العمارة والتشييد > العمارة والسينما

Hitchcock رمز عمارة التشويق

لطالما ارتبطت العمارة بالسينما كونها تشكِّلُ الأرضية التي يقوم عليها المشهد المُصَوَّر خارجياً كان أم داخلياً. لكنَّ دور العمارة لا يقتصِرُ على ذلك، بل يتعدَّاهُ في كثيرٍ من الأحيان ليغدو أحد عناصر الحبكة والأداة التي تتحكَّمُ في تسريع وتيرة الأحداث أو إبطائها.

تقوم جامعة UIC في برشلونة منذ عام 2007 بتحليل الأعمال السينمائية للمخرج Hitchcock من وجهة نظر معمارية. حيث يعتمد مدرِّسا المادة Alfons Puigarnau و Ignacio Infiestaأثناء شرح مقررهما على مفهوم الفراغ وتأثيره في المشهد وعلى دراسة الاستراتيجيات البصرية وعلاقتها مع النص والموسيقى التصويريَّة لخلق بيئة مشوقة.

فبينما تنقسم المواد التي تُدَرَّس في كليات الهندسة المعمارية حول العالم إلى نوعين: مواد تقدِّم مقاربة تقنية وعملية للمهنة وأخرى تركِّز على الشق النظري، دأبت جامعة UIC على تطعيم جميع المواد التي تندرج تحت القسم الفكري بمنهاج عملي يساعد الطلاب على تطبيق الشق النظري بشكل فعَّال في العمليَّة التصميميَّة.

تنقسم المادة المُعطاة الى شقَّين متكاملين، حيث يقوم بروفيسور تاريخ ونظريات الفنون Alfons Puigarnau بإلقاء عدد من المحاضرات المتعلقة بالشق الأول، مهمتها الكشف عن مجموعة من استراتيجيات التصميم عبر تحليل التكوينات والعناصر التي كوَّنها وأنشأها المخرج Hitchcock. بينما يقوم المعماري Ignacio Infiesta بنفس الوقت بتطوير القسم العملي من المادة الذي يرتكز على مجموعة من العروض التقديمية التي توضِّح فكرة تجسيد التشويق ضمن الفراغات المعمارية.

يعد مفهوم "ربط الفراغ بالتشويق" أحد أكثر الجوانب السينمائية ضلوعاً في العمارة لما له من دورٍ في خلق فراغاتٍ مشحونة عاطفياً. حيث استخدم المبدع Hitchcock العمارة كأداة يُظهِر من خلالها المحتوى النفسي ومجالاً لتقديم الحركة الدرامية للفيلم. تخضع الأفلام في المادة لتحليل عميق بهدف مساعدة الطلاب على تطوير فكر معماري قادر على توظيف استراتيجيات التشويق في نتاجهم المعماري.

يعتبر التشويق أداة قوية وفعّالة لأسر انتباه المشاهد، ويتحقق ذلك إما أن تكون بشِقِّها "التِّقَني" كوقفة متعمَّدة بين الإثارة والنتيجة أو بشقِّها "النَّفسي" حيث تتغلَّب عقليَّة المشاهد على حقيقة العمل المصوَّر. لهذا يجب على كل التصميمات المعماريَّة الجيِّدة كأفلام Hitchcock على سبيل المثال أن تطوِّر فكرة وحيدة تكتمل جوانبها في اللحظة التي يصل فيها الحماس الى ذروته الدراميَّة. فالشيء المشترك بين السينما والعمارة هي تلك القدرة الكبيرة على توليد هذه المشاعر القويَّة والمختلطة عند المشاهد. سنستعرض في هذا المقال مجموعة من أفلام المبدع Hitchcock وتحليل ارتباطها بالعمارة:

