التاريخ وعلم الآثار > تحقيقات ووقائع تاريخية

القرابين البشرية في العالم القديم (الجزء الأول) ... هل حقاً ضحى القرطاجيون القدماء بأطفالهم من أجل الآلهة؟؟؟

سيطرت الخرافات التاريخية على معظم شعوب العالم القديم، ولم يكن للعلم في تلك العصور مكان تعزى إليه الظواهر الغريبة، فلم تجد تلك الشعوب مفراً لها من نسب الظواهر تلك إلى قوىً خفية تكمن في الآلهة، ومن ثم إيجاد طرق لإرضائها، علها تنأى برضا تلك الآلهة عن الكوارث القادمة. ولكن هل وصل بهم الأمر إلى التضحية بأنفسهم أو حتى أبنائهم لإرضاء آلهتهم تلك؟ ما كانت دوافعهم حينها؟ وهل لنا في يومنا هذا من إيجاد حجة لتبرير تلك الممارسات؟ للتعرف على ذلك تابعوا معنا المقال التالي...

"التضحية بالأطفال" بالرغم من أنه يبدو أمراً غريباً وقاسياً في يومنا هذا، إلا أنه حدث بالفعل في فترات تاريخية قديمة. في هذا المقال، يقدم لنا جو جرينسليد تحقيقات حول الممارسات التي كان يقوم بها القرطاجيون القدماء عند التضحية بأطفالهم. هل قاموا حقاً بالتضحية بأطفالهم كقرابين بشرية وهم علی قيد الحياة؟ أم أنه كانت لديهم ممارسات أخری قد تكون إلی حد ما أقل شراً؟

نظرة عامة:

في العالم الحديث اليوم، تعتبر فكرة التضحية البشرية سلوكاً مَرَضِياً وأمراً مشمئزاً، إضافةً إلى كونه فكرةً مرفوضةً. وقبل أن نبدأ باستكشاف ما إذا كان القرطاجيون القدماء قد قاموا بالفعل بممارسة التضحية البشرية، وما هي دوافعهم لذلك، فإنه لمن الأهمية بمكان أن نستعرض العقلية التي كانت سائدةً لديهم. بدايةً لا يجب أن نحكم عليهم بمعاييرنا الحديثة اليوم، كما لا يجب علينا إدانتهم بتهمة جريمة قتل الأطفال قبل أن نكون قد اكتشفنا وبدقة الدلائل المقدمة.

إن شعوب العالم القديم لم تدرك العلم كما أدركناه نحن اليوم، فقد كان المبرر المنطقي لديهم في تفسير كل شيء هو الدين. فمثلاً لو أن وباءً تفشی في مكانٍ ما فالسبب هو عدم رضا الآلهة، ولو أنَّ المحاصيلَ الزراعيةَ لم تثمر فالآلهة أيضاً ليست راضية، ولو أن حملةً عسكريةً أخفقت فذلك بسبب أن قائد الحملة لم يقدم القربان الصحيح قبل أن يغادر. إذاً كان كل شيء لدی تلك الشعوب القديمة يسوغه الدين. وكان اليونان والرومان والقرطاجيون القدماء كلهم يعتقدون أنه يمكن إرضاء الآلهة من خلال تقديم القرابين. وعادةً ما كانت القرابين الفردية عبارة عن حيوانات صغيرة، في حين أن القرابين التي تكون برعاية الدولة هي عبارة عن حيوانات كبيرة كالبقر أو الثور، وعادةً ما كانت تتم طقوس القرابين هذه في مهرجاناتٍ خاصةٍ، فالجماهير كانت دوماً بانتظار أن تتناول اللحم في أعقاب تلك الاحتفالات.

وعلی الرغم من أن ممارسة تقديم القرابين البشرية لم يكن أمراً محبباً حتی لدى تلك الشعوب، فقد أصر جيلون حاكم سيراكيوز، والفرس أيضاً بطلبهم من القرطاجيين بالتوقف عن تقديم القرابين البشرية، إلا أن القرطاجيين استمروا بممارستها. وقد اشتهر الفينيقيون بذلك أيضاً، وهذا سيساعدنا في التوصل لأصول هذه الممارسة، حيث أن الفينيقيين كانوا قد أسسوا دولتهم بدايةً في شمال أفريقيا والتي أصبحت لاحقاً قرطاج، ويبدو أن القرطاجيين قد أخذوا علی عاتقهم مواصلة القيام بتقديم القرابين خلفاً لأسلافهم.

