوَل الرّبط بين ما يقدّمه الفنّان "الصّورة والخيال" وبين ما يتلقّاه متذوّق الفن " النّظر من النافذة التي هُيّئَت لهُ"، وقد اتّبع الكاتب منهجيّة تعتمد على شرح وتبسيط المفاهيم وتحليلها ونقدها، قبل أن يشرع في تتّبع تاريخها وأعلامها، ثم العودة لتعريف الفن بناءً على نظريته في فلسفة الرّوح. وسنتعرّف كذلك على المذهب المادّي ومذهب اللذة والمذهب الأخلاقي في فلسفة الفن، ونقاط القصور في كل منها، بكل موضوعيّة ودون الاستخفاف بدور من أسّسوا لها. ثم ينتقل المؤلّف لاستعراض أهم التمايزات التي قسمت فلاسفة الفن بين مهتمٍ في المضمون وآخر جلَّ تركيزه على الصّورة، وكيف نشأت المدارس تبعًا لهذا الإختلاف، وعن ارتباطها الوثيق بنظريّات اللذة والأخلاق والمادّية، فيقول: "وهكذا يرى أتباع المضمون أن الفن هو العنصر الصّوري المجرّد، ويرى الآخرون أن الفن هو العنصر المجرّد من المضمون".

وسنتعرّف على مفهوم "الإنتقائيّة"، إضافة إلى التفريق بين ما هو فنّيِِ وما هو جميل. وتطرّق كروتشيه إلى ما اعتبره "خطأً جسيمًا" والذي تمثّل بظهور نظريّة الأنواع الأدبية والفنيّة، ونظريّة الفنون، وقد استندت هذه النظريّات على قياس أثر الفن نسبةّ إلى نوعه الخاص (شعر، تصوير، نحت، عمارة ..الخ) بدلًا من إبراز جمال العمل نفسه وأثره الفني.

ينتقل بنا كروتشه لاحقًا إلى إبراز مكانة الفن في الفكر والمجتمع الإنساني عبر العصور، وعن الخلاف الذي ظهر بين المدارس الفنيّة في العصر الرومانسي فيما إذا كان للفن استقلاليّته، وكيف أخذ هذا الإنقسام شكل التساؤل التالي: "هل الفن للفن أم أنه للحياة؟"، وارتباط البحث في وجود الفن أصلًا من عدمه، واستخدم الكاتب إسقاطات لهذه الأفكار على آراء وأعمال فنّاني وأدباء إيطاليا، من أمثال دانتي أليغري وأوغلو فوسكولو، ليتمكّن من خلالها من تبسيط المفاهيم وتقريبها إلى حد معقول.

يناقش الكتاب أيضًا الفرق بين الإدراك والصورة، والجدل الذي دار بين المذاهب الفنيّة حول هذين المفهومين، إضافة إلى وحدة الفن والفلسفة، وتجد هذا الموضوع في عدّة مواضع من الكتاب فيقول: "إن الفلسفة تزول من تلقاء نفسها بدون الفن، إذ يعوزها عندئذٍ الشّرط الذي يحدد مواضيعها".

ويهاجم الكاتب النقّاد الفنيين، الذي يريدون ممارسة دور الأنبياء في التّوجيه والتّشريع للفنانّين، ويريدون فنّاً مشابهًا لما قد نجده سابقاً، أو يطلبون من فنّان أن يكون مثل فنّانٍ آخر، فيصفهم بينديتو كروتشه بقوله: "إن هؤلاء النقّاد ليسوا نقّادًا بقدر ما هم فنّانون، إنّهم فنّانون خائبون، يميلون برغباتهم نحو صورة من الفن لم يستطيعوا أن يبلغوها"، وفي مكان آخر يقول "إن النّقد إذا اعتبرناه قاضيًا، إنّما يحكم بالإعدام على الأموات، إنّه يقوم بعمل لا جدوى فيه"، ويستدل مرّة أخرى بأعمال دانتي أليغيري ومايكل أنجلو، حيث يتساءل فيما إذا كان هؤلاء النقّاد هم من جعلوهم عظماء أم القرّاء أنفسهم. ولم ينتهي دور كروتشه في هذا الجانب عند إتّهام النقّاد، بل قدّم شرحًا أيضًا عن مفهوم النقد ومدارسه وأنواعه، والشّروط الواجب توفرها فيه حتى يكون نقدًا مقبولًا، والفرق بين النّقد الذي يحترم الفلسفة والنّقد الفنّي الزائف.

يقودكَ كروتشه في التاريخ رجوعًا ،ليتتبّع تطوّر فلسفة الفن، إنطلاقًا من الحضارة اليونانية ووصولًا إلى القرن العشرين، مرورًا بالفترة الذهبية لتطوّر هذا المفهوم، وهي الفترة الممتدة بين القرنين السادس عشر والسابع عشر، وظهور مفاهيم الموهبة والتذوّق، واشتعال النقاش البنّاء حول محدودية وخصوصيّة الفنون، إضافةً إلى مسألة نسبيّة الجمال.

وفي الفصل الأخير من كتابه، يُحلِل المؤلّف مفهوم "طابع الكليّة" ونقاط قصورها في تقييم العمل الفنّي، وكيف قرّبت الفن للدين والفلسفة على حساب العنصر الأصيل في الفن، ثم يُعاود التطرّق لدور الحدس في الفن حيث يقول : "إنَّ الفن حدسٌ محض، ليس حدسًا عقليًا كما زعم الفيلسوف الألماني شيلنج، وليس حدسًا منطقيًا كما رأى هيجل، بل هو صورة المعرفة في فجرها، الصّورة الأولى التي لا نستطيع بدونها أن نفهم الصورة التاليّة المعقّدة". وبهذا التعريف فإن كروتشه يُنكر على الفن عددٌ من الصّفات مثل القياس والمنفعة والأخلاقيّة، كما سيتّضح في الكتاب.

بعد قراءة هذا الكتاب فإنّ الكثير من المفاهيم التي كانت تٌعتبر، بالنّسبة لمن هم خارج دائرة الفن، بمثابة رموز معقّدة ستصبح أكثر وضوحًا، كما ستتكون عند القارئ نظرة عامّة في مجال الفن والنقد، وتطوّر فلسفة الفن ومدارسها ومذاهبها، وسيكون حضورك لأمسيةٍ شعريّةٍ أو معرضٍٍ تشكيليّ معنى آخر ومتعة حقيقيّة.

كروتشه قد قدّم بالفعل محاضرةً شيّقة عن أساسيّات فلسفة الفن، للمختصين أم للقارئ العادي على حدٍّ سواء، مثلي أنا، عندما كنتُ زائرًا متطفّلًا ذاتَ أمسية.

*مصادر إضافية : بنديتو كروتشه- الفن حدس ورؤيا،محيي عيدان، جريدة الإتحاد