الكيمياء والصيدلة > صيدلة

تحولُّ العلاج الوهمي إلى حقيقي

- تبحث عن أناسٍ يعانون من بعض الآلام، فتطلب منهم المشاركةَ بإحدى الدراسات التي ستساعدهم ربما في تخفيف آلامهم.

- تعترف إليهم أن حالتهم المرضيةَ صعبةٌ جداً وأنك لن تستطيع أن تقدّم لهم أي المساعدة، فتقدّم لهم بعض الحبوبِ والأدويةِ المسكنة وتوهمهم بأنها أدوية فعالة في حالتهم!

وأخيراً تعترفُ لهم بحقيقةِ ما فعلت.

إنها حقاً ليست بفكرةٍ جيدةٍ ومن المستحيل أن تكون فعالةً، لكن ماذا لوكانت غير ذلك !

الغريبُ والمفاجئُ في هذه التجربةِ هو كونُها فعّالةً حقّاً لعددٍ كبيرٍ من المشاركين فعلى الرغم من معرفتِهم بأنّ العلاجَ بهذه الحبوبِ الوهميةِ غيرُ مجدٍ إلّا أنّهم لا يتوقفون مع ذلك لا يمانعونَ الشعورَ بالارتياحِ للعلاج.

يقوم حالياً مجموعةٌ من الباحثون في جامعتي ألاباما UAB وجامعةِ هارفرد بإجراءِ هذه التجارب على فئةٍ جديدة من المرضى المعافين من السرطان من الرجالِ والنساء الذين يعانون غالباً من تعبٍ وألمٍ شديدٍ في السنوات التاليةِ لأخذِ العلاج فكلُّ ما يحتاجونَه ربما في هذه المرحلةِ هوعلاجٌ مهدئٌ قويٌّ كالعلاجِ الوهمي.

وعلى ما يبدو فإن هذه الطريقةَ تملكُ خصائصَ استثنائيةً "فحوالي 30 إلى 50 بالمئة من التجارب السريريةِ أظهرت أنّ هذه المعالجاتِ الوهميةِ لديها نفسَ تأثيرِ وقوةِ الأدويةِ والعقاقيرِ المدروسة" وفقاً للدكتور تيري هوينماير Teri Hoenemeyer وهوطالب دكتوراه في جامعة ألاباما UAB يدرسُ تأثيرَ العلاجِ الوهمي على المرضى المعافين من السرطان.

يتفقُ الباحثونَ في مثل هذه الحالات على افتراضِ أنّ الدواءَ المدروسَ بلا فائدةٍ ولكن هنالك آخرون يمتلكون دليلاً مقنعاً على أن ما يحدث في هذه الحالةِ أعمقُ وأعقدُ من ذلك.

- العلاج الوهمي تحت المجهر

لقد بذلَ كلٌّ من Ted Kaptchuk تيد كابشاك (مديرُ برنامجِ دراساتِ العلاج الوهمي والمهدئات في جامعة هارفارد) وأساتذةُ الطبِّ في كلية الطب بجامعة هارفارد مجهوداً كبيراً للكشف عن قوةِ وقدرة الدواءِ الوهمي والمهدئات، إذ أثارت دراسة Kaptchuk المدهشةُ انتباهَ واهتمامَ المجتمع الوطني وتم عرضُها والحديثُ عنها مطوّلاً ضمن مجلة نيويورك، ونُشِر في عام 2010 في مجلة PLOS ONE تجربتُه الشهيرةُ التي شارك بها 80 مريضاً يعانون من متلازمة القولون العصبي والذين يعانون من آلامٍ شديدةٍ لا يمكنُ السيطرةُ عليها في ظلِّ المعالجاتِ المتاحة القليلة التي لا ينجحُ تأثيرُها إلّا على نسبةٍ قليلةٍ تكون بحدودِ الـ 15% من المرضى في أمريكا .

