الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة

سمات الوجودية - الجزء الثاني

الوجودية هي أن تكون حرًّا، أن تكون إنسانًا صاحب قرارٍ وإرادةٍ وكيان، أن تحيا حياتك بحق، أن تحدد وتختار خياراتك بنفسك، أن تدرك الموت وتتأهب له ولا تخشاه وتتمرد وتعيش، أن تتجرأ لتتخذ قرارًا ما في مسألةٍ ما، أن تعمل ما تحب، أن تحب من تريد وما تريد وكيفما وأينما ووقتما تريد، أن تخلق محيطك الذي ترغب، وأن تنسف القوالب الجاهزة المقيتة التي ورثتها دون حول لك ولا قوة، أن تتجلى بإنسانيتك وكينونتك بأبهى حُللِها، أن تكون أنت، أنت بكل مافيك.

يقول الوجوديون عبارة يرددونها دائمًا لفولتير: "كن رجلًا ولا تتبع خطواتي". إنَّ الفلسفة الوجودية حينما قامت، إنما جاءت ناقدة عاملة في اتجاه مضاد لتلك الحركات الجماعية وتلك الفلسفات التي تدعو إلى صبِّ الناس في محددات وبديهيات معينة من ناحية الاعتقاد والتفكير وأسلوب الحياة ونوع السلوك.

سنتناول الفلسفة الوجودية تلك التي قلَّت الأقلام التي تناولتها، وسنعرضها في سلسلة تتضمن تعريفًا لها؛ لماذا نشأت؟ وما موضوعاتها وسماتها؟

سمات الوجودية:

1- الإنسانية:

لا توجد نظرية عامة ينتمي إليها سائر الوجودين؛ لذلك هي أقرب إلى أن تكون أسلوبًا في التفلسف عن كونها فلسفة. إنها أسلوب أو طريقة في التفلسف تودي بمن يستخدمها إلى مجموعة من الآراء التي تختلف فيما بين معتنقيها أنفسهم، والوجوديون الثلاثة العظام (كيركجور، وسارتر، وهيدجر) خير شاهد على هذا التباين.

السمات العامة التي يتميز بها هذا الأسلوب في التفلسف عدّة، تتأتى من المبادئ التي تعتنقها الوجودية وتنطلق من أساسها.

إنّ أول سمةٍ تتميز بها الوجودية هي انطلاقها من الإنسان لا من الطبيعة، فهي فلسفة عن الذات أكثر من كونها فلسفة عن الموضوع. تتجنب الفلسفة الوجودية أن تكون ذات مذهب عقلاني ضيق؛ فالذات عند الفيلسوف الوجودي هي الموجود في نطاق وجوده الكامل، وهذا الموجود ليس ذاتًا مفكرة فحسب؛ بل هو الذات التي تأخذ المبادرة في الفعل وتكون مَركزًا للشعور والوجدان. ما تحاول الوجودية التعبير عنه هو هذا الموجود الكامل من الوجود، وهو الذي يُعرف مباشرة وعلى نحو عيني في فعل الوجود نفسه، ولهذا فإن هذا الأسلوب في التفلسف يبدو أحيانًا مضادًّا للأسلوب العقلي Anti-Intellectualist؛ فالفيلسوف الوجودي يفكر بانفعالٍ عاطفي كمن اندمج كله في وقائع الوجود الفعلية.

تقول الوجودية بأنه لا وجود لعالم أو كون بمعزل عن الإنسان. في فترة عدم وجود الإنسان كانت المجرات والصخور والأشجار، لكن هذا الوجود للأشجار والمجرات ليس وجودًا عند الوجوديين، فلا بد لتحقق مفهوم الوجود عندهم من مفهوم تنظيمي يأتي عن طريق الإنسان، ومن هنا أطلق اليونانيون القدماء على العالَم لفظة Kosmos التي تعني الكون المنظم. تتخذ الوجودية من الإنسان بدايةً بوصفه موجودًا وليس ذاتًا مفكرة، وهذا لأن الإنسان يوجد أولًا ومن ثم ينخرط في العالم ويعرف نفسه فيما بعد.

2- العاطفيّة:

تُعد هذه السمة من أعظم سمات الوجودية لأن هذا الموضوع أُهمل من قبل الفلاسفة في الماضي، لذلك اصطبغت المذاهب الفلسفية الأخرى بالطابع التقليدي.  يُنظر إلى العواطف في الفلسفات التقليدية بأنها غير مناسبة لمواضيع الفلسفة والبحث العلمي وبأنها عقبة في الطريق المثلى للمعرفة الموضوعية. أما الوجودية فقد عدَّت العواطف والأمزجة والمشاعر التي تظهر في الذهن البشري شيئًا مهمًّا وأساسيًّا، وعدَّت هذه المواضيع بعينها هي ما يجعلنا نندمج بكياننا كله في العالم، وهي التي تتيح لنا تعلُم أشياء لا نستطيع تعلمها عن طريق الملاحظة الموضوعية وحدها. وبذلك زودنا الوجوديون الثلاثة الكبار بتحليلات مشرقة للقلق والملل والغثيان وبينوا لنا بأنها حالات ذات مغزى فلسفي معين.