الدليل الأدبي:

تأتي الأدلة علی التضحيةِ بالأطفال كقرابينَ بشريةٍ علی شكل نصوصٍ أدبيةٍ وتاريخيةٍ، ويشيرهذا إلی أن القرطاجيين كانوا يمارسون طقوس القرابين البشرية حتی قبل سقوط قرطاج في معركتها ضد الامبراطورية الرومانية في العام 146 قبل الميلاد. ويوجد العديد من المصادر القديمة، معظمها رومانية، قامت بتأريخ ممارسات القرطاجيين في تقديم القرابين. فعلی سبيل المثال قام ديودوروس الصقلي بسرد تفاصيل هذه العملية. يصر ديودوروس في سرده علی وجود تمثال وجهت ذراعاه إلی الأسفل، وقد تم نصبه في حفرة من النار، يتم وضع الطفل داخل الذراعين ثم إفلاته حيث يتدحرج حتی أسفل الذراعين إلی أن يصل إلی حفرة النار. وقد كان إجراء هذه العملية يتم من أجل إرضاء آلهة القرطاجيين، ومن المرجح أن تكون تلك الآلهة هي تانيت أو بعل آمون.

أما بلوتارخ، وهو أحد كتاب السيرة اليونانية أثناء فترة الحكم الروماني، كتب أنه كان يتم شراء أطفال الشوارع واستخدامهم كقرابين بشرية. كما يخبرنا كوينتوس كورتيوس أن عادة تقديم القرابين البشرية لم تختفِ إلا مع نهاية دولة القرطاجيين، الأمر الذي قد يؤكد احتمالية أن القرطاجيين كانوا هم من مارسوا هذه الطقوس.

تكمن مشكلة اعتماد هذه النصوص الأدبية في أنها قد كتبت بُعيد انهيار دولة القرطاجيين بقليل، فقد كان أولئك الكُتاب ينحازون في كتاباتهم لصالح الدولة الرومانية، على اعتبار أن القرطاجيين كانوا أعداءً لها، إضافةً إلى أن أولئك الكتاب لم يعاصروا القرطاجيين، لذلك فقد اعتمدوا على مصادر أخرى سابقة لإكمال تشكيل صورة القرطاجيين. وأخيراً فقد فشل ليفي و بوليبيوس، وهم كُتاب أحد أهم المصادر في هذا الشأن، في التحدث ولو بشكلٍ موجزٍ عن قيام القرطاجيين بتقديم القرابين البشرية. ويعتبر هذا أمراً مهماً في حالة بوليبيوس لأن كتاباته كانت تتركز بشكل أساسي على صراع الرومان والقرطاجيين. وفي الحقيقة فإنه من المفترض أن يكون بوليبيوس في كتاباته منحازاً إلى جانب سيبيو (قائد روماني خاض العديد من الحروب ومنها تدمير قرطاج) عندما تم تدمير قرطاج عام 146 قبل الميلاد.

الدليل الأثري:

يعتبر الدليل الأثري أكثر فائدةً من الدليل الأدبي، حيث يمكننا لمسه بأيدينا، وكذلك فحصه ورؤيته. تتكشف مصادر الدليل الأثري من موقعٍ في قرطاج يعرف باسم "توفة"، حيث تم التنقيب عنه واكتشافه في العام 1921 من قبل جيلي و ايكارد. لقد كشفت أعمال التنقيب والحفر عن وجود العديد من الجرار المدفونة، والتي تحتوي على رمادٍ وعظام أطفالٍ رُضعٍ، إضافةً إلى وجود بعض بقايا الحيوانات، وبهذا الاكتشاف فقد كان من السهل التوصل إلى النتيجةِ النهائيةِ، فقد مارس القرطاجيون بالفعل عادة التضحيةِ بالأطفال كقرابين بشرية. كما تم تعزيز هذا الاعتقاد من خلال عمليات التنقيب لبعض شواهد الأضرحة، حيث عثر على أحد تلك الشواهد التي كتب عليها مبالغ النقود المعدنية التي دفعها الآباء الأثرياء بدلاً من التضحية بأطفالهم. وهذا قد يعزز أيضاً ما طرحه بلوتارخ من أنه كان يتم السعي لجلب أطفال الشوارع لتقديمهم كقرابين بدلاً من الأطفال الأثرياء، وربما قد يتم اختيار الأسر الفقيرة أيضاً لتقديمها كقرابين، كونها عاجزة عن تقديم المال. وتُظهر أحد شواهد الأضرحة افتخار أحد الآباء بتقديم ابنه كقربان، حيث كتب على تلك الشاهدة: "إن هذا الطفل لوجه الآلهة تانيت وبعل آمون فقد قدم بوميلكار ابن هانو وحفيد ميلكياتون ابنه من لحمه ودمه قرباناً لكم. فلتباركوه!". ويبدو من هذه الكتابة أن أولئك الأبوين قد نصبا تلك الشاهدة لإحياء ذكرى قربانهم.