مجموعةٌ من المرضى المشاركين لم يتلقوا أيّ علاجٍ بينما تلّقت مجموعةٌ أخرى أقراصاً غيرَ فعّالةٍ وقد تمّ إخبارُهم بعدمِ فاعليتها مسبقاً، كذلك أوضح الباحثون أن المرضى غالباً ما يمكنهم الاستفادةُ من تلك المعالجاتِ الوهميةِ المهدئة. فكانت المفاجأةُ عندما لاحظ الجميعُ تحسنّاً مضاعفاً لمن تلقّى العلاج الوهمي عمّن لم يتلقّى أي علاجٍ.

لاقت هذه النتائجُ تغطيةً إعلاميةً واسعةً، فقد صرّح أحدُ المشاركين خلال مقابلةٍ تلفزيونيةٍ أنّه تخلّص من أعراض المرض (تشنجات، وتطبل، وإسهال) وقال Kaptchuk أنّ بعضَ المشاركين قد عاد وطلب مزيداً من هذه الأقراص الوهمية المُعالجة.

كما قام Kaptchuk أيضاً بدراساتٍ مشابهةٍ على حالاتٍ مرضيةٍ أخرى مثل الاكتئاب والشقيقة، وفي كافة الحالاتِ المدروسةِ كانت الفائدةُ واضحةً وذاتَ أهميةٍ، كما كان هناك خطّةٌ ايضاً للقيام بتجاربٍ مماثلةٍ للتجارب السابقة لاختبار تأثيرِ العلاجاتِ الوهمية على إنقاصِ الوزن ولكن لم يتمَّ الحصولُ على التمويل الكافي للقيام بذلك.

وتأمّل Hoenemeyer هوينماير هذا الصيف بتسجيلِ مرضى وإشراكِهم بدراسةٍ أوليةٍ حولَ تأثير العلاج الوهمي على مرضى السرطان، ويمكنُ أن تستمرَّ هذه الدراسةُ لسبعة أسابيعٍ يشاركُ فيها المرضى المعافون من السرطان والذين أتمّوا ستةَّ أشهرٍ على الأقل من العلاج ولا يزالوا يعانون من بعض التعبِ المرضيّ المتعلق بالسرطان، إذ تتمُّ مراقبتُهم لمعرفةِ فيما إذا كان من الممكن إحداثُ أيّ تأثيرٍ في التخفيفِ من حدةِ تلك الأعراض .

وذلك من خلالِ تقسيمِ المشاركين إلى مجموعتين: ستتلقى المجموعةُ الأولى في أوّلِ أسبوعين أقراصاً وهميةً بينما الثانيةُ ستكون بمثابةِ مجموعةِ ضبطٍ من أجلِ المقارنة وبعد فترةٍ من زمن التجربة يتم التبادلُ بين المجموعتين، هذا الزمنُ كافٍ لتخليص أجسامِ مشاركي المجموعة الأولى من تأثير الأدويةِ الوهمية التي يحتاجُ الجسمُ فترةً للتخلص منها كما باقي الأدوية الفعالة وهذا ما يبدو غريباً حقاً .

خلالَ ذلك سيراقب الباحثون الاختلافاتِ التي ظهرت بين المجموعتين عن طريقِ جمعِ عيناتٍ لعابيةٍ لجميعِ المشاركين وتحليلها بحثاً عن أدلّةٍ لوجود واسماتٍ حيويةٍ جينيةٍ قابلةٍ للاستجابة والتي يمكنُ أن تتواجد، فقد أظهرت دراسةٌ سابقةٌ أجراها أحدُ طلاب Kaptchuk في هارفرد دليلاً مبدئياً يوحي بوجود استعدادٍ جينيٍّ لدى المرضى الذين استجابوا بشكلٍ جيدٍ للعلاجات الوهمية. مثلُ هذه الواسمات الحيويةِ ستكونُ هامةً جداً بالنسبة لشركات الأدوية حيث يمكن استخدامُها بشكلٍ جيدٍ على بعض المرضى المستجيبين وبغضِّ النظرِ عما هو العلاج بالضبط .