برزت أكثر الدراسات اتزانًا فيما يتعلق بالعواطف عند سارتر وهيدجر وريكور ومارسل الذين نظروا إلى المشاعر على أنها طريقٌ نصل بواسطته إلى الحقيقة الفلسفية؛ فالمشاعر ليست نقيضًا للعقل والفكر، إنما هي مصدر للاستبصارات. ليست الوجودية فلسفة للمشاعر، لكنها تعترف بأن للمشاعر مكانةً في النسيج الكليِّ للوجود البشري؛ فالمشاعر تُقدِّم إلينا مفتاحًا لفهم الوجود الذي يغلفنا ويحيط بنا وهو الذي يُدخِل وجودنا البشري في إطاره.

3- اللاماهية:

أتت الوجودية لتُعلي من شأن الوجود، فالماهية التي تتَّسم بالتجريد والكلية تُعدُّ أكثر سهولة من عمليات التفكير العقلي والتحليل والمقارنة، في حين أن الوجود يتصف باستعصائه على تلك العمليات. عبر تاريخ الفلسفة كانت الماهية هي التي تسيطر على التفكير، فكل التراث الغربي الذي بدأ من أفلاطون رفع من شأن الماهية على حساب الوجود. أتت الوجودية لتقلب المعايير وتُسلِّط الضوء على ما كان خافيًا سابقًا؛ ولذلك تتميز الفلسفة الوجودية بميلها إلى الوجود، فهي لا تبالي بماهيات الأشياء وجواهرها، ثم إنها لا تبالي بما يسمى بالوجود الممكن والصور الذهنية المجردة. إن غرضها الأساسي هو كلُّ موجود، أو بتعبير آخر هو كل ما هو موجود في الواقع والحقيقة.

يؤمن الوجوديون عمومًا بأن الوجود سابق على الماهية، وأن الذاتية تبدأ أولًا؛ إذ يقول سارتر: "إن الإنسان يوجد ثم يريد أن يكون، ويكون ما يريد أن يكونه بعد القفزة التي يقفزها إلى الوجود، والإنسان ليس سوى ما يصنعه هو بنفسه". إن الوجودي لا يهتم بوجود الوجود وحده، بتجريده مما هو، بل هدف الوجودي، كما يقول مارسيل: "إبراز وحدة الوجود والموجود، تلك الوحدة التي لا انفصام لها". ويقول أيضًا: "هذا الوجود الذي يتخذ جسدًا مشتركًا مع الموجود".

4- الجسد:

الجسد كوننا، لا نستطيع أن نوجد دونه؛ فقد ثارت الوجودية على إهمال الفلسفة للجسد في تراث الفكر الغربي. ساد الاعتقاد -من أفلاطون حتى ديكارت والمثالية الحديثة- بأن الحياة الحقّة والإنسان الحقيقي يتمثَّل في الداخل، والجسد عبارة عن شيء زائد أو مجرد هيكل. يرد الوجوديون على ذلك بشدة وبانتقادٍ بالغ، فهم يرفعون من مكانة الجسد ويسوقون أمثلة عديدة لذلك مثل؛ أي العبارتين أصح؟ إن جسمي عطشان، أم قولنا أنا عطشان؟ حتماً الثانية هي التعبير الحقيقي عن إحساسنا. إن اهتمام الفلسفة الوجودية بالجسد يتجه إلى الوعي المباشر بهذا الجسد بوصفه مكوِّنًا لوجود المرء في العالم، فالجسد -من الناحية الوجودية- هو طريقتنا للمشاركة في هذا العالم. (3)

كانت هذه أهم سمات الفلسفة الوجودية التي تميّزَت بها عن غيرها، ومفكروها وإن اختلفت طرائق معالجتهم للموضوعات العديدة التي سنتطرق إليها في جزئنا الأخير من هذه السلسلة، إلا أنّهم اجتمعوا عليها واتفقوا جميعًا فيها.

استُند في إعداد هذه السلسة إلى المراجع الآتية:

1- جون ماكوري، الوجودية، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، (الكويت: عالم المعرفة،1978).

2- ريجيس جوفيليه، المذاهب الوجودية، ترجمة فؤاد كامل، (بيروت: دار الآداب،الطبعة الأولى،1988).

3-هنا

4- توماس آرفلين، الوجودية مقدمة قصيرة جدًّا، ترجمة مروة عبد السلام، (دار الهنداوي، الطبعة الأولى،2014).

5- ماجد حسن، الفلسفة الوجودية، مجلة الحوار المتمدن، 2004 ، رقم العدد 802