فيلم Psycho: الستائر كعنصر تشويق

نلاحظ في هذا الفيلم الذي طرح عام 1960 واحدة من أكثر الطرق تكراراً في أعمال Hitchcock والمستخدمة لخلق جو من التشويق وهي ما يطلق عليها voyeurism أي التلصص أو "أن تَرَى دون أن تُرَى". فالمشهد الذي يتلصص فيه Norman Bates على Marion Crane من خلال فتحة الجدار التي تفصل بين مكتبه وغرفتها ما زال محفوراً في عقول الكثيرين. فإن فكرة أن تُأسَر بلحظة دون معرفة الشخص الآخر بالإضافة إلى الشخصيَّة المزدوجة لـ Norman، كشغفه بتحنيط الحيوانات تجعلنا نفكر بإمكانية اعتبار الستائر عنصراً معمارياً مجسِّداً للالتباس بين حالة عقلية وأُخرى، وبين اتحاد الجلد والعظم كما في التحنيط. أما التلصص بشكله المعماري يمكننا ملاحظته عبر سيادة الرمزية التي يقدِّمها المنزل ذي الطراز الفيكتوري على الوظيفية المتعمَّدة لمبنى الفندق Bates Motel.

الستائر هي رمز للفصل بين مكانين. وفي الوقت ذاته تعتبر رمز للتشويق، فهي دائماً على الحد بين نصفين: الداخل والخارج. مثل الحيوانات المحنَّطة المعبرة عن شخصية Norman Bate. لابد من الاشارة أيضاً إلى الموسيقى التصويريَّة المؤلفة من قبل Bernard Hermann الذي اعتمد على استخدام الآلات الوترية، ليُظهِر لنا إمكانية خلق مشهد تشويق باستخدام الصوت فقط.

فيلم THE ROPE: التصميم كالجريمة.

الجريمة أنقى أشكال الفن. هكذا تناقش شخصيات Brandon و Philipمقتل David. فعملية التحضير والتجهيز للمشهد تساعدنا أيضاً على فهم الفراغ المعماري، فللجريمة القدرة على تسريع الفراغ بشكل دراماتيكي بحثاً عن النهاية.

فيلم THE ROPE هو أول فيلم للمخرج Hitchcock مصوَّر بتقنية الألوان، عبر مستخلصٍ لونّيٍ يُبرِزُ بدايةً الألوان البالستية ويمتص الألوان الباردة بالتوازي مع سعي المخرج وراء التفاصيل الدقيقة.

لا يتَّبِع الفيلم الإسلوب السَردي، بل يستمد وجوده من الحياة اليومية. فتطوُّر الأحداث التصاعدي هو الاستراتيجية الرئيسية للفيلم، كما لو أنَّه صُوِّرَ بلقطة واحدة دون أن يتم تعديلها. في حال اعتبرنا الفيلم بمثابة مشروع معماري لاستطعنا فهمه من نظرة واحدة... لقطة واحدة مستمرة. فالوحدة بين الزمان والمكان وحدة مطلقة. هذا ما نستطيع ملاحظته في تغيُّر إضاءَةِ خلفية المشهد الذي يُظهر مدينة نيويورك، فأي شيء يحدث في الفراغ ينعكس على الزمان. يملك فيلم THE ROPE بنية سرديَّة مماثلة لبنية التراجيديا الإغريقية من حيث خيبة الأمل ثم تصاعد الأحداث فالذروة. هذه الوحدة المشهورة في العمل نراها مجسدة بأشعار أرسطو أيضاً.

فيلم VERTIGO: التصميم عبر الانتقال

اعتمد المخرج على ما يسمى بـ شريط موبيوس ""Moebius strip كحافز متكرر. حيث يظهر الرمز الحلزوني ليعزز الحبكة الدرامية في العديد من المشاهد، مثل: مشهد باقة الأزهار، ومشهد الحلقة حول الشجرة، ومشهد التقريب بزاوية 360 درجة على اللعبة أعلى السرير، ومشهد التقريب على كعكة الممثلين Kim Novak وCarlota Valdés. فالغرض الرئيسي لاستخدامه من قبل المخرج هو إضافة رمزية لشعار الحلقة الأبدية من جهة، وللإشارة على القدرة على الانتقال من جانب الى آخر دون عناء أو حاجة للتوقف من جهة أُخرى. وكدليلٍ على ذلك تتحرك شخصية أيضاً بنفس المبدأ Kim Novak، متنقِّلةً بين دورَي Madeleine وJudy Barton.