إن الجانب المثير للقلق قليلاً في هذا الشأن هو أن الكتابة التي نقشت على الشاهدة لا تذكر حتى اسم الابن الذي تم تقديمه، وإنما تكتفي فقط بذكر اسم الأب وأجداده، ويبدو أن ذلك الفعل هو تعهد من الأب بالقيام به. كما يوجد شاهدةٌ أخرى نُقش عليها صورةٌ لكاهنٍ يحمل أحد الأطفال الرضع، على الأرجح، إلى حتفه. إن هذه المكتشفات في توفة تدفعنا للاعتقاد الكامل بأن القرطاجيين القدماء قاموا فعلاً بالتضحية بأطفالهم لتقديمهم كقرابين بشرية ضمن طقوسٍ خاصة، من أجل إرضاء آلهتهم.

وهكذا فإن الدليل الأدبي إلى جانب الدليل الأثري الملموس، لا يدعان مجالاً للفرار من إدانة القرطاجيين بهذا الفعل. ولكن تبقى هناك حجة مقنعة تصب في صالح القرطاجيين وقد تبرئهم من تلك التهمة.

المشكلة:

ما الذي يمكن أن يلقي بظلال الشك في وجه دلائل كهذه، سواءً الأدبية منها أو الأثرية؟ قد يتساءل أحدنا. إنه لمن الصعب بالفعل العمل على دحضها، ويقول جو جرينسليد "وإذا كان بإمكان أحدكم فعلاً القيام بذلك فله مني التحية! فقد أخذ مني ذلك وقتاً لا بأس به". هناك حجةُ تطرح نظرية أخرى، وهي أن يكون الأطفال الذين تم تقديمهم كقرابين بشرية، كانوا قد فارقوا الحياة قبل تقديمهم للتضحية. فلربما قدم بوميلكار ابنه كقربان لأنه مازال طفلاً رضيعاً، أو ربما لأنه توفي إثر إصابته بمرض أفقده حياته. ولكن ومع ذلك يبقى تقديم جثة طفله المتوفى شكلاً من أشكال العطاء، وهذه هي الحجة التي طرحها شوارتز في العام 2012. حيث يرى شوارتز في نظريته أن موقع توفة ذلك قد يكون مقبرةً للأطفال الرضع، أو الأطفال الذين فارقوا الحياة في عمر أكبر قليلاً، أو حتى للأجنة، حيث يرى أن الأطفال الذين تمت التضحية بهم كانوا قد فارقوا الحياة قبل تقديمهم كقرابين. وقد حاول إثبات نظريته تلك من خلال تفحص أسنان جثث الأطفال، وذلك من أجل التأكد من أعمارهم عند الوفاة، وعبر قيامه بذلك يشير شوارتز أن اكتشافه هذا مصحوباً بمعدل الوفيات المرتفع للأطفال والرضع آنذاك، ما هو إلا دليل على أن الأطفال كانوا قد فارقوا الحياة قبل تقديمهم للتضحية.

تعتبر الحجة التي قدمها شوارتز مقنعة، إلا أنها لا تغير شيئاً من حقيقة أن القرطاجيين القدماء كانوا يؤمنون بأن إرضاء آلهتهم يكون بإحراق الأطفال، سواءً كانوا أحياء أو أموات. وإذا كان الأمر هكذا فعلاً فقد نغفر للمصادر القديمة اعتقادهم بأن القرابين التي تم تقديمها كانت على قيد الحياة، لأن الأمر قد يكون كذلك بالفعل، وهذا يحتمل أن تكون حجة شوارتز خاطئة. وسواءً كان الأطفال أحياء أو أموات لدى وضعهم في ذراعي التمثال ومن ثم إرسالهم إلى حفرة النار، يبقى الأمر بالنسبة لنا أمراً غامضاَ. وسندع لكلِ واحدٍ منكم حرية اتخاذ القرار في هذا الشأن.

لقد كان العالم القديم عالماً مليئاً بالقسوة، غير أنه لا يتوجب أن نحكم على القدماء بذلك، فعادة تقديم القرابين البشرية مازالت تجد لها مكاناً في عالمنا الحديث اليوم. إن الطقوس الهندوسية التي تقام في ساتي، على سبيل المثال، حيث يتم إحراق زوجة المتوفى وهي على قيد الحياة في آنٍ معاً أثناء حرق جثة زوجها، مازالت قائمة في العصر الحديث.

ولربما كان عالمنا الحديث اليوم لا يختلف كثيراً عما كان عليه سابقاً.

المصدر:

هنا=