ولكنَّ السؤالَ الاهمَّ الآن هو كيفَ تؤثرُ مثلُ تلكَ الأقراص الخاليةُ من الموادِ الفعّالة في الجسم؟

ما زال البحثُ مستمراً إلى الآن ويحتملُ اجاباتٍ ونظرياتٍ مختلفةً، حيث يعتقد Kaptchuk والباحثونَ الآخرون أنّ هناك تكيّفاً وتعوّداً تقليدياً يحدث في مثل هذه الحالات خلال فترةِ حياةِ المريض، إذ يقومُ بالعادةِ بأخذ الدواء ومن ثم سيظهرُ تأثيرُه لاحقاً: فحين تتناولُ الأسبرين مثلاً تلاحظ أن صداع رأسك قد زال بعد تناولِه فهنالك ترابطٌ عقليٌّ بين ما تناولت من دواءٍ وبين تأثيره على ألمك، فعمليةُ تناولِ الدواءِ بحدِّ ذاتِها لها تأثيرٌ مهمٌّ وواضحٌ..

ومن الجدير بالذّكر أنّه لم يكن للعلاجِ الدوائي الفعّالِ أيُّ وجودٍ حتى القرن السابق لذلك فكان على الطبيب أو المعالج قديماً أن يكون قادراً على التأثير في المريض لتغييرِ توقعاتِه بالشفاء من المرض وتحسُّنِ حالِه للأفضل ولم يكن لديه شيءٌ يقدمُّه له أكثر من ذلك حينها.

إذاً فهذه الطريقةُ والحالات التي أظهرتها التجاربُ والدراساتُ تفسّر سببَ فاعليةِ تلك الاقراصِ الوهميةِ المعالِجةِ للمرضى، فعندما يتمُّ تناقُل نتائجُ هذه الدراساتِ والتحدّثُ عنها بين الناس فإنّ ذلك يزيد من ثقة المريض بفاعلية تلك الأقراص وتأثيرِها الجيد في حالته، وهذا ما يحدثُ حقاً عند زيارتِك للطبيب أثناءَ مرضِك لإجراءِ الفحص الطبي، فعندما ينتهي الطبيب من الفحصِ ويبدأُ بكتابةِ وصفةِ الدواء فإن المريضَ يكونُ على ثقةٍ بأن ما وصفه الطبيب سيساعدُه على الشفاء.

هنالك فكرةٌ اخرى أيضاً تدعم تلك الدراسات وهي تقنيةُ وآليةُ اللاوعي فإذا ذهبتَ لمشاهدةِ فيلمِ رعبٍ مثلاً فأنت تعلمُ مسبقاً أنّه مجردُ فيلمٍ خياليٍّ وغيرُ حقيقيٍّ ومع ذلك فأنت تستجيبُ لمجرياتِه أثناءَ المشاهدة وهذا ما يحدث عند استجابتِك لتلكَ العلاجاتِ الوهمية اذ تشاركُ مخيّلتكَ في تحفيز الاستجابةِ العلاجية.

ومن المثير للاهتمامِ أيضاً أنّ مرضى الزهايمر ليس لديهم أيُّ استجابةٍ للعلاجِ الوهمي والسببُ في ذلك هو تلفُ قشرةُ الفصِّ الجبهيِّ في الدماغ حيث أنّه لا يمكنُها ادراكُ فائدةِ العلاج قبل البدءِ بتناوله .

يبدو إذاً أنّ أهميةَ العلاجاتِ الوهميةِ وتأثيرَها على صحة الإنسان أكبرُ مما نتصور، لذلك فمن المتوقع أنّها ستصبح على قدرٍ من الأهميةِ وستدخل ضمنَ المجالاتِ الرئيسية في الطب، لذلك فيمكنُ لمثلِ هذه الدراسات أن تعمّق فهمَنا لمدى تأثيرِ العلاج الوهمي.

المصدر :

هنا