نستطيع ملاحظة فكرة الانتقال بشكل فعَّال في مهمَّة San Juan، حيث تقوم شخصية Scottie بملاحقة شخصية Madeleine لأعلى برج bell في واحدٍ من أهم مشاهد الفيلم، ليقوم المخرج Hitchcock عمداً باللعب بزوايا التقريب والتبعيد أثناء التصوير للدلالة على الفصل بين عالمي الأموات والأحياء.

يمكن تعريف عناصر الانتقال في العمارة بشكل عام بكونها عبارة عن أشكال ومجسَّمات محدَّدة مسبقاً تفرضها الضرورات التصميمية والفيزيائية لبنية المبنى. كالبهو على شكل مربع في الكنائس القديمة الناتج عن تقاطع ضلعي الصليب المكون لمسقط الكنيسة أو السقف المضلع أو الدائري الذي تنتج عنه القبة. فأهميَّتها تكمُن في كيفية تَغييرها للفراغ الموجودة ضمنه فينتقل بذلك من شكل الى آخر.

فيلم REAR WINDOW: التصميم كالنَّظرة

تظهر الإثارة والتشويق في هذا الفيلم بين من يُراقِب والأشياء التي يراقبها. يتعمَّد المخرج Hitchcock لفت انتباهنا وتركيزنا على الأشياء التي نراها كلَ يومٍ، ليقدِّم لنا فيلماً يعتمد على الرؤية والنظر والمراقبة التي تتم عبر فناء إحدى المجمَّعات السكنيَّة.

فالعمارة كالنَّظرة تستطيع أن تُخلِّفَ أعظم انطباعاتها عبر مجموعة من الأجزاء والعناصر، تلك العناصر التي تُحفزُكِ لاستكشاف التصميم عوضاً عن الاكتفاء بمشاهدته. تماماً كما اكتشفوا الجريمة وهم يراقبون عبر النافذة.

إنَّ قدرة Hitchcock على التأثير برؤيتنا للمستقبل والتلاعب بالمستخدمين دون أن يُرَى وانغماسه بالعمارة قبل وأثناء تصميم مكان التصوير هو ما جعلهُ مُحرراً موضوعياً عظيماً. لقد تمكن في هذا الفيلم من تجسيد الرؤية النمطية للمدن الضخمة metropolitan""، التي تتحول فيها وحدها الجريمة إلى عمل فني إبداعي. إن كل شيء ممكن في حياة المدينة اليومية. وعلى هذا الأساس تم تصوير المشاهد ضمن بيئة المدينة الضخمة لتوضيح التناقض بين استحالة الوحدة وحتميتها.

فيلم STRANGERS ON A TRAIN (I): التَّصميم عبر التَّحرير

يُعدُّ هذا الفيلم من الروائع التي أُنتجت أثناء فترة الكساد العظيم في الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك من حيث التصوير بتقنيات الأبيض والأسود، واللَّعب على توزيع الظل والنور، والتَّلاعب بالإنارة. أُنتج الفيلم في عام 1950 وهو مقتبس عن رواية تحمل الاسم ذاته للكاتب Patricia Highsmith. يتألَّف هذا الفيلم من عدد كبير من المقاطع خلافاً لفيلم The Rope مما جعل مهمَّة تجميع وتحرير هذه المقاطع دون المساس بهيكليَّة ووحدة العمل عملاً صعباً للغاية.

هل من الممكن المحافظة على التشويق فقط من خلال التحرير والتعديل؟ هذا ما يثبته لنا الرائع Hitchcock من المشهد الأول للفيلم عندما يتعمَّد تكثيف جرعة الدراما لما يمكن أن يكون حدثاً يومياً عادياً. يصوِّرُ لنا المشهد من خلال لقطة على مستوى الأرض حركتين متعارضتين لرَجُلين مُختلفين يتجوَّلان على متن القطار. لا تبدأ الكاميرا بالصعود حتى تلتقي مصادفة أَرجِلُ الرجلين لتصعد بحركة بانوراميه نستطيع من خلالها رؤية وجه الشخصيَّتين. إنَّ عمارة Enric Miralles مثالٌ على العمل المرتكز على المقاطع والأجزاء، ففيها تظهر الخطوط على الورق لتبدأ بعدها بالتمايل مظهرةً وحدة العمل. إن العمل القائم على الأجزاء والمقاطع يعطيك دائماً الكثير من الاحتمالات لاكتشاف المنظومة، بدءاً من الضوء حتى الوصول للمواد. فالمشروع مقدَّم ليُفهَم على شكل مراحل أو حتى كمشروع لم ينتهي بعد.

