الفنون البصرية > زيارة إلى متحف الفن

زيارة إلى متحف اللوفر، نصبُ شريعةِ حَمّورابي

يمكنكم الاستماع للمقال عوضاً عن القراءة

في الطّابقِ الأرضيّ لمَتحفِ اللّوفر، غرفة رقم 3، نقفُ أمامَ أهمِّ وأكثرِ القطعِ الأثريّةِ جمالاً. حيث يُعتبر هذا النصبُ قطعةً فنيةً وتاريخيّةً وأدبيَّة تضمُّ خُلاصةً وافيةً لقوانينَ وأحكامٍ سادت يوماً في العصورِ القديمةِ تعودُ إلى ما قبلِ أحكامِ التَّوراة.

شَيَّدَ حمّورابي مَلِكُ بابلَ (1750-1792 قبل الميلاد) هذا النَّصبَ في مدينةِ سيبار على الأغلب. مدينةُ إلهِ الشّمسِ والعدالةِ شَمّشْ. يبلُغُ طولُ النّصبِ 225 سم وعرضُهُ 70 سم وتبلغ سماكتهُ 47 سم.

حُفرت شريعةُ حمّورابي على حجرٍ من البازلتِ الأسودِ ونُقشتْ في أعلى الحَجَرِ لوحةٌ تعبيريّةٌ حُفرتْ بدقَّةٍ وإتقانٍ مبرزةً شخصيّاتِ وعناصرِ اللّوحةِ إلى الخارج.

إنّ سبَبَ إنشاءِ هذا النّصبِ هو كتابةُ الشريعةِ وتَوثيقَها. فحُفِرتْ بِكِتاباتٍ مسماريَّةٍ باللّغةِ الأكاديَّةِ حيثُ كانت اللُّغةَ المحكيّةَ في عهدِ المَلِكِ حمّورابي، إذ أنّ للنصِّ أهميّةٌ كبيرةٌ كمصدرٍ للتعرّفِ على صفاتِ المُجتمعِ والدّينِ و الزّراعةِ و الإقتصادِ و تاريخِ المَنطقةِ في تلك الفترة.

يبدأُ النّصُّ تحتَ عرشِ إلهِ الشَّمسِ والعدالةِ شَمَّشْ المُبيَّنِ في الرّسمِ أعلى الحجر. تَطغى على الكتابةِ واللّغةِ صفةُ الرّقيّ والكمالِ كتلكَ المُستخدمةِ عندَ التّحدث إلى الإله ويبدأُ النّص بمقدمةٍ كُتبت بنمطٍ غنائيٍّ وكذلك يُختَتَم. بينما تُقدّمُ القراراتُ القانونيّةُ بلغةٍ أسهلَ لا تحوي العديدَ من الرّموزِ والإشاراتِ فالملكُ أرادَ أن يفهمَ النّصَّ عامّةُ الشَّعبِ و كافةُ مكوّناتِ المُجتمع. كُتِبتْ جميعُ القوانينِ بجملٍ شرطيّةٍ تقدّمُ الحالةَ وعواقِبَها كالقولِ :" إذا ما فعلَ أحدهُم كَذا، كَذا حَصلَ لَه". كما كان للقوانينِ المتعلّقة بالزّراعة الحصّةُ الأكبر.

حُفِرَ مشهدٌ تَصويريٌّ للّقاءِ بينَ الإلهِ شَمَّشْ والملكِ حمّورابي ممّا يمنحُ شرعيةً لسِيادةِ حمّورابي وبالتّالي لشريعَتِه.

يَظهرُ شَمَّشْ جالساً على عرشِه كحاكمٍ للسماءِ والأرض. ويقدّمُ بيدِهِ اليُمنى رمزَ السّيادة المَلَكيَّةِ ألا وهو الصّولجانُ والحلقةُ اللذانِ يظهران في مركزِ المشهد. يظهرُ خلفهُ شعاعانِ من النّورِ لأنهُ إله الشّمس. تصنعُ أشعته هذه ظلالاً و تَطمُسُها كرمزٍ لكونِهِ إله العدالة. يضعُ تاجاً مكوناً من أربعِ طبقاتٍ كإشارةٍ للآلهة العظماء في بلادِ ما بين النّهرين. يضعُ الإلهُ شَمّشْ قدميهِ على سطحٍ يرمزُ إلى الجبال في شرقي بلاد ما بين النهرين حيثُ يظهرُ شَمّشْ كلّ يوم.

يقفُ الملكُ حمّورابي أمامَ الإلهِ و يظهرُ أصغرَ حجماً للإشارة إلى عظمةِ الإله شَمّش. رافعاً يدهُ اليمنى إجلالاً لحَضْرَةِ الإله.

تعودُ أهميّة هذا النّصب ليس فقط إلى كونِه مرجِعاً ثقافيّاً و قانونيّاً في تلكَ الحقبةِ الزّمنيّةِ فبالإضافةٍ إلى ذلك يحوي معلوماتٍ قيّمةٍ عنِ البلدات و المناطقِ التي كانتْ تابعةً لمملكةِ بابل، كما ويشكّل ملخّصاً لأكثرِ العهودِ رقيّاً. أُنشِأ الصّرح في السّنواتِ الأخيرةِ في حياةِ حمّورابي وكانَ كتوصيةِ للأمراءِ القادمين من بعده حيث قدّم لهم أنموذجاً للحكمةِ والمساواة، كما ودُرِّسَ في المدارسِ كنصًّ أدبيًّ ونُسَخِ لأكثرَ من ألفِ عام.

في القرنِ الثّاني عشر قبل الميلادِ نَقَلَ أميرُ بَلَدٍ مجاورٍ لإيلام (في إيران اليوم) النّصبَ ليُعرَضَ في مدينةِ شوشان عاصمة إيلام آنذاك مع تُحفٍ ثمينة أُخرى مأخوذةٍ من بلادِ ما بين النّهرين.

تُعدّ هذهِ التّحفةُ الأثريّةُ شاهداً آخر على حضارةِ بلادِ ما بين النهرين ومصدراً موثّقاً يُبرِزُ سماتِ المُجتمعِ في تلك الحقبةِ بالإضافةِ إلى لمحةٍ عن مكوّناتِ مملكةِ بابل ومناطقِ انتشارها. يحافظُ هذا النّصبُ على قيمتِه كرمزٍ ثقافيّ أدبي وحضاريّ حتّى بعدَ آلافِ السّنين. ليقفُ شامخاً في غرفةٍ في متحفِ اللّوفر كتحفةٍ فخريّة راقية.

المصادر:

هنا

هنا