فيلم STRANGERS ON A TRAIN (II): التصميم كحقل مغناطيسي

يوجد جانب آخر لهذا الفيلم لا نريد إغفاله، إنّها جاذبية العمارة وعلاقتها المباشرة مع مفهوم التشويق. صُوِّرَ الفيلم بمدينة واشنطن، هذه المدينة المميَّزة بساحاتها ومراكزها. من المميَّز أن نكتشف من خلال الفيلم أن العمارة كان لها السبب الرئيسي في منع المواجهة بين الشخصيتين الرئيسيتين (Guy and Bruno). حيث لعب النُّصب التذكاري دوراً مهمَّاً ليكون المُجهِّز والجاذب الذي يضفي التشويق على كلِّ المشهد، وبذلك تهيمن العمارة في هذه الحالة بصورةٍ مُطلَقةٍ مشابهةً الهيمنة التي يمارسها Bruno على Guy.

مفهوم آخر يتواجد في جميع أفلام Hitchcock هي العلاقة بين المحيط والمركز، والعلاقة بين المقياس الكبير والصَّغير، حيث تأخذ الأشياء الصغيرة دلالات متعدِّدة بعد أن كانت مجهولة في سياقٍ أكبر منها.

فيلم SHADOW OF A DOUBT: التصميم عبر الشك

صُنع هذا الفيلم في عام 1943 باستخدامِ لُغةٍ سينمائيةٍ أكثر بدائيةً من غيرها من الأفلام. يصنَّف الفيلم في قائمة الرُّعب النفسي، وتدور أحداثه حول رجلٍ هاربٍ من القانون يقرِّر الذَّهاب لمدينة Santa Rosa ليستقرَّ في بيئة ريفية ساذجة وغير متحضِّرة. يكون فيها العم تشارلي عبارةً عن شخصٍ هاربٍ يحوم حوله الشكّ بقضيَّة جريمة قتل تعرف بالاسم happy widow. لكنَّه ليس المشتبه به الوحيد مما يرفع من وتيرة الشك في الحبكة. يُترجم هذا الشك عملياً في أهم جزء من الحبكة ...الدرج!!! حيث يمكن المغادرة من خلال أي درج، وبهذا نصل بهذا الاكتشاف إلى درجة من الشك تجعل الجميع مشتبهاً بهم.

اُستُخدمت قضية الدرج في الفيلم للتعبير عن عنف الفراغ الداخلي للمنزل، حيث تُبَيَّن لنا الصعوبات المرافقة وقوع الشخص في وسطِ معضلةٍ ما، يُؤرجِحُه الشك فيها بين خيارين لا ثالث لهما. تطرح المعضلة نفسها في التصميم دائماً على شكل حالة من عدم التَّأكد، والتي يمكن اعتبارها بنفس الوقت استراتيجية تصميمية.اُعتبِرَ هذا النوع من التفكير ومعالجة الفراغات منطقياً وعملياً منذ ظهور عمارة الحداثة، التي دعت أيضاً إلى تحرير نفسها من العبء الثقيل الناتج عن خلق بيئات وزوايا تَستُرُ الشكَ المستمِّر.

في النهاية لا بد من الإقرار بعظمة وجَدَلية شخصية من طراز المخرج Hitchcock وقدرته على الاستفادة من العمارة وإبراز تأثيراتها على مشاعر متلقي ومستخدم الفراغ، بشكل يرسم طريقاً ومنهجاً مميزاً يشجع جلينا الجديد على السير وفق خطاه في الاستغلال المتعمد للمساحات والفراغات المعمارية، بهدف توليد أحاسيس وانفعالات معينة عند مستخدمي هذه الفراغات واعتمادها كاستراتيجيات تصميمية ناجحة.